يحاول عمر عاشور، الأستاذ المشارك في الدراسات الأمنية والاستراتيجية، في كتابه البحثي "كيف يقاتل تنظيم الدولة "داعش"؟.. التكتيكات العسكرية في العراق وسورية وليبيا ومصر"، الصادر حديثًا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، تقديم إجابة عن سؤال كيف استطاع تنظيم الدولة "داعش" الصمود في هذه الدول على الرغم من قوة الجيوش النظامية التي دخل في مواجهة معها منذ إعلانه إنشاء الخلافة في سوريا والعراق في عام 2014.
إذ إنه على الرغم من توصّل معظم الدراسات إلى خلاصة توضح أن قوة ونفوذ التنظيم كانت ضيئلة مقارنة بخصومه من الدول وما دونها، فإنه استطاع توسيع دائرة نفوذه من محافظة حلب في سوريا وصولًا إلى محافظة ديالي في العراق على منطقة تبلغ مساحتها 600 ميل، كما أن هزيمة "تنظيم الدولة" في سوريا والعراق لم تؤدِ إلى تدميره كليًا بل استطاع المناورة والتحوّل والضرب والابتكار في أماكن أخرى"، بما في ذلك شمال أفريقيا وجنوب آسيا، مثبتًا بذلك أنه "أكثر مرونة" عن غيره من باقي التنظيمات.
قراءة مختصرة لأسباب صعود "تنظيم الدولة" عسكرياً
يرى عاشور في مستهل الفصل الأول من هذا الكتاب أن "تنظيم الدولة" تحدى "الأدبيات المتوافرة التي تتناول كيفية وأسباب نجاح الفاعلين المسلحين دون الدولة الضعفاء في هزيمة المؤسسات المسلحة للدولة الأقوى منهم أو الصمود أمامهم"، مشيرًا إلى أن التنظيم ليس حالة فريدة من نوعها في طرح هذا التحدي "لكن كيفية صموده وأسبابه فريدة"، ويعود ذلك إلى أن الاختراقات العسكرية التي حققها التنظيم ما بين عامي (2013 – 2017) في مواجهة خصوم يفوقونه في القوى البشرية والعسكرية، مظهرًا أنه أمر لا يمكن مقارنته بحركات التمرد العسكرية التي شهدت ارتفاعًا مطردًا منذ الربع الأخير من القرن الـ20.
يعود عاشور في دراسته للأسباب التي ساهمت بصمود "تنظيم الدولة" كل هذه الفترة الزمنية إلى الأدبيات المتعلقة بـ"الفاعلين العسكريين دون الدول"، وهي من المصطلحات التي يُصنف – عاشور – "تنظيم الدولة" ضمنها، حيثُ يشير إلى أن الباحثين قدموا مجموعة واسعة من التفسيرات بشأن الاختراقات العسكرية التي حققتها مثل هذه الجماعات، بما في ذلك "تنظيم الدولة" طبعًا، موضحًا أن هذه الأدبيات ركّزت على "السكان ونمط النظام الحاكم والجغرافيا والدعم الخارجي والأهداف والتكتيكات والاستراتيجيات".
ويوضح عاشور أن التفسيرات الأربعة الأولى تعرف باسم "المتغيرات التقليدية"، وذلك بالنظر إلى أنها "جوهر التفسيرات الكلاسيكية لكثير من انتصارات المتمردين"، وهو يخلص في مناقشته لمجمل هذه التفسيرات إلى أنها قدمت مساهمات مهمة "في فهمنا للكيفية التي يمكن من خلالها أن يهزم المتمردون الأضعف القوات النظامية الأقوى، أو محاربتها حتى الوصول إلى حل وسط"، ويرى أن عناصر عدة من هذه التفسيرات تنطبق على ولايات "تنظيم الدولة" في الدول العربية التي يناقشها هذا البحث، بالإضافة طبعًا إلى مناطق أخرى في مراحل ونقاط زمنية مختلفة.
قبل أن يذهب عاشور في الفصل الثاني من الكتاب لمناقشة ظاهرة "تنظيم الدولة" في العراق يخلص إلى فرضيتين رئيستين في تحليله لأسباب صمود التنظيم، حيثُ يستند في تحليل هاتين الفرضيتين إلى "المستوى المتوسط" أو ما يعرف بـ"المستوى التنظيمي"، إذ تشير الفرضيتين إلى أن صمود التنظيم ضد جيوش الدول التي واجهها سواء أكان على المستوى التكتيكي والعملياتي أو على مستوى تبديل الاستراتيجيات، كان سببه "التبديل الناجح بين الااستراتيجيات" و"الجمع المبتكر بين التكتيات"، بالإضافة إلى نهج التنظيم في هاتين الفرضيتين الذي يجمع بين "الحرب التقليدية وحرب الغوار والإرهاب".
كيفية صمود "تنظيم الدولة" في العراق
حتى ما قبل عام 2014 كان "تنظيم الدولة" لا يزال يُعرف باسم "تنظيم الدولة في العراق"، قبل أن يشهد يونيو (حزيران) من العام عينه استيلاء التنظيم على العديد من المدن العراقية، بما في ذلك الموصل التي شهدت إعلان زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي تأسيس ما صار يُعرف بـ"دولة الخلافة"، ويرى عاشور أن صعود التنظيم في المدن العراقية جاء "نتيجة مباشرة لحشد عسكري كبير، وابتكارات تكتيكية في الإرهاب الحضري، وتبديل عملياتي بين الحرب التقليدية وحرب الغوار".
من بين الأمثلة التي أوردها عاشور حول التبديل العملياتي نجد أن التنظيم امتلك "ما يكفي من الموارد لتنفيذ 1112 تفجيرًا انتحاريًا، منها 842 بوساطة عربات ملغمة انتحارية"، وأن ولايتي نينوى والأنبار اللتين استولى عليهما التنظيم نفذ فيهما ما مجموعه 507 تفجيرات على التوالي، وفي تعليقه على هذه الإحصائية يرى عاشور أنه "لم يسبق أن امتلك هذه القدرة أي فاعل مسلح دون الدولة في عالمنا المعاصر"، حتى المقارنة بأسلاف "تنظيم الدولة" الذين نشأ على أساسهم التنظيم، فإنهم كانوا أيضًا يفتقرون إلى هذه القدرة القتالية.
كما يبرز واحد من الأسباب المهمة التي ساعدت التنظيم على الصمود في العراق وهو بناؤه "تدريجيًا نظامًا ثابتًا للتزود بالأسلحة وإنتاجها" جمع فيها بين "البحث والتطوير والإنتاج الضخم والتوزيع المنتظم للمنتجات والمعارف التقنية لتضخيم قدرة التنظيم على الصمود وقوته، فضلًا عن تعزيز المهارات العسكرية لعناصره"، بالإضافة طبعًا للقدرات التقليدية التي امتلكها التنظيم، والمصنفة على أنها من "أشد حرب الغوار تعقيدًا"، ويرى عاشور أنه "لم يسبق أن امتلكها أي فاعل مسلح دون الدولة في المنطقة والعالم".
ويذكر عاشور في هذا الفصل أربعة من السمات الهيكيلة المتغيّرة والقابلة للتكيّف التي ساعدت على صمود التنظيم قرابة خمس سنوات في العراق، والتي يمكن تلخيصها على التوالي بـ: التزام عناصره وتركيزهم على التخصصات والمهمات؛ بناء التنظيم للتراتبية التكتيكية والعملياتية على أساس الحاجة والعرف، لا على أساس اللوائح الداخلية؛ تنويع التنظيم باختيار مقاتلين من قطاعات مختلفة وزجهم في معارك قطاعات أخرى لاقتسام الخسائر؛ وأخيرًا درجة الاعتماد على الذات بغض النظر عن الهياكل التنظيمية السريعة التغيير.
"الوثبة" من العراق إلى سوريا
تختلف الحالة التي ظهر فيها "تنظيم الدولة" في سوريا عن التجربة العراقية من ناحية أن ظهوره في سوريا كان على خلفية إعلان أبو محمد الجولاني في شريط مسجل تشكيل "جبهة النصرة" التي تتبع في هيكليتها لدولة العراق الإسلامية في عام 2012، وبمساعدة من تنظيم الدولة في العراق استطاعت جبهة النصرة أن تطور قدراتها القتالية بسرعة، لكن إعلان البغدادي أن النصرة جزء من تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام في أبريل (نيسان) 2013 غير من معادلة التحالف بين التنظيمين، حيثُ رد الجولاني بأن النصرة جزء من تنظيم القاعدة في سوريا، وهو ما أدى في نهاية الأمر إلى تسارع وتيرة صعود التنظيم في سوريا، فضلًا عن إشعال حرب فوضوية بين الطرفين.
ومع ذلك، فإن هذه الحرب الفوضوية لم تمنعهما من التحول إلى جهات مسلحة فاعلة في الحالة السورية الراهنة، بعدما استطاع "تنظيم الدولة" أن يوسع نفوذه في سوريا ما بين عامي (2013 – 2014) باعتماده على استراتيجية "نقل المعرفة" بوساطة عدد من القادة والمنصات، بما في ذلك معسكرات التدريب التي درس فيها مزيجًا من تكتيكات الحرب التقليدية وحرب الغوار والإرهاب، حيث لجأ التنظيم بعد سيطرته على مدينة الرقة أولًا في عام 2014 إلى تطوير استراتيجيته العسكرية، بما يشمل الدعم الناري بالصواريخ وتنفيذ عمليات الاستطلاع بالمسيرات، وهو الأمر الذي كان له الدور بسيطرة التنظيم على نحو 50 بالمئة من الأراضي السورية حتى ما قبل عام 2019.
عند مناقشته لحالة ظهور "تنظيم الدولة" في سوريا، يرى عاشور أن التنظيم أثبت أن لديه "مرونة وتكيّفاً عاليين"، إذ إنه على الرغم من فشل كثير من العمليات التي شنها، فإن "فئات التكتيكات العديدة التي استخدمها كانت فعالة إلى حد كبير"، كما أظهر مقاتلوه في مراحل وأطر زمنية مختلفة في معارك مدينتي الرقة ودير الزور "مبادرات مستقلة وارتجالًا مبتكرًا"، بينما أظهر على المستوى العملياتي قدرته على "بناء قوة عسكرية وحشدها بسرعة من لا شيء تقريبًا"، وساعده في ذلك اعتماده على خمس ركائز في تشكيل قوته هي: "جمع المعلومات الاستخبارية، الاستيعاب/التجنيد، النهب، القيادة، ونقل الخبرات".
تكرار وانهيار وخداع للبقاء في ليبيا وسيناء
لا تختلف تجربة التأسيس لـ"تنظيم الدولة" في ليبيا بكثير عن تجربة نشوء التنظيم في سوريا، كما يرى عاشور طبعًا، الذي يشير إلى أن الحشد العسكري للتنظيم اتخذ مسارًا مشابهًا لتجربته في سوريا، حيث بدأ التنظيم بتطوير قدراته تدريجيًا في ليبيا منذ منتصف عام 2014، كما أن توسّع التنظيم في ليبيا حدث "على الرغم من نقص الدعم المحلي وعدم وجود رعاية من دولة وغياب الجغرافيا الداعمة"، فاعتمد التنظيم في عملية توسّعه في الأراضي الليبية على الركائز الخمسة ذاتها التي اتبعها في استراتيجية توسّعه في الأراضي السورية، وبالتأكيد يضاف إليها اعتماده على المقاتلين القدامى الذين قاتلوا سابقًا في سوريا والعراق.
في تحليله للتكتيكات العسكرية التي استخدمها التنظيم في ليبيا يوضح عاشور أن التنظيم أظهر "قدرة عالية وسريعة على بناء قدراته العسكرية وحشدها"، وهو يشير هنا إلى تبديل التنظيم لاستراتيجياته التي اتبعها في معارك السيطرة على درنة وسرت "ما بين أساليب الحرب التقليدية وحرب الغوار والإرهاب لتجنّب إبادته"، وبحلول نهاية عام 2014 "استطاع التنظيم الابتكار عملياتيًا وتكتيكيًا لإحداث العديد من الاختراقات ضد أعداء أقوى منه نسبيًا"، وهي من الابتكارات التي وصلت إلى قادته ومقاتليه عن طريق "نقل المعرفة"، بما يشمل "تعديلات وتحسينات في تكتيكات الإرهاب الحضري وحرب الغوار وكذلك التكتيكات العسكرية التقليدية".
أما على الجانب المصري من ناحية ظهور التنظيم في سيناء، فإن عاشور يعتبر في هذا السياق أن صمود واستمرارية وجود التنظيم فيها يعد أكثر إثارة للاهتمام، وهو يوضح هنا بأنه "ليس منبع الأسئلة أن موارد ولاية سيناء أقل بكثير فحسب، بل لأنها تقاتل جيشًا محليًا أضخم منهم بكثير وأشد مركزية أيضًا"، وذلك بالنظر إلى التمويل العسكري المقدم للجيش المصري من قبل الولايات المتحدة، فضلًا عن السعودية والإمارات، وفي هذه الناحية يوضح عاشور بالقول: "عانت ولاية سيناء نقاط ضعف بنيوية كبيرة، ولذلك حادت في استراتيجيات البناء العسكري والبقاء" بعيدًا عن استراتيجية التنظيم في الدول التي تناولها هذا الكتاب.
ويعتبر عاشور في تحليله لحالة ظهور التنظيم في سيناء المصرية أن من بين الأسباب الأخرى التي تثير أسئلة بقاء وتمدد التنظيم في سيناء هناك الأسئلة المرتبطة بالتضاريس الجغرافية للمنطقة ذاتها، بالإضافة إلى عدد سكان سيناء القليل نسبيًا، الولاءات المنقسمة بين المجتمع السكاني العشائري، وعدم حصول التنظيم على أي دعم من أي دولة أو حكومة إقليمية؛ ومن هذا الجانب يخلص عاشور إلى أن من العوامل الحاسمة لأسباب صمود التنظيم في سيناء كان سببها "البناء الناجح نسبيًا للقدرات العسكرية لولاية سيناء" انطلاقًا من أسلاف التنظيم في القرن الـ21 وصولًا إلى المرحلة الحالية، فضلًا عن تكتيكات التنظيم السابقة التي جمع فيها بين حرب الغوار والإرهاب الحضري.
على سبيل الخاتمة..
يصل عمر عاشور في كتابه التحليلي "كيف يقاتل تنظيم الدولة "داعش"؟" – الذي حاولنا التنويع في قراءة فصوله – إلى خلاصة يرى فيها أن "تنظيم الدولة" أظهر "مستويات غير مسبوقة من البراعة في الابتكار التكتيكي، والقدرة على التكيف في التبديل الاستراتيجي، والفاعلية النسبية في القتال"، وهو بذلك اتبع "نموذجًا شرسًا" تكرر لخمس مرات ما بين عامي (2004 – 2019)، والتي كانت تبدأ عادة "بصعود تنظيم الدولة وأسلافه من التنظيمات وتمددها، ثم الصمود، ثم إضعافه"، لكن من دون القضاء عليه، وهو ما يرى في النهاية أنه إذا كان "تنظيم الدولة" قد فشل في "فن إدارة الحرب"، فإن "من شأن ما أظهره في [فن القتال] أن يغيّر فهمنا لحروب التمرد لسنوات عديدة مقبلة".