يسلط الأدب الأميركي المعاصر الضوء على الكثير من مخاطر الهجرة إلى أرض الميعاد، فهو يصور كيف تنحدر تلك البلاد يوماً بعد يوم لتمثل أنماطاً جديدة من الهمجية، حيث يتم فصل الأهل عن أولادهم الرضع، وتحول قصاصة من الورق حياة شخص بكاملها إلى "غريب ليست لديه وثائق ثبوتية"، فضلاً عن إطلاق النار العشوائي على الجموع الذي أصبح أمراً شائعاً، فقد ترك الآلاف منا بلدانهم الأصلية ليستقروا في أميركا، ولكن هل العيش هناك يعتبر بطاقة سفر لمستقبل أفضل؟
في رواية يارا زغيب: لا أرض لنستنير منها، تتحدث الكاتبة عن زوجين سوريين شابين، وهما سما وهادي، حيث يسافر هادي إلى الأردن ليجري الترتيبات اللازمة من أجل جنازة أبيه. ويوم عودته، المصادف 28 كانون الثاني 2017، تذهب سما إلى المطار لتستقبله، فتصادفها العديد من المظاهرات التي خرجت ضد قرار دونالد ترامب القاضي بمنع دخول الأشخاص الذين يحملون جنسيات تعود لسبع دول ذات غالبية مسلمة. وهكذا، حرم هادي من دخول الولايات المتحدة كما هو متوقع، وهذا ما فرق بينه وبين أسرته رغماً عنهم.
بيد أن الهجرة تعتبر طريقة طبيعية من طرق العيش، وذلك لأن الغذاء والمأوى من الأسباب الرئيسية التي تجعل أي شخص يحلم بالهجرة إلى دول العالم المتحضر، إلا أننا نقيم فيما بيننا حدوداً اعتباطية، فنخاطر بذلك بأرواح البشر.
رواية يارا زغيب: لا أرض لنستنير منها
في الفصول التي تنسج الماضي بالحاضر، تروي زغيب تلك المحاولات اليائسة التي قام بها الزوجان من أجل البقاء، وكيف فكرا بطريقة ليعيشا معاً من جديد، وتشمل تلك الطرق الاستعانة بوثيقة سفر اللاجئ التي يحملها هادي، والاستمارة رقم أولاً-131، وشهادة الزواج، وعقد العمل، وغير ذلك من الوثائق الرسمية التي انتهى مفعولها فجأة في الولايات المتحدة.
وبات على هادي أن يخضع لمقابلة متعبة مع ضابط اتهمه بأنه إرهابي. وهكذا تعرض هادي لمعاملة خشنة، وجرد من صفة إنسان، كما أجبر على التوقيع على أوراق تخلع عنه صفة اللجوء طوعياً، وتجعله يلتحق بأول طائرة تقله إلى سوريا. لم تتحمل سما نبأ ترحيل هادي، ولذلك فاجأها المخاض قبل الأوان، وفي الوقت الذي كان هادي فيه يحارب من أجل حقه بالعيش، اكتشفت سما بأن طفلهما الذي ولد حديثاً كتب عليه أن يحارب من أجل الحياة.
لقد عرت زغيب أزمة اللاجئين وآثار قانون حظر السفر من خلال قصة حب، حيث أوضحت قدرة المشهد الاجتماعي السياسي حتى في أميركا على قتل الملونين من البشر المهاجرين من دول أخرى، إلا أن ذلك لم يبث الرعب في نفوس أي منهم حد الإذعان والاستسلام، ولهذا تركز زغيب على الحب بين صفوف الشباب، فالحزن الذي اعترى سما وهادي لا يحتمله قلب، إلا أنهما لم يجدا طريقة أخرى للتعايش مع هذا الحزن بدلاً من تحمله.
وفي النهاية نكتشف بأن النصر ليس حليفاً لمن بوسعهم أن ينزلوا بغيرهم أشد العذاب والألم، بل حليف لمن يعانون أشد العذاب.
تتعقب رواية باتريشيا إنجل التي تحمل عنوان: بلد لا متناه، الأوضاع المتفاوتة والمختلطة لأسرة مهاجرة، بما أن حياة تلك الأسرة تنقلب رأساً على عقب على الحدود وبسبب سياسات الهجرة القاسية التي يصوغها النواب والمشرعون الذين يعيشون حياة بعيدة كل البعد عن روح الشعب وضميره.
إذ يسير الفصل الأول بحسب منحنى القصة، عندما يتعقب حكاية تاليا التي تبلغ من العمر 15 عاماً والتي ولدت في أميركا لأبوين مهاجرين من كولومبيا، لكنها ترعرعت في بلد والديها الأصلي، لكنها تهرب من المدرسة الإصلاحية المقامة في مرتفعات كولومبيا.
وهنا تتطرق إنجل إلى موضوع الإجرام والأخلاق في الفصل الأول فقط، ثم تعود لتذكر هذا الموضوع طوال الرواية، وهذا ما يجعل القراء يتأملون بالمفاهيم والأفكار، مثل من يحق له منح صفة "مجرم" وعلى من، وهل ثمة مقياس عالمي شامل للإجرام؟ وإلى أي مدى يتوقف الأمر على بوصلتنا الذاتية الأخلاقية ومصالحنا الراسخة؟ وما الذي يطلق العنان للشر غير العادي في حياة البشر العاديين؟ وما شابه ذلك من الأفكار.
رواية باتريشيا إنجل: بلد لا متناه
تستهدف الدولة الرجال بالمقام الأول، وذلك بناء على القاعدة التقليدية القائمة على التمييز ما بين الجنسين والتي تعتبر الرجل المعيل الأساسي للأسرة من الناحية المالية، وهنا لا بد من الاستشهاد بما قاله نيثن روتشتاين: "التحيز التزام عاطفي بالجهل"، وذلك لأن استبعاد الآباء من المعادلة يخل بالنموذج القائم على وجود زوجين برمته. ولهذا عندما تترك لإيلينا والدة تاليا تلك المهمة الشاقة المتمثلة بالدفاع عن أولادها وحدها، يجدها القراء وهي تتساءل عما إذا كانت ستنجب المزيد من الأولاد شريطة السماح لزوجها ماورو بالبقاء في أميركا.
تقوم إجراءات الهجرة القاسية على ذلك الخوف غير المبرر من تحول السكان المهاجرين إلى خطر على الثقافة بسبب تكاثرهم بطريقة بيولوجية. وهنا نجد ماورو، وهو مدمن على شرب الكحوليات يحاول التعافي منها، يفكر بتمعن في أغلب الأحيان بخيارات حياته ويعتبر نفسه فاشلاً لأسباب خارجة عن إرادته. ولذلك يعتبر كتاب إنجل بمنزلة نقد اجتماعي للخسائر المادية والعاطفية على حد سواء والتي يلحقها كل من الاحتجاز والترحيل بضحاياهما. كما تتحدث الكاتبة عن الخوف على المستوى النفسي من المداهمات التي يقوم بها جهاز الشرطة ضد العائلات المهاجرة والتي يتعين عليها التعود على ذلك الوضع. ولذلك واظب ماورو وإيلينا على الانتقال من بيت إلى آخر، وبالغا في السهر والترقب لدرجة أصبحا معها مريضين بالشك بعدما أصبحا يدققان بكل تصرف يقومان به لئلا يثير أي استغراب أو تساؤل ولذلك أصبح كل منهما ضحية لنقمة بلد يحمل عداء قائماً على أسس غير منطقية تجاه أي شخص ملون.
إن الحاجة إلى البحث عن حياة أفضل تمثل دافعاً لدى بني البشر، ولكن ما هي الوعود التي تحملها أميركا والتي تضمن الأمان والرخاء لكل المهاجرين القادمين إليها؟ إن الهجرة في الأدب الأميركي المعاصر تجعلنا ندرك بأن حركة العاصفة والاندفاع التي تمثل مأساة على الصعيد السياسي والشخصي والتي أتت في السابق رداً على حركة التنوير المبالغة بعقلانيتها ما هي إلا حالة بشرية عامة، لا تقتصر على حدود كولومبيا أو سوريا، فكيف تعلمنا نحن البشر أن نعيش بلا ثبات ونبات من دون أن نخلف صبياناً وبنات؟!
المصدر: بوك ريوت