تستحق ردود الفعل التي صدرت من أفراد يحملون صفة المؤثرين بين الفئات المؤيدة للنظام أن تُدرس وتحلل، وفق أرفع معايير ومنهجيات تفكيك الذات البشرية، بكل ما يحتويه تكوينها المعقد من نزعات وغرائز! وربما يمكن بقليل من التمحيص إدراك الدور التدميري لعقيدة السلطة في جعل فئات مجتمعية فقيرة تنقاد لأن تصبح أدوات متاحة لممارسة كل ما يخدم وجود واستمرارية الفئة الحاكمة.
فبعد كل ما جرى من جرائم قتل فردي وجماعي على الأرض السورية، بسبب رغبة عائلة الأسد بالبقاء على رأس السلطة، مازال هناك أشخاص من فئات متعددة يبرز منها الفنانون، يطلبون من رأس النظام وجيشه بوضوح وصراحة لا أن يقتل معارضيه فقط، بل أن يقوم بإبادة جماعية تشمل كل من يسكن محافظة إدلب أو منطقة الشمال الغربي الخارجة عن سيطرة قواته!
لم يأتِ هؤلاء المحرضون على الإجرام إلى المشهد فجأة، بل كانوا وما زالوا يعيشون بيننا، كنا نراهم قبل الثورة، ونستظرف أحاديثهم، ونستمع لأغانيهم، ونشاهد مسلسلاتهم، ونقرأ مقالاتهم، وربما كنا نقف معهم على طابور الخبز، وربما سبق لهم أن شاركونا مقاعد الدراسة، وربما كنا أصدقاء فعليين، نعمل معاً، وبيننا صحبة، نتشارك فيها الطعام والشراب، والهمس، وربما الأحلام!
لكننا نتعرف إليهم الآن من جديد، وقد باتوا شخصيات مختلفة، جرى تعديل عقولها، وبما يجعلها قابلة للاستخدام في حربٍ لن تكسب فيها سوى الموت، أو البكاء على أحباب ذهبوا ضحية لها!
نظام الأسد أملى على السوريين ومن أجل تأبيد صراعهم فيما بينهم، بعد تثبيت انتصاره على شعبه الذي انتفض ضده، أن ينقسموا بين مستفيد من دم قتيله، وبين آخر لا يستفيد
الأصل في مسارات الحلول التي تسهم في إطفاء نيران الحروب الأهلية والصراعات، لدى مجتمعات حدث فيها ما يشبه واقع الحال في المجتمع السوري، أن يشعر أهالي الضحايا من كل الفئات المتصارعة، بأنهم يدفعون أثماناً كبيرة من وراء سقوط أقاربهم من الدرجة الأولى قتلى، أي موت الأب أو الأم أو الأخ والأخت.. إلخ. وأن الحرب إن استمرت ستجعل الجميع يخسر مجدداً.
لكن نظام الأسد أملى على السوريين ومن أجل تأبيد صراعهم فيما بينهم، بعد تثبيت انتصاره على شعبه الذي انتفض ضده، أن ينقسموا بين مستفيد من دم قتيله، وبين آخر لا يستفيد، فالذين قاتلوا لنصرته يأخذون الميزات، بينما من ثاروا ضده يفقدون كل شيء، فيموتون قتلاً أو سجناً أو تشريداً، وتصادر أملاكهم، لتُمنح -بحسب مطالبات بعض فاشيي مجلس الشعب في وقت سابق- لعائلات "شهداء" النظام!
كما أن درب المعارضة، لا يحتمل العودة أبداً، وإذا قرر أحد ما أن ينهي معارضته، فإن عودة التائب مشروطة بتقبيل البوط العسكري، أي إعادة تكوين مشهد الإذلال في نفسه، وقبوله بذلك والمضي أكثر فأكثر في الدفاع عنه، وليصبح أسدياً أكثر من الأسديين أنفسهم!
والأمر هنا يشبه محاولة المرء إعادة تشكيل حمضه النووي، ليكون مستعداً في أي لحظة للخضوع لفحص كينونته الوطنية، غير المختلطة بدماء الخونة، الذين كانوا السبب في دمار سوريا!!
تقول تجارب الشعوب إن السلام يُصنع على الأرض من قبل أهالي الضحايا من كل الفئات المتناحرة، لكن الكارثة الأكبر تأتي حينما يكرس الأسد وجوقة إعلامه لدى عائلات من قاتلوا لصالحه، وباتوا أشبه بمافيا متضامنة مع مصالحها في النظام، وهماً كبيراً عن انتصار مزعوم ضد المؤامرة الكونية!
لقد وضع في عقول مؤيديه حلقات راسخة تجذرت مع الزمن، يسهل له من خلالها قيادتهم كقطيع، تبدأ بما يظنون أنه تفوق حضاري وثقافي يميزهم عن معارضيه "المتخلفين الرعاع"، ولا تنتهي باعتقادهم أنهم يمثلون الأصل في وجود سوريا، التي امّحت ملامحها بين الشعب وبين النظام الذي يلبس لبوس الدولة، إذ إن هؤلاء يعتقدون أنهم هم الشعب والدولة في آن معاً، وربما كانت عبارة "نحن الدولة ولاك" تعبر عن هذا النابض الذهني!
أغدق بالميزات على من حمل السلاح ليدافع عنه، ومنحه النقود، ووضعه في مرتبة أعلى من الناس العاديين، لتصبح أفعاله الخارجة عن القانون (التشبيح والقتل والسلب والنهب) بلا محاسبة
وقد أراد دائماً لهؤلاء أن يتورطوا أكثر فأكثر في اعتقادهم أنهم جزء منه (من عضام الرقبة) وأنه جزء منهم، فأغدق بالميزات على من حمل السلاح ليدافع عنه، ومنحه النقود، ووضعه في مرتبة أعلى من الناس العاديين، لتصبح أفعاله الخارجة عن القانون (التشبيح والقتل والسلب والنهب) بلا محاسبة، ويغض النظر عنها حتى إشعار آخر، وإذا ما قُتل واحدٌ من هؤلاء يمنحه رتبة عسكرية غير ذات قيمة هي (ملازم شرف)، ليصير "شهيداً" يحق لأفراد عائلته أن يطالبوا بسلسلة من ميزات شرعها الأسد وأصدر فيها مراسيمَ، فيتم مثلاً توظيف أشقاء القتيل أو أولاده، في مؤسسات الدولة، وتمنح عائلته راتباً، ويحق لها المطالبة بسكن شبه مجاني، وغير ذلك من الجعالات، التي تبدو في أعين هؤلاء قيّمة ومهمة، ولكنها في ميزان الواقع تافهة وتعتبر من سقط المتاع، إذا ما قورنت بدم الإنسان وروحه التي أزهقت في سبيل أن يبقى الأسد متربعاً على كرسيه، يحكم شعب سوريا بالحديد والنار.
وبالمقارنة مع ما يتلقاه الثائر ضد النظام من نتائج عن أفعاله السيئة، يمكن توقع كيف تبنى سلسلة الفوائد لدى المؤيدين الذين قتل أفراد من عائلاتهم دفاعاً عن الأسد، أفكاراً عن أن تغير الحال سيؤدي إلى خسارة هذه المكتسبات، لا بل إن إنهاء هذا الواقع وإمكانية عودة اللاجئين ستسهم في فقدانهم لما حصلوا عليه، فهؤلاء يدركون أن الشواغر التي يتم تعيينهم فيها كان يشغلها موظفون سوريون تم فصلهم أو طردهم بسبب مواقفهم السياسية، أو غادروا البلاد مرغمين، وكذلك فإن المال الذي تمنحهم الدولة إياه كتعويضات، هو مال مسحوب بغير وجه حق من الخزينة العامة، لتصبح القاعدة الذهنية التي يتم تكريسها لدى هؤلاء واضحة؛ أنتم تستفيدون، وستظلون كذلك طالما كان النظام قائماً وطالما ظل المعارضون نازحين أو لاجئين خارج البلاد، محرومين من حقوقهم التي ينص عليها القانون، ومن أجل ألا يقلق أحد على مستقبله، يمكن لعمليات الإبادة المتنقلة هنا وهناك أن تحل المشكلة من أساسها!