شنت خلية قصف سرية أميركية الآلاف من الغارات وأطلقت مئات الصواريخ ضد تنظيم الدولة في سوريا، ولكن خلال قصفها للأعداء، تهربت تلك الفرقة الغامضة من الضمانات وقتلت مدنيين في مرات متكررة بحسب ما ذكره العديد من مسؤولي الاستخبارات والجيش في الولايات المتحدة.
وتعرف هذه الوحدة باسم تالون آنفيل، وقد عملت ضمن ثلاث ورديات على مدار الساعة بين عامي 2014-2019، حيث كانت تحدد الأهداف التي يتعين على القوات الجوية الأميركية الهائلة أن تقوم بقصفها، مثل القوافل والسيارات المفخخة ومراكز القيادة والفرق المعادية التي تضم مقاتلين.
إلا أن من تعاملوا من خلية القصف ذكروا بأنها في غمرة سعيها لتدمير أعدائها، كانت تتحايل على القواعد المفروضة عليها لحماية المدنيين، وهذا ما أثار ذعر شركائها في الجيش والاستخبارات، وذلك بسبب قتلها للناس الذين لم يضطلعوا بأي دور في النزاع، مثل الفلاحين الذين حاولوا أن يحصدوا أراضيهم، والأطفال الذين كانوا في الشوارع، والعائلات التي كانت تفر من الاقتتال، والقرويين الذين اختبأوا في الأبنية.
كانت تالون آفيل عبارة عن فرقة صغيرة، حيث كان تعداد أفرادها أقل من 20 شخصاً في وقت من الأوقات، وكانوا يديرون عملياتهم من غرف مجهولة تغزوها شاشات مسطحة، غير أنها لعبت دوراً كبيراً في عمليات القصف الصاروخية التي بلغ عددها 112 ألف قنبلة وصاروخ تم إطلاقها على تنظيم الدولة.
وصف الجيش الأميركي الحرب الجوية ضد تنظيم الدولة بأنها أكثر حرب دقة وإنسانية في تاريخ الجيوش قاطبة، كما تحدث عن القواعد الصارمة والإشراف الدقيق عليها من قبل كبار القادة وذلك لحماية أرواح المدنيين الذين لم يسقط منهم سوى أقل عدد ممكن بالرغم من ضراوة القصف وشراسته. ولكن في الحقيقة، ذكر أربعة مسؤولين عسكريين بأن معظم الغارات لم تكن أوامرها تأتي من قبل كبار القادة بل من قبل مغاوير متدني الرتبة من فرقة تالون آنفيل التابعة لوحدة دلتا في الجيش الأميركي.
نقلت صحيفة نيويورك تايمز خلال الشهر الماضي بأن وحدة العمليات الخاصة التي قامت بعمليات القصف خلال عام 2019 قتلت العشرات من النساء والأطفال، وبأنه تم التكتم على عواقب ذلك والتعتيم عليه بعيداً عن أعين عامة الناس وكبار القادة العسكريين. وفي شهر تشرين الثاني الماضي، أمر وزير الدفاع الأميركي، لويد جي. أوستن بفتح تحقيق رفيع المستوى حول تلك الغارة التي نفذتها فرقة تالون آنفيل.
بيد أن من رأوا تلك الفرقة وهي تعمل بشكل مباشر ذكروا بأن الغارة التي شنت في عام 2019 أتت ضمن سياق سلسلة من الغارات الطائشة التي بدأت قبل سنوات.
وعند تقديم ما ذكر بالإضافة إلى النتائج التي توصلت إليها صحيفة نيويورك تايمز، أنكر كبار الضباط السابقين والحاليين ضمن وحدة العمليات الخاصة وجود أي نسق سائد لغارات طائشة تشنها وحدة الغارات وعدم اكتراثها بالحد من إيقاع ضحايا بين صفوف المدنيين. كما رفض العقيد بيل أوربان الناطق الرسمي باسم القيادة المركزية للجيش الأميركي التي تشرف على العمليات في سوريا، التعليق على الموضوع.
ذكر ضابط سابق في الاستخبارات الجوية عمل بصورة يومية تقريباً على مهام تلك الفرقة بين عامي 2016-2018 بأنه أخطر مركز العمليات الجوية الرئيسي في المنطقة حول سقوط ضحايا مدنيين عدة مرات، وقد شمل ذلك من سقطوا بعد الغارة التي وقعت في آذار 2017، عندما أسقطت تالون آنفيل قنبلة وزنها 500 رطلاً على مبنى اختبأ فيه حوالي 50 شخصاً، لكنه ذكر بأن القادة لم يكونوا على استعداد للتدقيق بأمر خلية تقوم بعمليات القصف وتقود تلك الحملة العسكرية في ساحة المعركة.
ومع كل سنة تولت فيها خلية القصف العمل، ازدادت نسبة الضحايا بين صفوف المدنين في سوريا بشكل كبير، بحسب ما ذكره لاري لويس، وهو مستشار سابق في البنتاغون ولدى وزارة الخارجية الأميركية، كان أحد من كتبوا تقرير وزارة الدفاع الصادر عام 2018 حول الأضرار التي تعرض لها المدنيون، حيث ذكر لويس الذي عاين البيانات السرية حول الضحايا المدنيين التي يخفيها البنتاغون بأن النسبة كانت أعلى بعشرة أضعاف عن نسبة الضحايا التي خلفتها عمليات مماثلة قام بتعقبها في أفغانستان.
وذكر لويس بأن القادة العسكريين الأميركيين لم يشددوا على أهمية الحد من عدد الضحايا المدنيين، وبأن الجنرال ستيفن جي تاونسيند الذي قاد الحملة العسكرية ضد تنظيم الدولة بين عامي 2016-2017 تجاهل التقارير التي انتشرت في الصحافة والإعلام والأخبار ومنظمات حقوق الإنسان والتي تحدثت عن ارتفاع عدد الضحايا.
وفي مقابلة أجريت عبر الهاتف، ذكر الجنرال تاونسيند الذي يترأس القيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا اليوم، بأن المنظمات الخارجية التي تعقبت مطالبات التعويض عن الأضرار التي لحقت بالمدنيين لا تقوم في أغلب الأحيان بتفحص تلك المزاعم بدقة كافية. إلا أنه أنكر وبشدة عدم أخذه أمر الضحايا بين صفوف المدنيين على محمل الجد، حيث قال: "إن ذلك يجافي الحقيقة جملة وتفصيلاً" وأضاف بأنه كان يطلب تقارير شهرية حول أعداد الضحايا المدنيين في العراق وسوريا ثم يقوم بنشرها عندما كان قائداً عسكرياً، ثم أنحى باللائمة بالنسبة للضحايا المدنيين على "رزايا الحرب" وليس على عدم اكتراثه هو ومن معه.
يرى الجنرال جوزيف إل فوتيل، رئيس القيادة المركزية للجيش الأميركي حينها والذي كان تاونسيند تابعاً له، بأنه مع عدم تواجد الكثير من الأميركيين على الأرض، بات من الصعب التحقق من أعداد القتلى بين صفوف المدنيين.
نصائح واعتراضات وغارات
لم تكن وحدة تالون آنفيل موجودة بشكل رسمي، بالرغم من أن كل ما نفذته كان شديد السرية، حيث تم التوصل إلى ممارسات تلك الخلية التي تقوم بالقصف في سوريا من خلال وصف بعض التقارير السرية لها وعبر مقابلات أجريت مع مسؤولين عسكريين تحدثوا عن الموضوع شريطة عدم ذكر أسمائهم.
كانت خلية القصف تدار من قبل وحدة العمليات الخاصة السرية التي تعرف باسم فرقة العمل9 والتي أشرفت على العملية العسكرية البرية في سوريا. وكانت لدى تلك الفرقة مهام عديدة، حيث قامت وحدة القبعات الخضر التابعة للجيش بتدريب قوات سورية كردية وعربية تحالفت مع الولايات المتحدة. أما المجموعات الصغيرة التي كانت تدير فرقة دلتا فقد أصبحت جزءاً من القوات البرية. كما أصبحت فرقة الهجوم ضمن قوات مغاوير دلتا تحت الطلب لشن غاراتها على أهداف مهمة للغاية كان بينها الغارة التي قتلت زعيم تنظيم الدولة، أبي بكر البغدادي.
غير أن معظم القوة النارية كانت بيد تالون آنفيل، حيث كانت تلك الفرقة تمارس مهامها من مكاتب هادئة أقيمت في أربيل بداية، ثم انتقلت إلى العراق، وبعد تطور الحرب انتقلت إلى الشمال السوري.
كانت تلك الخلية تستعين بنصائح تقدمها القوات البرية المتحالفة مع الولايات المتحدة، إلى جانب اعتمادها على اعتراضات سرية لأجهزة إلكترونية وما تلتقطه كاميرات لطائرات بدون طيار وغيرها من المعلومات لتعثر على الأهداف المعادية، ثم تقوم بقصفها بذخيرة عبر طائرات بدون طيار، أو تقوم باستدعاء غارات من قبل طائرات التحالف الأخرى لتدمير تلك الأهداف. وكانت تلك الفرقة تنسق الدعم الجوي المخصص للقوات الكردية والعربية الحليفة التي كانت تحارب على الأرض.
من الخارج، لم يكن يبدو على القائمين على أمر تلك الخلية أنهم عسكريون حسب ما ذكر عضو سابق لدى فرقة العمل سبق له التعامل مع خلية القصف في ذورة الحرب عام 2017، كما كانوا يستخدمون الأسماء الأولى دون أي رتبة أو دون ارتداء زي رسمي موحد، وغالبيتهم لديهم لحى غير مهذبة ويذهبون إلى العمل وهم يرتدون سراويل قصيرة وأحذية خفيفة. بيد أنهم كانوا يتحكمون بأسطول كامل من طائرات بريديتور وريبر من غرفة العمليات التي يديرونها، وتلك الطائرات كانت محملة بصواريخ جهنم الدقيقة وبقنابل موجهة بالليزر.
وكان لدى فرقة العمل خلية قصف أخرى تعمل مع وكالة الاستخبارات المركزية في تعقب قادة تنظيم الدولة البارزين، وقد استعانت بأدوات مماثلة، إلا أنها كانت تتعقب الهدف لأيام وأسابيع في أغلب الأحيان، وتعتبر مسؤولة عن جزء يسير من تلك الغارات.
تم تشكيل هاتين الخليتين في عام 2014 عندما اجتاح تنظيم الدول مساحات شاسعة من العراق وسوريا، وخلال سنوات قليلة، أصبحت دولة الخلافة تشن هجماتها على حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط كما تقوم بعمليات إرهابية في أوروبا. ولهذا سعت الولايات المتحدة لتشكيل فريق بوسعه تعقب وتحديد الأهداف المعادية، فأوكلت تلك المهمة لفرقة دلتا.
وفي بدايات الحملة العسكرية التي قادتها أميركا، والتي عرفت باسم العزم الصلب، سعى الجيش الأميركي جاهداً لتنفيذ عملياته بما يتماشى مع سرعة الحرب، وذلك بما أن الجنرالات من أصحاب الرتب الرفيعة ومن خارج فرقة دلتا كانوا وحدهم مفوضين بالموافقة على تلك الغارات. وهكذا عادت 74% من الطلعات الجوية دون إسقاط أي قنبلة، وعندها بدأت الحملة العسكرية بحالة الجمود.
ثم تغيرت الأساليب المتبعة في أواخر عام 2016، وذلك عندما تولى الجنرال تاونسيند مهام القيادة، وفي محاولة للتماشي مع سرعة العملية العسكرية التي أخذت تمتد، وافقت السلطات في الولايات المتحدة على إحالة أمر الغارات الجوية للقادة العسكريين المتواجدين في الموقع.
ومن خلال فرقة العمل9، اقتنعت السلطات الأميركية بإحالة الأمر لعناصر أدنى رتبة، بحسب ما ذكره مسؤول رفيع يتمتع بخبرة واسعة في الملف العراقي والسوري، وهكذا وصلت الأمور للشخص الأعلى رتبة الذي توكل إليه مهام إدارة فرقة دلتا ضمن وردية معينة داخل غرفة العمليات، والذي كان يحمل عادة رتبة رقيب أول أو رقيب.
وبموجب القوانين الجديدة، أصبح يتعين على خلية القصف الالتزام بعملية جمع المعلومات الاستخباراتية والتخفيف من المخاطر للحد من الأضرار التي تلحق بالمدنيين قبل شن أي غارة، ما يعني قيام طائرات بدون طيار بالتحليق فوق الأهداف لساعات وذلك للتأكد من أنه بوسع الخلية تحديد الأعداء بشكل مؤكد ومعرفة ما إذا كان هنالك مدنيون في المنطقة أم لا.
غير أن القائمين على فرقة دلتا تعرضوا لضغوطات هائلة من أجل حماية القوات البرية الحليفة إلى جانب التقدم في العملية العسكرية، حسبما ذكر أحد الأعضاء السابقين في فرقة العمل، والذي شعر بالقيود التي فرضتها تلك الضمانات. ولهذا في بداية عام 2017، توصل أعضاء تلك الفرقة إلى طريقة للضرب بسرعة أكبر، ألا وهي الدفاع عن النفس.
إن معظم القيود التي فرضتها عملية العزم الصلب تطبق على الغارات الهجومية فقط، إذ هنالك قيود أقل بكثير فرضت على الغارات الدفاعية التي كان الغرض منها حماية القوات الحليفة من أي تهديد وشيك بالضرر. وهنا بدأت تالون آنفيل تدعي بأن كل غاراتها تقريباً أتت دفاعاً عن النفس، مما مكنها أن تمضي بسرعة دون أن تفكر بالأمر مرتين أو تراقب ما يجري، حتى ولو كانت أهدافها على بعد أميال من أي عملية قتالية.
إلا أن تسريع الغارات يعني عدم توفر الوقت الكافي لجمع المعلومات الاستخباراتية ولتصنيف مقاتلي العدو وتمييزهم عن المدنيين، حيث ذكر أربعة من المسؤولين العسكريين السابقين تعاملوا مع تالون آنفيل بأن تلك الخلية كانت تعتمد بشكل كبير على معلومات استخباراتية هشة تزودها بها القوات البرية الكردية والعربية، أو تندفع لتشن هجومها دون أن تراعي من يمكن أن يتواجد في الجوار.
إذ ذكر أحد أعضاء فرقة العمل السابقين بأن الغالبية الساحقة من الغارات التي شنتها تالون آنفيل قتلت مقاتلين معادين فقط، إلا أن القائمين على قيادة فرقة دلتا كانوا ميالين للقصف، لذا كانوا يقررون بأن هذا الشيء يمثل هدفاً معادياً بالرغم من عدم توفر سوى قدر قليل من الأدلة الداعمة. وأحد أسباب تلك المشكلة يعود إلى أن القائمين على إدارة تلك الفرقة الذين يتناوبون على إدارتها كل أربعة شهور تقريباً، قد تلقوا تدريباً بوصفهم من نخبة المغاوير، إلا أن خبراتهم كانت ضئيلة في مجال إدارة خلية القصف. بالإضافة إلى أن المتطلبات اليومية لعملية الإشراف على الغارات أسهمت في تقويض رأي هؤلاء المدراء وقتل الإنسانية فيهم.
ذكر ضابط استخبارات جوية سابق بأنه رأى الكثير من الضحايا المدنيين نتيجة للأساليب التي انتهجتها تالون آنفيل وادعت أنها قامت بذلك دفاعاً عن النفس، لدرجة أتعبته في نهاية الأمر فتقبل الموضوع كجزء من عمله. ومع ذلك ماتزال بعض الهجمات شوكة في حلقه.
ففي إحدى الغارات التي تحدث عنها قامت تالون آنفيل بتعقب ثلاثة رجال جميعهم يحملون أكياساً قماشية ويعملون في بستان زيتون قريب من مدينة منبج، وذلك في خريف عام 2016. لم يكن بحوزة الرجال أي سلاح، كما لم يتواجد أي منهم بالقرب من أي معركة دائرة، ومع ذلك أصرت خلية القصف على أنهم مقاتلون معادون فأردتهم بصاروخ.
وفي حادثة أخرى، كان هنالك مدنيون يحاولون الهرب من الاقتتال الدائر في مدينة الرقة في حزيران من عام 2017، فصعد العشرات منهم على متن طوافات ليعبروا نهر الفرات، ويذكر هذا الرجل بأن فرقة العمل ادعت بأن الطوافات كانت تحمل مقاتلين من الأعداء، فأخذ هذا الرجل يراقب كيف ضربت تلك الخلية القوارب عبر فيديو عالي الدقة، ما تسبب بمقتل ما لا يقل عن 30 مدنياً غرقت جثثهم في النهر
ويذكر مسؤول عسكري رفيع على اطلاع مباشر بعمليات فرقة العمل بأن معيار "الخطر الوشيك" كان ذاتياً للغاية، وبأن القائمين على أمور تالون آنفيل من كبار مدراء فرقة دلتا كانوا يتمتعون بسلطات واسعة تخولهم شن غارات دفاعية. ولقد اعترف ذلك المسؤول بأن تلك الخلية شنت غارات خاطئة في بعض الأحيان، ولهذا تمت إقالة من خانهم الحكم من مناصبهم، إلا أنه أكد بأن تلك الحالات كانت نادرة.
مقاتلون أم أطفال؟
مع تصاعد الغارات الجوية في عام 2017، انتشر القلق بين أوساط شركاء الولايات المتحدة الذين تعاملوا مع خلية القصف وذلك بسبب التكتيكات التي انتهجتها.
كان لدى وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية ضباط يعملون لدى فرقة العمل 9 ليقوموا بتزويدها بمعلومات استخباراتية حول قادة تنظيم الدولة وكذلك ليقوموا بتنسيق الغارات. وكانت الوكالة تتابع تلك الشخصيات المهمة، وتتعقبهم لأيام في أغلب الأحيان، وذلك عبر الاستعانة بعدد من الطائرات بدون طيار التي تنتظر إشارة لتقصف إذا كان بالإمكان تقليل عدد الضحايا بين صفوف المدنيين إلى أدنى حد.
إلا أن فرقة العمل لم يكن يعجبها أمر الانتظار، بحسب ما ذكر ضابطان سابقان في وكالة الاستخبارات المركزية هالهما ما شاهداه عدة مرات خلال سلسلة من الغارات لم تلتفت لأمر المدنيين بتاتاً. فما كان منهما إلا أن نقلا مخاوفهما للمفتش العام في وزارة الدفاع الأميركية، فتناقشت قيادة وكالة الاستخبارات حول هذا الموضوع مع كبار الضباط لدى القيادة المشتركة للعمليات الخاصة، بيد أن أحد الضباط السابقين شهد أنه لم ير أي دليل يثبت بأن تلك المخاوف قد أخذت على محمل الجد.
كما أن الناطق الرسمي باسم وكالة الاستخبارات المركزية رفض التعليق على الموضوع.
كانت تالون آنفيل تشتبك في بعض الأحيان مع فرق الاستخبارات الجوية الموجودة في الولايات المتحدة والتي ساعدت على تحليل سيل مقاطع الفيديو التي كانت طائرات بدون طيار تقوم بالتقاطها. وكان القائمون على فرقة دلتا يضغطون على هؤلاء المحللين ليذكروا بأنهم شاهدوا أدلة تثبت وجود أسلحة مثلاً حتى يتم تبرير الضربة بشكل قانوني، بالرغم من عدم وجود أي سلاح، بحسب ما ذكر ضابط سابق في الاستخبارات الجوية الأميركية. ولكن إذا شهد أحد المحللين بأنه لم ير ما تريد له فرقة دلتا أن يراه، عندها كانت دلتا تطلب استبداله بمحلل آخر.
كانت فرقة دلتا تختلف مع المحللين في بعض الأحيان بخصوص الأشخاص الظاهرين في مقاطع الفيديو التي صورتها طائرات بدون طيار، وهل هؤلاء كانوا مقاتلين أم أطفالاً، وذلك بحسب ما ذكره أحد الأعضاء السابقين لدى فرقة العمل.
بيد أن الجيش يحتفظ بكل الفيديوهات التي صورت لتلك الغارات، وفي محاولة صريحة للحد من وطأة الانتقادات ولتقويض أي تحقيقات يمكن أن تفتح، بدأت تالون آنفيل بتوجيه كاميرات الطائرات بدون طيار نحو وجهة بعيدة عن الأهداف وذلك قبل إصابتها بالقصف بقليل، وذلك لمنع جمع الأدلة عبر الفيديوهات.
كما ذكر ضابط في سلاح الجو بأن طواقم الطائرات بدون طيار كانوا مدربين على إبقاء الكاميرات على الأهداف بحيث يمكن للجيش تقييم الأضرار. إلا أنه شاهد عدة مرات الكاميرات وهي تنحرف عن الأهداف في اللحظات الحاسمة، وكأنها تعرضت لهبة رياح، ومع تكرار هذا النسق مرات ومرات، تشكل لديه اعتقاد بأن ما يجري مقصود.
تصيد الأهداف
في صباح أحد الأيام وقبل طلوع الفجر في أوائل شهر آذار من عام 2017، أرسلت تالون آنفيل طائرة بريديتور بدون طيار لتحلق فوق قرية زراعية سورية تعرف باسم الكرامة بريف الرقة وذلك بهدف شل مواقع العدو في المنطقة استعداداً لشن هجوم عسكري على يد الحلفاء بعد أسبوع على ذلك.
وبالنسبة لضابط الاستخبارات الجوية السابق، تعتبر هذه المهمة دليلاً على أسلوب تالون آنفيل الخاطئ في العمل، وكيف تغاضى القادة العسكريون عما جرى يومها.
إذ حوالي الساعة الرابعة فجراً، وصلت الطائرة إلى المكان وأخذت تحلق فوق البيوت، وكان فريق الاستخبارات الجوية الذي يديره هذا الرجل يراقب من مركز العمليات في الولايات المتحدة ما يجري، ثم كتب المسؤول عن تالون آنفيل رسالة ضمن غرفة الدردشة التي تضم الخلية والمحللين الاستخباراتيين، جاء فيها: كل المدنيين هربوا من المنطقة، إذن فكل من بقي هو مقاتل معاد، ولهذا نطلب منكم أن تعثروا على الكثير من الأهداف حتى نقوم بقصفها اليوم لأننا نود أن نذهب إلى وينشيستر.
والذهاب إلى وينشيستر هنا يعني رمي كل الصواريخ والقنابل التي تزن 500 رطلاً والتي تسقطها الطائرات بدون طيار.
عندما كانت الطائرة تدور دورتها، بدت القرية هاجعة حسبما ذكر الضباط، وحتى بعد استخدام حساسات الأشعة تحت الحمراء، لم يشاهد الفريق أي حركة، إلا أن تالون آنفيل ركزت على بناء ثم كتب أحد أفرادها في غرفة الدردشة بأن نصيحة قدمتها القوات البرية تشير إلى أن البناء كان يستخدم كمركز لتدريب الأعداء. كما أشارت الحساسات إلى وجود هاتف خلوي أو راديو في الحي، دون التمكن من تحديد مكان تواجده بدقة ضمن كتلة سكنية تضم عدة أبنية، فما بالكم بتحديد موقعه ضمن بناء واحد؟!
لم تنتظر تالون آنفيل حتى يصلها أي تأكيد، بل أمرت بشن غارة دفاعاً عن النفس حسبما ذكر الضابط السابق؛ حيث أسقطت طائرة بريديتور قنبلة تزن 500 رطل فوق سطح ذلك البناء.
ومع تلاشي الدخان، أخذ ذلك الضابط السابق هو وفريقه يحدقون بشاشاتهم مذعورين، فقد أظهرت كاميرات تستخدم الأشعة تحت الحمراء نساء وأطفالاً يترنحون وهم يخرجون من البناء الذي تهدم قسم منه، وقد بترت أعضاء بعضهم، فيما أخذ أخرون يجرون الموتى معهم.
بدأ محللو المعلومات الاستخباراتية بالتقاط صور للشاشات ثم قاموا بعد الضحايا، وبعدها أرسلوا تقييماً مبدئياً للخسائر التي وقعت في تلك المعركة لتالون آنفيل، حيث كان هنالك 23 قتيلاً أو مصاباً إصابة بالغة، و30 مصاباً إصابة طفيفة، وعلى الأغلب كلهم مدنيون. إلا أن تالون آنفيل توقفت لفترة حتى تعترف بمضمون تلك الرسالة، ثم ضغطت على الزر لتضرب الهدف التالي بحسب ما ذكره الضابط السابق.
وعلى الفور نقل ضابط الجوية السابق أخبار الضحايا المدنيين لمركز عمليات عملية العزم الصلب، وبعدها اتصل بضابط الارتباط في ذلك المركز على الخط الساخن، فأخبره أنه لم يصله أي رد حول الموضوع ولم يلاحظ أي دليل حول إتخاذ أي إجراء حيال ذلك.
التزمت عملية العزم الصلب بالتحقيق بكل حالة من حالات إصابة ضحايا مدنيين ونشرها على الملأ، ولكن لم يرد شيء في تقارير تلك العملية يطابق ما وقع في تلك الحادثة، إذ لا تزال أعداد القتلى والخسائر الحقيقية في عملية قصف قرية الكرامة غير مؤكدة.
وخلال فترة فاصلة امتدت لخمسة أيام في أوائل شهر آذار، اعترفت عملية العزم الصلب بأنها شنت 47 غارة في تلك المنطقة، كما أظهرت الصور التي التقطتها الأقمار الصناعية الدمار الواسع الذي أصاب ما لا يقل عن عشر مبان، بينها المبنى الذي رآه الضابط السابق وهو يقصف. كما نقلت وسائل إعلامية محلية بأن الغارات الجوية التي قصف الكرامة في 8 و9 آذار قتلت ما بين 7-14 شخصاً وتسببت بجرح 18 شخصاً.
وطوال عامين أعقبا تلك الغارات، أعلنت عملية العزم الصلب بأنها لا تستطيع أن تؤكد وقوع أية إصابات وضحايا بين صفوف المدنيين في تلك القرية، ثم اعترفت في عام 2019 بإصابة رجل بجروح عندما قام التحالف بقصف موقع للمقاتلين الأعداء، وأعطت إحداثيات التجمع السكني من البناء الذي ذكر ضابط الاستخبارات الجوية السابق أنه شاهده وهو يقصف.
ورداً على التساؤلات التي وردت في صحيفة تايمز خلال هذا الشهر، اعترف مسؤول في العمليات الخاصة بأن خلية القصف ضربت أهدافاً في تلك القرية في الثامن من آذار وقتلت 16 مقاتلاً، لكنه نفى أن يكون هنالك أي مدنيين بين القتلى.
لم تقم أي منظمة من خارج الولايات المتحدة بالتحقيق في أمر تلك الضربة السرية، كما لم يتضح بعد ما هي الخطوات التي اتخذها الجيش لتقرير ما جرى، إلا أن الضابط السابق ذكر بأنه لم يتواصل مع أي محقق عسكري.
هذا وقد تم حفظ الأدلة التي تثبت وقوع الضربة، وتتضمن سجلات غرفة الدردشة وإحداثيات القصف والفيديو الذي يثبت ذلك، لدى مخدمات خاصة بحكومة الولايات المتحدة حسبما ذكر الضابط السابق، ولكن بسبب الغموض الذي يحيط بتالون آنفيل تم تصنيف كل تلك الوثائق على أنها سرية.
المصدر: نيويورك تايمز