كيف عرقلت "البنية المجتمعية للجنوب السوري" مخططات النظام؟

يشكّل حضور "الدولة" بثقلها التنظيمي إضافة إيجابية لحياة المجتمعات لا سيما العشائرية التي غالباً ما تنصاع لشكل الحكم الأوسع نطاقاً، مع الاحتفاظ ببعض المكتسبات التي لا تخالف مصالح الدول وطبيعة تنظيمها الداخلي.

هذا في الشكل الطبيعي.. أما في الحالة السورية والتي باتت فيها "الدولة" وأجهزتها الأمنية سبباً في تفكيك المجتمعات أصبحت مهام العائلات والعشائر مضاعفة في حماية أرواح أبنائها وضبطهم في الوقت ذاته من الانصهار بمنظومة الفساد والقتل إلى جانب كونها بديلاً للنظام الغائب.

في الجنوب السوري (درعا-السويداء-القنيطرة-منطقة اللجاة) ومع إتمام سيطرة النظام عام 2018 ودخول روسيا وإيران وبالتزامن مع تراجع الحالة الفصائلية العسكرية واستمرار الحراك المسلح والسلمي في درعا، وتأجج الحراك السلمي في السويداء بدأ دور الشخصيات المؤثرة من رجال الدين ورجال العشيرة (مشايخ العقل في السويداء- الوجهاء في درعا) بالتصاعد في ظل انتشار أشكال جديدة من القتل والخلافات والفساد.

هذا الدور بدا واضحاً بشكل أكبر خلال الفترة الأخيرة مع وصول أبناء المنطقة لقناعة مطلقة بأن النظام يحرّك العائلات داخل المحافظات بعضها ضد بعض بعدة أساليب، بل أصبح يذهب لأبعد من ذلك بتحريك تلك المحافظات بعضها ضد بعض من خلال دفع مجموعات تتبع له لتنفيذ عمليات خطف مدروسة.

هذه الحادثة نفّذها عنصر يتبع للأمن العسكري يدعى سمير الحريري، وتم اختيار الشخص الخاطف والمخطوف بطريقة ستؤدي حتماً لصدام بين المحافظتين لولا تدخل العقلاء والوجهاء من المحافظتين

أهم تلك العمليات التي ظهر من خلالها دور نظام الأسد في تحريك "الفتنة" بين مناطق الجنوب (السويداء- درعا - منطقة اللجاة) هي عملية الخطف التي جرت في بلدة بصر الحرير بريف درعا الشرقي لوالد الشيخ سليمان عبد الباقي "قائد تجمع أحرار الجبل" في الخامس من شباط الفائت، وهي عملية كادت تشعل شرارة صدام بين أبناء محافظة السويداء وأبناء محافظة درعا، لا سيما أن أبناء محافظة درعا اختطفوا عدداً من أبناء السويداء كردة فعل، وظهر عبد الباقي حينها مهدداً باستخدام القوّة لتحرير والده من يد العصابة الخاطفة.

يقول أحد الوجهاء من بلدة بصر الحرير الذي رفض الكشف عن هويته لأسباب أمنيّة إن هذه الحادثة نفّذها عنصر يتبع للأمن العسكري يدعى سمير الحريري، وتم اختيار الشخص الخاطف والمخطوف بطريقة ستؤدي حتماً لصدام بين المحافظتين لولا تدخل العقلاء والوجهاء من المحافظتين، وبالفعل انتهت الحادثة بتخليص المخطوف وتسليمه لأهله وظهر عقبها عبد الباقي ليؤكد على وحدة السهل والجبل.

الحادثة الثانية التي أظهرت محاولة النظام خلق صدامات بين أبناء الجنوب هي عملية خطف الشاب رامي المفعلاني من أبناء بلدة ناحتة بريف درعا على يد عصابة من أبناء منطقة اللجاة التي يقطنها "بدو" المنطقة ويشكلون مكوناً رئيسياً فيها.

هذه الحادثة استدعت أبناء محافظة درعا للتجمع في بلدة ناحتة وتقديم الدعم لها، غير أن أبناء منطقة اللجاة اعتبروا إشراكهم في الأمر غير مقبول مؤكدين أن الخاطف يرتبط بنظام الأسد وبالفعل تم تحرير الشاب عقب أيام بجهود وجهاء درعا ومنطقة اللجاة.

الحادثتان أبرزتا دور العشيرة والوجهاء ورجال الدين في توجيه المجتمع لتجاوز حالة اقتتال قد تودي بالمنطقة وتدمر المجتمع، وهو ما سيخدم مصالح نظام الأسد الباحث عن إعادة سطوته المفقودة ومصالح إيران وروسيا كدول احتلال تسعى لفرض معادلاتها بعيداً عن مصالح أبناء المنطقة.

على مستوى أضيق برز دور الوجهاء ولجان الصلح العشائرية في إنهاء خلافات و"ثارات" داخلية في كل من درعا والسويداء كل على حدى.

على سبيل المثال تكللت مساعي الوجهاء في درعا خلال الأسابيع الماضية بإنهاء عدة خلافات داخلية وصلت إلى مستوى اقتتال بالسلاح، الصلح الأول تم في بلدة محجة بين عائلتي الحميّر والهلال إذ نشب بينهما خلاف على إثر مقتل شاب من بيت هلال وتم الصلح مع دفع الديّة.

الصلح الثاني تم في مدينة طفس بين آل العدوي وآل حريذين على إثر مقتل الشاب عدي العدوي وتم دفع الديّة.

في السويداء تم صلح عشائري بين عائلتي المحيثاوي ومنذر في بلدة المزرعة على خلفية حادثة راح ضحيتها الشاب خالد المحيثاوي آواخر عام 2022 بحسب ما أوردت صفحة السويداء 24 على فيس بوك.

هذا الصلح سبقه بأيام صلح عشائري جمع عائلات الحلبي والغجري والمرعي بحضور شيخ العقل يوسف جربوع وعدد من وجهاء المحافظة في بلدة الرحا جنوبي السويداء على إثر شجار بين عائلتي الحلبي والغجري أصيب خلاله شاب من آل المرعي وتم دفع الدية.

قد يلفت النفوذ الفعلي للوجهاء أنظار المملكة الأردنية التي تبحث عن طريقة لإنهاء تجارة الكبتاغون نحوها، لا سيما أن المملكة تفهم جيداً كيفية التعامل مع العشائر

الدور الإيجابي للوجهاء والعشائر في جنوبي سوريا بات شكلاً جديداً من أشكال ضبط أبناء المنطقة الذين تشتتوا بفعل دخول المخدرات والميليشيات والانتماءات الفصائلية، غير أنه دور يبقى تحت مراقبة نظام الأسد الذي يحاول السيطرة على هؤلاء الوجهاء أو اختراقهم كما أن القوّة العسكرية ستفرض نفسها عند احتدام المواجهة.

على مستوى أوسع قد يلفت النفوذ الفعلي للوجهاء أنظار المملكة الأردنية التي تبحث عن طريقة لإنهاء تجارة الكبتاغون نحوها، لا سيما أن المملكة تفهم جيداً كيفية التعامل مع العشائر وتقدّر ما تستطيع فعله في حال تلاقي المصالح، وهنا يبدو التوجه نحو الوجهاء أمراً يحتاج إلى مقدمات كثيرة غير متوفرة على رأسها عدم وجود قرار أو قدرة أردنية لتجاوز نظام الأسد، إضافة إلى كون هذه العشائر لا ترقى لشكل مؤسسة لها قوّة عسكريّة تنفيذية.

في المحصلة.. يقتصر دور الوجهاء والعائلات والعقلاء في الجنوب على عمليات الصلح والتعامل مع الواقع المفروض غير أنها لا تبدو بمستوى تغيير الواقع الذي يحتاج متطلبات وقدرات كبيرة لا توفرها العائلات والعشائر، حيث إن المواجهة ليست مع النظام بمقدار كونها مواجهة مع روسيا وإيران عند الحديث عن التغيير الجذري.

رغم عدم وجود المقومات للتغيير حالياً يبقى الحفاظ على المكون المجتمعي عاملاً مهمّاً في أي تغيّر مستقبلي، فمع وجود أدنى إرادة دولية تبدو الأرضية في الجنوب قابلة لنسف كل السلطات الحالية والتوجه نحو الخيار الجديد في حال كان خياراً أفضل وأكثر انسجاماً مع أهداف الثورة التي ينتمون لها، وإلى حين ذلك ستبقى تحركات العائلات والعشائر عاملاً مهماً في تحقيق الاتزان في ظل فوضى الكبتاغون والميليشيات.