عندما يُسأل الأوروبيون إن كان يحق لشعوب مستعمراتهم السابقة مطالبتهم بتعويض على سلوكهم الإمبريالي، يفضل هؤلاء أن يغيروا الموضوع عبر فتح حديث عن ميزانيتهم السخية التي خصصوها للتنمية خارج حدود بلادهم، إذ ماتزال تلك القارة موطناً لأكبر برامج المساعدات الخارجية في العالم، حتى أن بضع دول في الاتحاد الأوروبي تسعى لتحقيق الطموح المتمثل بضرورة إنفاق الدول الثرية 0.7% من دخلها القومي للتخفيف من حدة الفقر عالمياً.
كما أن أي شخص تسعده أخبار تشييد مدارس وإقامة نظم للري قد يتجشم عناء البحث عن التفاصيل الدقيقة ليعرف لمن قدمت تلك المساعدات. فخلال السنوات الماضية، عثرت هولندا على جهة متلقية تستحق سخاءها، إذ صارت ميزانية المساعدات التي تخصصها وزارة الخارجية تدفع قسماً من النفقات التي تصرف على استضافة طالبي اللجوء على الأراضي الهولندية، بيد أن فاعلي الخير أصبحوا يصرخون احتجاجاً على هذا الإجراء الذي يستنزف الأموال المخصصة للتنمية بالنتيجة، أما أنصار الجناح الأيمن فيرون أنه لا فرق إن قدمت المساعدة لأفغاني في هرات أو لاهاي، لأن كل تلك الأموال تذهب للأجانب.
أصبح هذا الشقاق جلياً منذ مدة، إذ تعتبر الهجرة غير الشرعية مشكلة من جهة أولى، وقد أصبح السياسيون يدركون بأن العمل على وقف تلك القوارب (أو فرض أي إجراء مماثل في قسوته لمنع قدوم واصلين جدداً) لابد أن يبقيهم في مناصبهم، ومن جهة ثانية، يرى الأوروبيون أنفسهم كقوة تحض على فعل الخير في هذا العالم، ولهذا صاروا يتاجرون بكل سعادة ويتحالفون دبلوماسياً مع القاصي والداني من الدول، مع أن شطري العالم بقيا منفصلين طوال عقود خلت، فقد شيد رجال الشرطة ورجال وزارات الخارجية أسواراً لمنع وصول المهاجرين، فيما أخذ الدبلوماسيون والمسؤولون في مجال التجارة والمتخصصون في قطاع التنمية يمطرون الأموال واللقاحات وصفقات تجارية طيبة على الدول التي يأتي منها لاجئون.
في أعقاب موجة الهجرة التي ظهرت خلال الفترة ما بين 2015-2016، ومع الازدياد الأخير لعدد الواصلين بطريقة غير شرعية، ارتأت أوروبا أن من صالحها منع القوارب من الوصول لأن هذا أولى من أن تبدي للآخرين سلوكاً حسناً حتى يحققوا لها ما تتمناه. وبناء على ذلك صار المسؤولون في وزارات الداخلية يضعون السياسة الخارجية التي تهدف لتقليل أعداد المهاجرين.
صفقات مشبوهة
ثمة مجموعة من القوانين الأوروبية التي ستعتمد في نيسان المقبل، وهذه القوانين تدعو لوضع: "نهج شامل" في سبيل معالجة قضية الهجرة، ويقصد بذلك أن يشتمل هذا النهج على الضغط على الحكومات الأجنبية لضمان وصول عدد أقل من شعوبها بطريقة غير شرعية إلى أوروبا.
وفي ذلك إسباغ لطابع رسمي على أسلوب تحول إلى قاعدة في السنوات القليلة الماضية، إذ في 17 آذار وافق الاتحاد الأوروبي على تقديم مبلغ يزيد عن خمسة مليارات يورو (ما يعادل 5.4 مليار دولار) على شكل منح وقروض لمصر، التي كانت آخر دولة تقع على الشريط الساحلي المتوسطي تحصل على أموال من أجل أن تغلق حدودها بشكل أكبر.
كما عقدت صفقة مشابهة مع تركيا عام 2016، وأخرى مع تونس خلال العام الماضي، وثمة صفقات أخرى قيد الدراسة، والهدف منها واضح وضوح الشمس وهو العمل على منع تدفق البشر إلى أوروبا.
أما تلك الدول التي بوسعها المساهمة في إبعاد مشكلة الهجرة عن أوروبا، مثل تركيا التي تستضيف السوريين الذين لولا استضافة تركيا لهم لحطت رحالهم في ألمانيا، فيمكن أن تحصل على مزيد من الأموال.
ساعدونا وإلا...
بيد أن الدول البعيدة عن الشواطئ الأوروبية فقد أجبرت هي الأخرى على المساهمة في تقليل أعداد المهاجرين، إذ في كل عام يصدر أمر يقضي بترحيل نحو 400 ألف أجنبي من الاتحاد الأوروبي، ومعظم هؤلاء وصلوا إلى أوروبا بطريقة غير شرعية ولم يتمكنوا من إقناع أي دولة من بين الدول البالغ عددها 27 في هذا الاتحاد بأن من حقهم الحصول على صفة اللجوء. بيد أن نسبة تقل عن الربع من بين هؤلاء هي التي يتم ترحيلها، نظراً لأن دولهم الأم ترفض استقبالهم في أغلب الأحيان، ومن تلك الدول نذكر بنغلاديش والجزائر ونيجيريا (وذلك لأن شعوب الدول الفقيرة تفخر بوجود أقرباء لها في الدول الغنية لأن هؤلاء يرسلون لهم حوالات حتى لو كانوا يعملون بصفة غير قانونية في تلك الدول).
ومن المتوقع للقوانين الأوروبية الجديدة أن تسرع عمليات ترحيل القادمين من دول نادراً ما يمنح مواطنوها صفة اللجوء، لكن ترحيل المهاجرين لأسباب اقتصادية يحتاج لعملية سريعة، بما أن مساعدات الحكومات الأجنبية تعتبر أساسية بالنسبة لتلك الفئة من المهاجرين، ولهذا ستصبح الصفقات الدبلوماسية الجديدة قائمة على مبدأ: ساعدونا وإلا...
عقوبات وشروط جديدة
بموجب النهج الأوروبي الجديد، تجوز معاقبة الحكومات التي ترفض استقبال مواطنيها، ومن تلك العقوبات وضع عقبات أمام حصول مواطني تلك الدول على تأشيرات تخولهم دخول دول الاتحاد الأوروبي، وثمة عقوبة أخرى تتمثل بخفض المساعدات التنموية، وفي ذلك تهديد لدول مثل أثيوبيا.
أما الخطة المطبقة منذ عقود والتي تسمح للدول الستين التي تعتبر الأفقر عالمياً بتصدير بضائعها إلى أوروبا من دون أن تفرض عليها أي تعرفة جمركية أو بتعرفة جمركية ضئيلة، والتي تعتبر إجراء مهماً للحد من الفقر في العالم، فيمكن أن تصبح مشروطة قريباً بالنسبة لتلك الدول التي سيصبح عليها تنفيذ ما تمليه عليها أوروبا فيما يخص اللاجئين، أي بمعنى أصح: ساعدونا في الهجرة وإلا سنفرض ضرائب على الاستيراد.
ساعدوني لأساعد نفسي وأساعدكم
يرى منتقدون بأنه من الإجحاف فرض شروط على المساعدات وعلى التجارة والتأشيرات، إذ تقول نادين بيلر من المعهد الألماني للشؤون الدولية وشؤون الأمن: "لقد قدمت أوروبا أولوياتها قصيرة الأمد بالنسبة لمشكلة الهجرة على احتياجات التنمية في عدد من أفقر بلدان العالم". كما أن الصفقات التي تنطوي على أموال ضخمة مثل تلك التي أبرمت مع مصر وتونس مكلفة للغاية، لأنها تسهم في إبقاء حكام مستبدين في السلطة وهؤلاء سيبطئون وتيرة التنمية في بلادهم. كما أن تحويل المساعدات إلى شيء مشروط بهذه الطريقة يعتبر خرقاً للمبادئ التي تملي على الدول الأوروبية أن تتولى الجهات المتلقية، لا المانحة، توجيه دفة تلك الأموال التي تأتيها على شكل مساعدات. في حين يشتكي دبلوماسيون من صعوبة إقناع دولة أفريقية بمساعدة أوروبا وهي تحاول حشد الأصوات ضد روسيا في الأمم المتحدة مثلاً، على الرغم من أن روسيا تهددهم.
حقبة الحزم
أما فريق وزارات الخارجية الذي يعتبر المؤيد الأكبر لهذا النهج الجديد، فقد نجح في هزيمة المعارضة، إذ في نظام سياسي يصعد فيه شعبويون من اليمين في الانتخابات، تتحول الهجرة لا المساعدات الخارجية إلى أولوية سياسية، ما يعني بأن أوروبا تنتقل من "حقبة السذاجة إلى حقبة الحزم" حسب وصف مارغريتيس شيناس وهو المفوض الأوروبي الذي أسهم في توحيد السياسات الخارجية بسياسات الهجرة.
أما المدرسة القديمة التي تعتمد على أساليب التجارة والتنمية والدبلوماسية فتبدو كلها قائمة على صفقات قذرة، لكنها تدرك بأنه ليس بوسعها أن تقوم بما هو أكثر من الشكوى في الصحف. فيما يدرك البراغماتيون لدى البيروقراطية التنموية الأوروبية بأن رؤية الناس لهم وهم يسعون للحد من الهجرة هو خير سبيل لإبقاء التمويل شحيحاً، وقد رسم هؤلاء صورة أوسع للشراكة بين أوروبا والدول الفقيرة، وتمثل فيها الهجرة مجرد وجه واحد. وعليه لابد وأن يستمر بناء كثير من المدارس وإقامة عدد كبير من نظم الري، طالما بقيت تلك الدول تفعل ما تريده منها أوروبا أولاً.
المصدر: The Economist