بعد فوزه في الجولة الثانية من الانتخابات التي جرت يوم الأحد الماضي، سيمتد حكم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لعقد ثالث من الزمان تسوده قضايا ومشكلات تتصل بالسياسة الخارجية، فالاستراتيجية التي سمحت بفوزه لفترة رئاسية أخرى، ورغبته بترك إرث لمن سيأتي بعده، يحتمان عليه أن يبقى ليرعى مفهوم "تركيا القوية" في السياسة الخارجية.
يعتبر ملف التطبيع مع النظام السوري أكثر ملف شائك في جعبته، كونه يتطلب قرارات مصيرية، كما كانت مسألة عودة اللاجئين السوريين -طوعاً أو كرهاً- من أهم القضايا المطروحة في الحملة الانتخابية. إلا أن أي تطور على هذا الصعيد لا يقوم على مجرد التصالح مع النظام، وإنما على توفير مساحات للعيش أمام العائدين، ولهذا لا يمكن لأي اتفاق بين تركيا والنظام السوري أن يسهل الطريق وحده أمام عملية إعادة الإعمار، كما يجب التغلب على الاعتراضات الأميركية والأوروبية في هذا السياق.
في مطلع هذا الشهر، اتفقت تركيا والنظام السوري على مواصلة الحوار بشأن التطبيع وذلك في اجتماع رباعي عقد في موسكو شاركت فيه روسيا وإيران. ومع ذلك أصر النظام السوري على انسحاب القوات التركية من سوريا واعتبر ذلك شرطاً مسبقاً لأي اجتماع بين قادة الدولتين.
لا انسحاب فورياً من سوريا
من غير المرجح لأردوغان أن ينسحب دون سحق "الإدارة الذاتية" في شمال شرقي سوريا والتي تعتبرها أنقرة إرهابية، فقد بنى أردوغان تحالفه الانتخابي على الوعد بمحاربة الإرهاب بحزم مع الاعتماد على الشركاء القوميين لقيادة الأغلبية في البرلمان.
كما من غير المحتمل أن يذعن أردوغان لفكرة حل الجيش الوطني السوري الذي تدعمه تركيا، أو تغيير الوضع الراهن في إدلب حيث تسيطر هيئة تحرير الشام الجهادية، إلى أن يحصل على ما يريد على طاولة المفاوضات.
وفي الوقت الذي بقي فيه الدعم الأميركي لقوات سوريا الديمقراطية "قسد" في سوريا مصدر قلق وإزعاج للعلاقات بين أنقرة وواشنطن، ينبغي على أردوغان اليوم أن يفكر بنقطة مهمة أخرى ألا وهي أن العالم العربي قد بدأ بإعادة علاقاته مع الأسد، ويسعى لإنهاء الوجود العسكري التركي وتقييد النفوذ الإيراني في سوريا، إذ بعد إعادة سوريا للجامعة العربية في مطلع هذا الشهر، أنكر العرب على تركيا تدخلها بصورة ضمنية، وفي بيان مشترك أصدرته إيران في 19 من أيار الجاري، رفضت التدخلات الأجنبية والدعم المقدم للجماعات والميليشيات المسلحة في الدول العربية.
إن عودة العرب للتعامل مع النظام في سوريا يمكن أن تقوي الأسد في سياق محادثات التطبيع مع أنقرة، إذ ذكرت مصادر كردية بأن السعودية والإمارات تشجعان دمشق -بموافقة ضمنية أميركية- على دمج قسد بجيش النظام السوري ضمن الجهود الساعية لتحجيم النفوذ الإيراني، إلا أن هذه الخطوات تتعارض مع مصالح أنقرة هي أيضاً.
يرى بعض المراقبين بأن أردوغان سيسعى لتقديم نفسه كقائد قومي يعلو فوق أي حزب على غرار الأب المؤسس لتركيا مصطفى كمال أتاتورك، وذلك خلال المرحلة الأخيرة من عمله السياسي. غير أن طموحاً كهذا يتطلب منه أن يعتنق مذهب التنوع في الداخل التركي، كما يمكنه أيضاً من السعي وراء مشاريع تعزز فكرة "تركيا القوية" وتساعدها على رسم هذه الصورة.
اعتمدت الاستراتيجيات التي اتبعها أردوغان لترسيخ تحالفه الانتخابي على سردية "تركيا القوية" التي حاربت الإرهاب في كل مكان، وطورت صناعتها العسكرية لتشمل المسيرات المسلحة، وصنعت أول سيارة كهربائية، واكتشفت موارد للطاقة في البحر الأسود، وزادت من نفوذها شرقي البحر المتوسط، وأصبحت من يرسم مسار اللعبة في القوقاز عبر مساعدة أذربيجان على استعادة أراضيها من أرمينيا، ما أدى إلى تشكل منظمة الدول التركية، كما وقفت تركيا في وجه حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي دفاعاً عن مصالحها، وحجمت اليونان وتوسطت بين روسيا والغرب في حرب أوكرانيا لتثبت استقلالها الاستراتيجي.
وعبر الإطراء على الشعور بالاعتزاز بالنزعة القومية، أثار أردوغان مشاعر الخوف على الأمن القومي ووجه إهانة لخصومه، وتمكن من تجنب دفع ثمن الاضطراب الاقتصادي في تركيا، على الرغم من استجابة حكومته الهزيلة لزلزالي شباط وظهور مزاعم حول تفشي فسادها، إلا أن دليل العمل هذا يملي عليه ضرورة مواصلة هذه النزعة القومية والصبغة التي يغلب عليها روح الانتصار لتصل إلى السياسة الخارجية.
قوبل سعي أردوغان لمأسسة تحوله السياسي بمعارضة شعبية أوصلت الانتخابات الرئاسية إلى جولة ثانية، لكن من غير المرجح لها أن تبعده عن المسار الديمقراطي، بيد أن أي قرار ينصاع لقرارات المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان ويقضي بالإفراج عن العشرات من المعتقلين السياسيين سيكون بمثابة مفاجأة كبيرة.
الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي حلم بعيد
تبدو فكرة إحياء المحادثات بشأن انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي بعيدة، لأن أردوغان بحاجة إلى معجزة حتى يسدد الشيكات والأرصدة، وحتى يرسخ حكم القانون وقواعد الديمقراطية، كما أن المشهد الاقتصادي التركي الذي ساء مؤخراً، وتجلى بأزمة مقلقة طالت القطع الأجنبي، يتطلب منه مواصلة الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، غير أن تدفق الاستثمارات الأجنبية على تركيا توقف بسبب سياسات أردوغان الاقتصادية المثيرة للجدل، وغرق الاحتياطي الأجنبي للمصرف المركزي بالجوانب السلبية.
إن براغماتية أردوغان تملي عليه أن يدفع باتجاه استفادة تركيا من موقفها بوصفها عضواً في حلف شمال الأطلسي ومن شراكتها مع الاتحاد الأوروبي، وبما أنه كسب الكثير من اللعبة المزدوجة التي لعبها بين روسيا والغرب، لذا من غير المرجح لأردوغان أن يتخلى عن تلك السياسة، والأهم من كل ذلك هو أنه لن يقلق فلاديمير بوتين بعد اللفتات الاقتصادية التي قدمها له قبيل الانتخابات، والتي شملت إرجاء رسوم الغاز المفروضة على تركيا، كما منح بوتين أردوغان المزيد من الرصيد السياسي يوم 17 من أيار عندما وافق على تمديد العمل باتفاقية الحبوب مع أوكرانيا التي تواسط الرئيس التركي من أجل توقيعها. أما بالنسبة للمصالح الاقتصادية، وأهمها بناء روسيا لمحطة للطاقة النووية في تركيا، إلى جانب تجارة الغاز والحبوب، فستواصل دفع العلاقات الثنائية بين البلدين بالإضافة إلى استئناف الحوار بشأن سوريا وأوكرانيا.
لا أحد يرجح أن تزول التوترات ما بين تركيا واليونان والقبارصة اليونانيين، وذلك لأهمية مصادر الطاقة شرقي المتوسط بالنسبة لأردوغان.
ولكن، على الرغم من خلافات أنقرة المتكررة مع شركائها الغربيين، ينبغي على من يتوقع حدوث شقاق بين تركيا وحلف شمال الأطلسي أن يبرر مزاعمه، إذ بعد المصادقة على دخول فنلندا للحلف في شهر آذار، قد تفتح أنقرة الطريق أمام انضمام السويد وحضورها لقمته المقبلة التي ستعقد في شهر تموز، ولكن من المستحيل لأنقرة أن تتخلص من نظم الدفاع الجوي الروسية إس-400 طالما بقيت علاقتها بموسكو استراتيجية.
التقارب مع الصين
خلال ولايته الرئاسية الثالثة، قد يكرس أردوغان جهداً أكبر لتحقيق ما يعرف بمخطط ممر زانجيزور، وهو طريق للمواصلات يربط أذربيجان بأرمينيا ويمنح تركيا صلة وصل مهمة مع أذربيجان، في محاولة لترسيخ الدور التركي بالقوقاز، والوصول إلى بحر قزوين وتمتين العلاقات مع الدول الناطقة بالتركية في وسط آسيا. وقد يحتاج ذلك إلى تطبيع العلاقات مع أرمينيا، وإدارة التوتر مع إيران، ومواصلة الحوار مع روسيا.
أما بالنسبة للصين، فقد تراجع أردوغان عن انتقاد معاملة بيجين لأقلية الأويغور ما زاد فرصة تركيا بالانضمام إلى منظمة شنغهاي للتعاون التي ترأسها روسيا والصين، وعلى الرغم من قلق بيجين، بوسع أردوغان أن يضغط لتمتين العلاقات مع الشرق.
وكما أعلن نائب مساعد وزير الخارجية الأميركي السابق، ماثيو بريزا، عبر العربي الجديد، فإن الدور التركي القائم على رأب الصدع ومد الجسور بين الشرق والغرب يمكن أن يستمر ولكن أنقرة ستركز الآن على ترسيخ وجودها في المشرق، مع رغبتها بالبقاء على مسافة واحدة مع الغرب، أي مع الولايات المتحدة وأوروبا.
المصدر: Al-Monitor