تحل مع ربيع هذا العام الذكرى الثانية عشرة لانطلاقة الربيع العربي الذي قامت خلاله سلسلة من الاحتجاجات المنادية بالديمقراطية والمناهضة للحكومات في عدد من الدول العربية، حيث بدأ هذا الربيع في تونس، قبل أن يصل إلى مصر، فليبيا، فاليمن، ثم سوريا، فالبحرين، وبعدها الأردن، والجزائر، والعراق ولبنان وغيرها، حيث صدع الربيع العربي قبة الظلم والاضطهاد التي تغطي سماء تلك المنطقة، وكسر المحرمات وجعل المستحيل ممكناً، ولهذا صار الناس يناضلون من أجل كرامتهم وحقوقهم وتحسين ظروف معيشتهم، وأخذوا يتظاهرون في الشوارع، بيد أن أغلب تلك الاحتجاجات ماتزال مستمرة، ما أحدث تغيراً في المنطقة لا يمكن لأحد أن ينكره. إذ على الرغم من القتل والاعتقال والقصف والدمار، خلفت ثورات الربيع العربي أثرها العميق على حرية التعبير وضرورة رفع الصوت والتحدث بكل صراحة أمام الملأ دون أي خوف.
خلال التغييرات، أصبح الراب أحد أهم أدوات المقاومة والانتقاد والاحتجاج على الظلم والديكتاتورية والفساد. تعود نشأة فن الراب إلى الولايات المتحدة، حيث بوسعنا تعقب ظهوره منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي، إلا أنه لم يصل إلى العالم العربي إلا في أواخر التسعينيات، من خلال أغان تصدت للضائقة الاقتصادية ورسمت معالم مشهد الراب في العالم العربي ويعود الفضل في ذلك لزيادة الاتصال بالإنترنت. وهكذا بدأ مغنو الراب العرب تجاربهم بمعالجة كل أنواع القضايا مثل البطالة والفساد والاحتلال والعلاقات بين البشر وغيرها من الأمور. ورويداً رويداً، نمت الحاجة للاحتجاج، فازدهر فن الراب من خلال الاستجابة التي أبداها تجاه الاحتجاجات، وهكذا صرنا نسمعه عند اندلاع الثورات وهو يتردد على ألسنة العامة، فتحول إلى منتج مستقل ازدهر وسط حالة قمع لحرية التعبير.
مايزال فن الراب في أغلب الدول العربية لا يتمتع بشعبية كبيرة إزاء أنواع الموسيقى الشعبية التقليدية التي يفضلها الإعلام الرسمي، كونها تنصاع للرقابة وللسرديات السياسية المحلية، كما أنها خالية من أي معان سياسية تعارض الحكومة، فضلاً عن أنها ترضي الذائقة الموسيقية التقليدية للناس وتحاكي قيمهم، في حين يتم إنتاج الراب بصورة مستقلة، ويتمتع بشعبية بين الجيل المتحمس لتغيير الوضع القائم المتزمت سواء على المستوى الاجتماعي أو السياسي، ولهذا يلجأ الناس لكلمات أغاني الراب بحثاً عن التضامن وللتعبير عن الغضب وطلباً للشفاء في ظل هذا المشهد الذي يرسمه الراب. كما أن بعض أغاني الراب قد شجعت على قيام احتجاجات فصارت تغنى في الشوارع خلال ثورات الربيع العربي وما بعدها. وعلى مدار السنوات الاثنتي عشرة الماضية، اضطر بعض فناني الراب لترك أوطانهم، فواجهوا تغيرات كبيرة في حياتهم، حيث أصبحوا لاجئين، وهذا ما دفعهم لتتبع الحقائق الصارخة من خلال أغانيهم التي صارت تعبر عن المصاعب والمشاق التي يجبر الملايين من الناس على تكبدها عقب تضررهم من الظلم والفساد والحرب.
شهد العقد الماضي العديد من الكوارث في المنطقة، سواء الطبيعية منها أو البشرية، وكان آخرها الزلزال المدمر الذي ضرب سوريا وتركيا وقتل أكثر من 50 ألف إنسان، فزاد من مشاعر الصدمة والألم والخوف والغضب والحزن والعجز، وحطم قلوب السوريين المتعبة أصلاً. ولهذا رفع مطربو الراب، سواء في المنفى أو في أوطانهم، صوتهم من خلال أغانيهم، واستعانوا بمنصاتهم لدعم كل محتاج في المنطقة.
وبما أن العالم العربي يمتد على رقعة واسعة، لذا سنقدم فيما يلي أهم من تركوا بصمة على فن الراب في سوريا ولبنان.
بو ناصر الطفار- لبنان
بما أن لبنان تتمتع بتاريخ سياسي أكثر ليبرالية من الدول المحيطة به، لذلك بقي يحتفظ بحرية تعبير أعلى في المنطقة، وقد أثر ذلك على مشهد الفن التعبيري الثري هناك، إذ في الوقت الذي قام فيه قادة لبنان السياسيون بمحاولات لفرض رقابة على الموسيقى، عمل فنانو البلد على تهذيب المساحة المنيعة لمناقشة الأمور الاجتماعية-السياسية والاحتجاج عليها، ومن بين هؤلاء الفنانين الناشطين الكثر ظهر بو ناصر الطفار، وهو مغني راب ومنتج وكاتب لبناني ذاع صيته منذ عام 2009 مع صدور أول ألبوم له بعنوان: "صحاب الأرض".
وهكذا، وبفضل صوته الجهوري المبحوح، وكلمات أغانيه الذكية، تحولت أعمال بو ناصر إلى جزء من الموجة السياسية التي قامت في بيروت أواخر العقد الأول من الألفية الثالثة، كونها تجاوبت مع الظروف التي سادت بعد الحرب في لبنان، والتي بقيت تسوء بسبب الدولة الفاسدة، وهكذا أنتج هذا الفنان الكثير من الأغاني التي أطلقت فن الراب في منطقة بلاد الشام، حيث عالجت قضية إعادة إعمار وسط بيروت، فتحولت إلى إحدى الرموز القليلة للنشاط الذي ينتقد ما لا يقال ويطول القادة السياسيين في المنطقة في الوقت الذي واصلت فيه حالة التخويف من سلطة الدولة تقييد أسلوب الفنانيين في التعبير.
أبدى فن الراب الذي قدمه الطفار حالة تضامن مع قضايا مختلفة تقوم على فكرة المقاومة، إذ في الوقت الذي ركزت فيه أولى أعماله على سوريا، أصبح أحدث عمل له يدور من جديد حول بلده، فبعد انفجار مرفأ بيروت في عام 2020، وعدم محاسبة أي أحد عليه، مع استمرار الأزمة السياسية في لبنان، عبرت أغنية "تار" عن إحباط الطفار واستيائه من الحكومة اللبنانية الفاسدة. وبما أن التورية أسلوب ذكي للمناورة باللغة العربية، لذا استعان الطفار به بطريقة فنية في مواضع تناسبه، ثم صار يتلاعب بالكلمات باللغة العربية وذلك عندما أنتج أغنية بالتعاون مع شركة Hello Psychaleppo السورية في أواخر عام 2020. في تلك الأغنية، لعب الطفار على كلمة الأمل، بما أن أحد الأحزاب قد سمى نفسه بحزب أمل، ويضم هذا الحزب أمراء الحرب الفاسدين الذين مايزالون يحكمون لبنان، إذ يغني فيها: "
مقبرتي هاد
ضاع عمري فيه
مش بلدي
لو ما أهلي فيه
عندك ضوّ أمل؟
تتهنّى فيه
بكرا الحركة بتطفيه
حالياً يقيم طفار في تركيا، وبعد الزلزال الأخير، استعان بمنصته على إنستغرام لنشر المعلومات حول المفقودين، وأيضاً لجمع التبرعات.
المُعَرّي- سوريا
يعتبر أمير المعري من أصغر وأفصح مطربي الراب في مشهد الراب السوري، إذ في عام 2019، أي عندما كان في العشرين من عمره، أطلق أولى أغنياته تحت اسم: "عكل الجبهات" والتي حقق بموجبها شهرة على المستوى العالمي، كما اشتهر في بلده بانتقاد النظام السوري الذي تدعمه إيران وروسيا في قمعه للشعب.
وبدل الرضوخ للضغوط وتقبل الوضع الراهن في إدلب، أخذ أمير ينتقد وبشكل صريح كل الأطراف المتورطة في القصف العنيف الذي شهدته هذه المدينة، إلى جانب انتقاده للقمع والتطرف والفساد، فكسب قلوب الناس كونه عبر عن معاناتهم وسلط الضوء على ظروف الحياة الصعبة في المنطقة.
بيد أن هذه الأغنية عرضته للتهديد بالقتل، ففر إلى تركيا، وفي الفيديو يعلي أمير من شأن الحياة المدنية، حيث يعرض 62 شخصية من المجتمع، بينهم معلمون وطلاب ومسعفون ومنقذون من الخوذ البيضاء، وقد قام فنان ومنتج لبناني اسمه الراس بإنتاج هذه الأغنية، حيث تمت الاستعانة بإيقاعات مكثفة ومدوية لتعبر عن الأضرار الرهيبة وخطورة الوضع.
هذا وينشر أمير أغاني الراب التي يقدمها بصورة منتظمة ومركزة، إذ يغني في إحدى أغانيه:
ولسا بيحكوا شمال محرر
إزعل ع مستقبلي الدراسي
ولا ألفين طالب انطردوا من الكراسي
ولا إزعل ع أستاذي الي رح افقدو
والي وعدني ما رح نيأس فمين بدي واسي
يقيم أمير في الجنوب التركي، ومن هناك شارك روابط من أجل دعم الفرق التي تقوم بالعمل الإغاثي في شمال غربي سوريا.
بو كلثوم-سوريا
منير بو كلثوم منتج موسيقي وكاتب أغان ومطرب راب ومغن سوري يجمع بين موسيقى الطرب الفلكلورية العربية التقليدية مع نمط الهيب هوب وموسيقى البلوز والموسيقى الشعبية الراقصة، وقد تطور ليصبح فناناً منذ أن أطلق أول أغنية له في عام 2011، إذ يعكس التغيير بأسلوبه الغنائي التغيرات التي طرأت على حياته، حيث يمثل كل ألبوم من ألبوماته الثلاثة مرحلة في حياته، وتعبر كلها عن صدمة شخصية وجمعية عانى منها هو وغيره بسبب القصف والقتل في سوريا.
كتب عن تجربة نزوحه من بلده ولجوئه إلى هولندا حيث تعين عليه أن يعالج تبعات اضطراب ما بعد الصدمة. وفي العمل الذي يدور عن تلك الفترة، يغني بو كلثوم أغانيه بأسلوب راب غاضب وساخط، حيث يصف معاناته المستمرة وعجزه عن تغيير ما يحيط بواقعه المتمثل بالمدينة الفاسدة، كما يتحدث عن النازحين، وهو يدرك ما تعنيه فكرة اضطرار المرء لترك بيته ووطنه ليعيش في مجتمع جديد.
يمثل ألبوم "طالب علم" الذي أطلقه في عام 2022 نقطة تحول جديدة في عمل بو كلثوم، حيث تغيرت نبرته من الغضب إلى الشفاء، ويشتمل الألبوم على 12 أغنية ونرى فيها بو كلثوم يتحدث عن مشكلات نفسية وآلام دفينة ومعاناة ونضال. إذ في أغنيته "طالب علم" نسمع بو كلثوم وهو يتقدم، ويغني الراب بتدفق من خلال فصيح الكلام مع إيقاع بطيء وثابت الوتيرة يسرد معه كيف سيبقى أبداً طالب حياة، وفيها يقول:
تعذبت كتير بكيف حدود للبشر حط
بنفس الوقت تعلمت كيف ما حط بشر ند
دايماً كنت طفل غاضب
كل ما عصب أخبط راسي حتى جبيني ينز
كنت مقضيها ضايع بالنص
بين رفقاتي بالجامع، وصحابي النص نص
ورفقاتي بالشارع، ومثقفين القهوة
عند هدول كنت كافر وهنيك كنت غز
كنت كلهم بيعهم أدويتي بالسر
مشقف وهويتي بالنص
والشي الوحيد يلي لسا ثابت
إني لسا بتعلم
هذا ولقد أسس بو كلثوم والراس تحالف بيروت فور سيريا وهي حملة لجمع التبرعات تهدف لمساعدة المتضررين من الزلزال في سوريا.
الراس- لبنان
الراس أو مازن السيد، هو مطرب راب وصحفي ومنتج وناشط لبناني ظهر قبل 15 عاماً، واتخذ هذا الاسم ليعبر عن ذكائه في كتابة كلمات الأغاني وبراعته في مجال الفصاحة والخطاب. عاش كل حياته في طرابلس وتعامل مع فنانين من مختلف بلاد العالم العربي، بينهم المعري وذلك في أغنية "عكل الجبهات"، كونه يدرك تماماً توترات المنطقة المعقدة على الصعيد الاجتماعي-السياسي.
ومن أفضل أغانيه، أغنية بعنوان: "من كوكب الفيحاء"، التي يحيي فيها مدينته طرابلس المليئة بالمتناقضات، مثل الحياة والموت والألوان والقتامة والغني والفقير والعام والحميمي.
يعتبر هذا الشاب حكواتي المدينة، كونه وضعها على الخريطة في ظل التهميش الذي عانته بسبب عدم استقرار الظروف في لبنان. وفي هذه الأغنية، تم ضبط أوتار متفرقة على مسار يقوم على 90 ضربة بالدقيقة، لتتدفق الأغنية بشكل هادئ وثابت حيث تروي حقائق مريعة عن مدينته طرابلس، إذ يغني فيها:
هي الغنية لولاد المدينة بالغربة
بسمات وجوه قلوب حزينة بالغربة
هي الغنية لكل يلي حياتن صعبة
وقدروا طلعوا برا حدود جدران العلبة
هي الغنية للي ساردين باردين أو من غير دين
على قد إجرين فاردين
بساطن، انبساطن من راسن
زوايا شاردين ماردين"
سابين سلامة - لبنان
في الوقت الذي هيمن فيه مغنو الراب الذكور على مشهد الراب، بما يعكس حالة انعدام توازن جندرية ماتزال مسيطرة على العالم العربي، ظهرت العديد من الفنانات في هذا المجال خلال السنوات الخمس الماضية، وعلى رأسهم سابين سلامة، وهي صحفية ومعالجة درامية نفسية لبنانية تقيم في بيروت، وتبحث من خلال أعمالها في الأزمة الاقتصادية السيئة التي غرق بها بلدها عقب انفجار مرفأ بيروت، وتستخدم سابين موسيقاها لتعبر عن حالة انعدام المساواة على المستوى الاجتماعي، إلى جانب تطرقها للإدمان والصحة النفسية والعقلية.
فازت سابين بجائزة الصندوق العربي للفنون والثقافة لتنتج أول ألبوم لها: "التعايش مع البقاء"، في عام 2022، حيث قدمت من خلاله أغنية "علبة بقلب علبة"، لتعبر عن الشباب في بيروت والذي صار يلجأ للمخدرات والكحول ليهرب من واقعه المزري، والتحديات النفسية والعقلية، وصعوبة بناء مستقبل في هذا البلد، وتستعين سابين بالكوميديا السوداء والأسلوب الساخر وهي تتحدث عن الزمن الصعب الذي تعيشه بيروت، أما إيقاعات أغانيها فهي بسيطة وصادمة، لتعكس جدية الموقف وخطورة الوضع، ولهذا تغني:
مروكسين
مش صاحيين مش واعيين
منتش من العرق، موترين
منهش للغضب منأزين
منش عالعتب كيروسين
يعني بارافين
متل الغازولين
يلي منو مقطوعين
ولا مطرح واصلين
هيدي المدينة قاسية
بطوق ع نفسي الوجع
دوم بتجيني بأحلى عاصفة
بدعوسها وبرجع بلزقها
إباء منذر - سوريا
إباء التي تعرف أيضاً باسم آني وهذه الكلمة تعني أنا بلهجة جنوبي سوريا، مطربة ومؤدية ومغنية راب سورية من الجولان المحتل، وتمثل أغنيتها: "لما نموت" سلسلة من الأسئلة الوجودية التي تطرحها وهي تؤدي الأغنية، وفي الفيديو الذي يبدو تمثيلياً وشاعرياً، نرى إباء وهي تؤدي بكل يأس، ويتخلل الأغنية لقطات للاجئين من مختلف بقاع العالم، وبعض تلك الصور مثير للحزن والأسى ولهذا يبدو الفيديو وكأنه تحذير حساس، ومن خلال الإيقاع المتقطع والغريب، نسمع إباء وهي تغني الراب بحزن وتتطرق لمواضيع حياتية وجودية، حيث تغني:
أنا لما موت بفوت
لجوا دماغي بفوت
بفيقني ما بفيق
طبعاً حلمي أني عميق
عم أسرح بشي مسرح
أو عم أطمح ليتصلح
أو يتحرر المطرح
أو عم أطرح أسئلة
كل أجوبتها سكوت
المصدر: Gal-dem