لفت نظري قبل أيام تسجيل مصور لسيدة سورية مقيمة في إسطنبول تشكو من سوء معاملة موظفي "الأمنيات" أي الدوائر الحكومية المختصة بالسجلات المدنية مع المراجعين السوريين. وتقول السيدة التي تقيم في تركيا منذ 15 عاما وتحمل الجنسية التركية وتتقن لغة البلاد، إنه بمجرد أن يشعر الموظف أنها سورية، أو من أصل سوري، سرعان ما تتغير معاملته ويتجهم وجهه، ويفتعل معها مشكلة لعرقلة معاملتها. لكن طبعا، لا يفوتها أن تشير الى أنه ليس جميع الموظفين بهذا السوء، لكن من سوء طالعها أن لم تصادف ذلك اليوم أي موظف تعامل معها بلطف واحترام.
مشكلة عدم تعاون أو عدم لباقة الموظفين الحكوميين موجودة في كل مكان، حتى في الدول المتقدمة
وهذه شكوى متكررة من الموظفين الحكوميين الأتراك من مجمل الجنسيات، وليس السوريين وحدهم، خاصة في الأمنيات والمطارات، لكن ربما "التكشيرة" تكون أكبر في وجه السوريين، نظرا لكثرة عددهم، خاصة في إسطنبول. وقرأت قبل نحو عامين، أن سيدة هولندية انتحرت في مطار إسطنبول لأن موظفي المطار فوتوا عليها رحلتها. وأنا شخصيا، عطّل هؤلاء الموظفون رحلتي مع أفراد عائلتي قبل سنوات، ما اضطرني لشراء بطاقات جديدة بقيمة 2000 دولار، برغم إلحاحي على الموظف وتنبيهه إلى أنني على وشك فقدان الطائرة، لكنه لم يكترث، وسلمني الأوراق على موعد الإقلاع تماما، فلم نتمكن من إدراك الطائرة.
والواقع أن مشكلة عدم تعاون أو عدم لباقة الموظفين الحكوميين موجودة في كل مكان، حتى في الدول المتقدمة. وفي أوروبا، هناك احترام للقانون بشكل عام، لكنه احترام شكلي ورقي، مع تجاهل روح القانون ومقاصده. ولا يتردد الموظف في تعطيل معاملتك لأي سبب بسيط أو غير منطقي بدعوى أنه لا يريد مخالفة القانون. لكن المعاملة نفسها قد تمر إذا جربت عرضها على موظف آخر في المكان نفسه، فضلا عن أن العديد من الموظفين ليس لديهم إلمام كاف بالقوانين التي تدخل في نطاق عملهم، خاصة ما يتصل بالتعامل مع الأجانب واللاجئين. لكن بشكل عام، لا توجد فظاظة في التعامل، حتى لو كان الموظف يحمل في نفسه شيئا من العنصرية، لأن هناك قانونا يردعه إذا اشتكى عليه صاحب العلاقة.
إذن، ثمة فظاظة في تعامل بعض الموظفين تصل أحيانا حد العنصرية والبربرية مثل الضرب وربما إطلاق النار على من يقومون بخرق حظر التجوال الخاص بفيروس كورونا في بعض البلدان، أو البلادة في تفسير القوانين، وقتل روحها ومقاصدها مع التمسك بنصوصها وحرفيتها، مثل منع الناس من تناول الوجبات داخل المطعم، حتى لو كان بينهم تباعد نظامي، بينما يتم التغاضي عن تجمهرهم أمام المطعم متلاصقين بعضهم بعضا، لأنه لا يوجد نص قانوني يمنع ذلك.
ثمة بلاد مثل سوريا، ابتكرت حلولا "خلاقة" معروفة للتعامل مع الموظفين الحكوميين، ترتكز إجمالا على دعامتين: الرشوة أو الواسطة
لا شك أن الموظف الحكومي في كل أنحاء العالم يواجه في بعض الأحيان ضغوطا في العمل، خاصة في القطاعات المزدحمة بالمراجعين، ولا يملك الوقت ولا الأعصاب لشرح القوانين لكل مراجع، لكن الموظف العاقل، والمدرب من جانب مؤسسته على العمل تحت الضغط والتعامل بقدر من الإنسانية والاحترام مع المراجعين، يستطيع أن يسهل على نفسه وعلى المراجع المتلهف لإنجاز معاملته، والجاهل ربما بالقوانين، بأن يبين له ما عليه فعله لتسير أموره بشكل سليم، ولا يرمي الأوراق بوجهه، دون شرح أو تفسير. كما أنه مطلوب من المراجع أن يحرص على استيفاء الشروط والأوراق المطلوبة قبل التوجه للدوائر الرسمية، مع شرح طلبه للموظف بشكل مختصر ومبسط.
ولا بد هنا أن نشير الى أن ثمة بلاد مثل سوريا، ابتكرت حلولا "خلاقة" معروفة للتعامل مع الموظفين الحكوميين، ترتكز إجمالا على دعامتين: الرشوة أو الواسطة، وتبقى روح القانون فضفاضة، إما تكون مرحة في حال توفر إحدى الركيزتين، أو عسيرة إلى حد الجنون. وفي إحدى الحالات مثلا، راجعت سيدة الدوائر المختصة للحصول على راتب زوجها التقاعدي المتوفى، لكنهم اكتشفوا أنها غير متزوجة علما أن لديها عشرة أطفال من زوجها، ولديها كل الإثباتات القانونية الخاصة بالزواج. وبرغم أنها وكلت محاميا، لكنها لم تحصل على الراتب التقاعدي حتى الآن بعد مرور أكثر من ثلاثة أعوام على وفاة زوجها.