طرأ تغيير ملحوظ على عادات الدفن والعزاء لدى المهجرين السوريين، يتحكم في ذلك ظروف النزوح وتشتت العائلات بعد التهجير، وفصل المسافات الطويلة بين أفراد العائلة الواحدة أو القرية أو البلدة أو المدينة. واضطر آخرون إلى التخلي عن بعض الطقوس والمراسم أو تبديلها تماشياً مع الحال الجديد.
"كل فرد تحت سماء"
يعمد المهجرون في إدلب إلى دفن موتاهم في مكان الوفاة بالقرب من مسكنهم، والبعض الآخر في مكان اتخذه أهالي القرية أو البلدة مكاناً موحداً لدفن الوفيات، لكن الوجه الأول هو الغالب، وفقاً لمهجرين تحدثنا إليهم خلال إعداد التقرير.
نبدأ بـ"محمد العلي" وهو مهجر من قرية عابدين جنوبي إدلب، اضطر لدفن أخيه في قرية "بيرة أرمناز" غربي إدلب، إلى جانب ابن عمٍ له، يقول: "وفي المقابل دفنّا اثنين من أبناء عمومتنا في قرية "كفرجالس" شمالي غربي إدلب، وهكذا رقد أولاد العائلة الواحدة في مناطق مختلفة".
يضيف "العلي" لموقع تلفزيون سوريا آسفاً أنّه ليست هناك أرضٌ واحدة باتت تجمع وفيات أبناء القرية أو العائلة الواحدة، وهو ما يحول من الزيارة الدورية للقبر.
يستطرد "العلي" حديثه: "أقيم أنا في سلقين، ووالدي في عفرين بريف حلب، وأخي في اعزاز، في حين قبر أخي المتوفًّى في بيرة أرمناز بريف إدلب".
يوضح محدثنا أنّ العودة ما زالت أملاً معقوداً لدى المهجرين السوريين، بعد رحيل النظام، إلا أنّ دفن الموتى في مكان التهجير والنزوح سيضع عراقيل إضافية في الزيارة مستقبلاً، أبرزها بُعد المسافات.
مكان الدفن
مكان الدفن في الغالب، هو زاوية في إحدى زوايا مقابر القرية أو المدينة التي نزح إليها المهجّر، في الشكل الطبيعي إلا أنّ "الإشكالات" التي كانت تطرأ على بعض المهجرين هي ضيق مساحة المقابر، وخاصةً بعد تزايد أعداد المهجرين إلى المنطقة وحالات الوفاة والضحايا سواء بظروف طبيعية أو أوبئة أو بفعل المجازر والهجمات العسكريّة.
يقول "عبد العزيز نجم" مهجر من مدينة خان شيخون، إنّ سكان مدينته اتخذوا من مدينتي إدلب والدانا مركزين رئيسيين لدفن موتى المدينة القاطنين في المنطقة، على اعتبار أنّهما تجمع كبير لمهجري خان شيخون.
يوضح "نجم" في حديث لموقع "تلفزيون سوريا" أنّ أبناء المدينة يدفنون الموتى في زاوية المقبرة، إلى جانب بعضهم بعضاً، وخاصةً الأقارب وأبناء العائلة الواحدة.
البحث عن أرض
إبراهيم الخطيب" مهجر من قرية كفروما جنوبي إدلب، يشرح لموقع "تلفزيون سوريا" عن صعوبات تأمين قطعة أرضٍ لدفن موتى القرية، الذي تمّ لاحقاً من خلال جمع تبرعات من أهالي القرية، في ظل مشقة مادية يعيشها المهجرون. يوضح أنّ "التبرع بحسب إمكانية كل عائلة، وفي النهاية تمكنا من شراء أرضٍ صغيرة قرب بلدة حربنوش شمالي إدلب، بكلفة وصلت لـ 800 ألف ليرة سورية".
"مصطفى إسماعيل الرج" أحد وجهاء مدينة عندان شمالي حلب، يتحدث عن تجربة أهالي المدينة المهجرين في تأمين مقبرة بديلة تسهل عمليات الدفن للأهالي، يقول لموقع "تلفزيون سوريا"، كانت البداية بالتنسيق مع مجلس مدينة دارة عزة غربي حلب، الذي وهب أرضاً من متبرعين لتكون مقبرةً لوفيات السكان المهجرين.
يتابع "الرجّ": "بعد تأمين الأرض، جهّز سكان مدينة عندان المهجرون القضايا الرئيسية للمقبرة من مغسّل وأكفان إلى جانب المواد المستخدمة في تجهيز القبور كالقرميد الأسمنتي، وآليات الحفر وغيرها".
يوضح محدثنا أنّ المقبرة لم تكن حكراً على مهجري مدينة عندان، بل لكل مهجري مدينة حلب وريفها، كما دُفن فيها مؤخراً مهجرون من أرياف إدلب.
المراسم اختلفت
يعرف الأهالي في المناطق التي تأخذ طابعاً ريفياً وخاصةً المدن والبلدات الصغيرة، بنبأ الوفاة عبر إذاعته في مآذن المدينة أو البلدة عبر المنصات الصوتيّة، وهو ما لم يعد ناجعاً في ظل تشتت المهجرين في مناطق شتّى، لتحل وسائل التواصل الاجتماعي بديلاً في إذاعة الخبر أو أحياناً في تقديم "واجب العزاء"، وهو ما أشار له "سلطان الأطرش".
"الأطرش" وهو مهجر من قرية موقا جنوبي إدلب، يسرد أبرز نقاط الاختلاف التي رصدها خلال عزاء خالته مؤخراً. يقول لموقع "تلفزيون سوريا"، إنّ التشتت الجغرافي وبعد المسافات يحرم ذوي الفقيد من الوداع الأخير، وخاصةً للمغتربين أو ممن يقطنون في مناطق بعيدة، أما سابقاً فكنّا نجتمع في القرية، وصار يقتصر الوداع الآن على مقاطع مصورة أو صور أخيرة.
ويضيف: "في أيام العزاء الثلاثة كان يجتمع أهالي القرية على مدار اليوم، اليوم لم نعد نرى إلا القليلين".
بينما "نجم" يلفت إلى نقطة اختلاف بين عزاء اليوم وقبل التهجير، بمكان العزاء إذ كانت مراسم استقبال المُعزّين، في بيوت الشعر "خيام كبيرة" أما اليوم ففي المنزل ولساعات محددة، ويشارك فيها سكان المنطقة الجديدة وبعض الأقارب.
كيف تنظم عمليات الدفن؟
تأخذ المجالس المحليّة في ريف إدلب، دوراً تنظيمياً في عمليات الدفن، بحسب "عبد الله الخطيب" رئيس المجلس المحلي في بلدة كللي بريف إدلب، إذ تعمل على توفيق عمليات الدفن في مقابر البلدة بين المهجرين والمقيمين، بحسب الإمكانيات المتوفرة والتي تتمثل بشكل رئيسي بتناسب المساحة المتوفرة مع أعداد الوفيات وتزايدهم.
يقول "الخطيب"، لموقع "تلفزيون سوريا" إنّ مقبرة بلدة كللي منذ عام 2012، فتحت أبوابها لدفن موتى مهجري جميع المناطق السوريّة سواء بعمليات القصف أو العمليات العسكرية والمعارك المختلفة، إضافةً إلى الوفيات بظروف طبيعية وخصص المجلس قسماً خاصاً للمهجرين على اعتبار أنّهم يفضلون دفن أقاربهم أو أبناء مناطقهم إلى جانب بعضهم بعضاً، "وبدورنا نظمنا هذه العملية دون أية تفرقة بين المقيم والمهجر إلى أن وصلنا لمرحلة استنزفت فيها مساحة الدفن في المقبرة كلياً".
ويتابع: "قرر أهالي وأعيان البلدة، مؤخراً شراء أرضٍ لتحويلها إلى مقبرة جديدة للبلدة من تبرعات سكان البلدة، مقيمين ومغتربين"، ويوضح أنّ المجلس المحلي حلّ بدور تنظيمي خلال هذه الخطوة، ويعمل في الوقت الحالي مع مهجري المدينة والمخيمات المحيطة فيها البالغ عددها نحو 130 مخيماً إلى الإقدام بخطوة مماثلة لافتتاح مقبرة مستقلة تستوعب المهجرين، وكل جزء منها يُخصص لمنطقة أو قرية أو بلدة بالتوافق فيما بينهم.
ويلفت "الخطيب" إلى أنّ عمليات الدفن كانت خلال السنوات الماضية وما زالت حتى اليوم مجانية بمساندة فرق "الدفاع المدني السوري".
يعتبر "موسى زيدان" عضو مكتب الإعلام والمناصرة في "الخوذ البيضاء"، أنّ عمليات الدفن للوفيات أو القتلى في السلم والحرب من المهام الأساسية التي تنفذها فرق الدفاع المدني السوري، لا سّيما في ظل ظروف الحرب والنزوح والقصف وتشتت العائلات، وأيضاً ارتفاع عدد القتلى بشكل كبير في المجازر التي ترتكبها قوات النظام وروسيا أو بالتفجيرات، إلى جانب وجود عدد كبير من الجثث والتي قد تكون مشوهة أو محترقة ولم يتمكن ذووها من التعرف إليها.
ويستطرد: "فيما يخص حفر القبور بشكل عام، تحفر الفرق بطلب من الأهالي والفعاليات المحلية قبوراً ضمن المقابر المخصصة أو في أراضٍ يحددها الأهالي، في حال الحاجة لذلك، باعتبار أن قسماً كبيراً من الأراضي صخرية ولا يمكن الحفر فيها بالمعدات اليدوية فيتم الاستعانة بفرق الدفاع المدني السوري التي تمتلك المعدات، كما توجد مهمة إضافية للدفاع المدني السوري بهذا الخصوص وهو الكشف عن المقابر الجماعية ونقل الجثث للمستشفيات لتؤدي دورها بإجراءات التعرف إليها وإعادة دفنها".
"مجهولو الهوية"
يضيف "زيدان" لموقع تلفزيون سوريا: "يتم التنسيق لدفن الوفيات مع الفعاليات المحلية والمستشفيات، ففي حال المجازر والتفجيرات التي تحصل في الشمال السوري، وباعتبار أن فرق الدفاع المدني السوري تستجيب لهذه الحوادث وتنتشل الجثث فتنسق مع الفعاليات المحلية في المنطقة نفسها لدفن هذه الجثث المجهولة الهوية والتي لم يتمكن أحد من التعرف إليها، فتعمل الفرق على نقل الجثث المجهولة الهوية والأشلاء إلى المستشفيات وتوثق الطبابة الشرعية فيها هذه الجثث بشكل مفصل، في حين تحفر فرق الخوذ البيضاء القبور، سواء ضمن الأماكن المخصصة في كل بلدة أو مدينة، أو في مكان مخصص جديد، ويتم تحديد مكان الدفن بالتنسيق مع الفعاليات الأهلية والمحلية في كل منطقة، وفي حال كان الدفن خارج المقابر يكون ضمن أراضي الوقف أو ضمن الأملاك العامة، وهناك العشرات من المقابر الجماعية التي دفن فيها عشرات الجثث المجهولة لأشخاص كانوا ضحايا لمجازر ارتكبتها قوات النظام وروسيا أو بسبب التفجيرات".
كما تعمل فرق الدفاع المدني على "دفن الوفيات التي لا يوجد لها أقرباء أو الوفيات بسبب حوادث السير والتي لم يتعرّف إليها أحد بعد خضوعها لعمليات توثيق من قبل المستشفى، في حين لا تختلف الإجراءات بين المقيمين والنازحين أو في المدن أو المخيمات فهي متشابهة بشكل كبير"، وفقاً لـ"زيدان".
ضحايا كورونا
مع انتشار فيروس كورونا المستجد، بات على عاتق فرق الدفاع المدني دفن جميع الوفيات المصابة بالفيروس باعتباره يملك فرقاً مدربة ومؤهلة على التعامل مع هذه الحالات لمنع انتشار العدوى بالفيروس، بحسب محدثنا "زيدان".
ويوضح أنّ فرقاً مختصة من الدفاع المدني السوري عددها 32 فريقاً، تنقل الوفيات من مراكز الحجر الصحي والمستشفيات الخاصة بفيروس كورونا ليتم دفنها وفق إجراءات ومعايير السلامة لمنع انتقال العدوى، ودفنت الفرق منذ تسجيل أول حالة وفاة في 18 آب حتى 23 كانون الأول 355 حالة.