في نهاية القرن العشرين بحثنا بشغف عن تلك الروايات الغربية التي تتحدَّث عن الحب من منظور يختلف عمَّا عرفناه في المجتمعات العربية، فتفاعلانا بقوَّة مع رواية (الحب في زمن الكوليرا) 1985 للكاتب الكولومبي Gabriel Garcia Marquez التي تتحدَّث عن الحب الذي يستمر إلى ما لا نهاية، ويتجاوز العالم بماديته وقشوره، وكم تمنينا أن تنتهي هذه الرواية بزواج البطلين، على الرغم من كهولتهما، فالسرد الدرامي الذي يتحدَّث عن مشاعر الحب والذي ينتهي بالارتباط أكثر بكثير من ذلك الذي يتحدَّث عن الانفصال؛ ذلك أنَّ الزواج كان يعني في مرحلة ما الأمن الاقتصادي والقبول الاجتماعي، بمعنى آخر كان الزواج يشكِّل مؤسسة اجتماعية متكاملة.
ومن المهم أن نشير إلى نقطة مهمة وهي أنَّ الانفصال لم يكن يشكِّل محور معظم الروايات التي تحدَّثت عن العلاقات العاطفية الفاشلة، بل كان نقطة النهاية التي توضع في آخر سطر الرواية، ومن بعدها يسدل الستار، ليبقى القارئ أسير التفكير فيما قرأه، وهو كيف انحدرت العلاقة بين الزوجين حتى وصلت إلى الانفصال، وبذلك كانت رواية (آنا كارنينا) 1877 للكاتب الروسي Leo Tolstoy تمثِّل هذا النموذج بشكل قوي، إذ إنِّ الرواية تبين أنَّ الحب الذي وقعت فيه البطلة المتزوجة كان سبباً في تعاستها وانتحارها، فبعد أن انفصلت عن زوجها، وهربت مع حبيبها، لم يبق الحب كما توقَّعت له أن يكون، ففقدت الثقة بكلِّ من حولها، وانتهت الرواية نهاية تراجيدية فجائعية، بعد أن عشنا خلال صفحات الرواية مشاعر الحب حتى الثمالة.
ومع بداية القرن الحادي والعشرين بدأت الحركات النسوية تتَّضح بشكل كامل، وبسبب تلك النظريات عرفت النساء حقوقهنَّ القانونية والاجتماعية، وتكوَّن وعيهنَّ الخاص بدورهنَّ المهم في المجتمع، فأصبحت لديهنَّ القدرة التامة على اتِّخاذ قراراتهنَّ فيما يخصُّ حياتهنَّ الزوجية. وبدأ الطلاق يظهر بكثرة بوصفه خياراً مشروعاً للمرأة، تتخلَّص به من العلاقات غير الصحية والمسيئة، وتمضي باتجاه بناء حياتها من جديد، خارج الأطر التقليدية. وبالطبع كانت الرواية أولى الأجناس الأدبية التي ترصد هذه التحولات الجندرية التي طرأت على العلاقات الاجتماعية والأسرية، وأصبحت موضوعات الطلاق والتعافي منه مادة بديلة عن موضوع الارتباط أو الزواج الذي كان يعدُّ أساساً للسعادة، ونهاية مثالية للعلاقات الإنسانية بين الجنسين.
***
وبدأت الروايات الغربية في هذه الفترة تقدِّم وجهات نظر أكثر تعقيداً حول العلاقات الزوجية، مسلطةً الضوء على جوانب نفسية واجتماعية للطلاق، وعلى مشاعر الخيبة والغضب والحزن التي تصاحب انهيار الزواج، ولكنَّها أيضاً قدَّمت الطلاق بوصفه نقطة انطلاق جديدة للنساء؛ لاستعادة هوياتهنَّ، واكتشاف قدراتهنَّ الشخصية، والحصول على استقلالهنَّ الذاتي. ففي رواية (بعد أن أقول نعم) التي نشرت عام 2014 للأمريكية Taylor Jenkins Reid تركِّز الكاتبة على فكرة التعافي من الطلاق، بعد أن يقرِّر الشريكان الانفصال لفترة مؤقَّتة عن بعضهما البعض؛ وذلك لإعادة ترتيب أمور حياتهما، والتأكُّد من قدرتهما على استعادة الحب ثانية، وخلال هذه الفترة يكون هناك متَّسع من الوقت لتبحث البطلة عن ذاتها، بعيداً عن فكرة الزواج التقليدي الذي أرهقها، فتحاول فهم نفسها، ومعرفة احتياجاتها الشخصية، وتسعى لبناء حياتها من جديد.
وبذلك بدأت الروايات التي تتناول الطلاق في الغرب تُبرز أصوات النساء في الروايات بطريقة أكثر مباشرة وقوة، فقدَّمت الروائيات الغربيات قصصاً عن النساء اللواتي يقاومن الأدوار التقليدية ويبحثن عن الحرية من خلال الطلاق، ورواية (الضوء الذي فقدناه) للكاتبة الأمريكية Jill Santopolo التي نُشرت في عام 2017 مثال على ذلك، إذ تبدأ البطلة بعد الطلاق رحلتها في إعادة اكتشاف نفسها، وتحقيق أهدافها التي كانت قد تخلَّت عنها سابقاً بسبب التزاماتها العائلية، من خلال تجربة الطلاق، تكتشف إمكانياتها الحقيقية، وتبدأ بممارسة شغفها، وحينها فقط تدرك معنى حياتها، فصحيح أنَّ الطلاق كان حدثاً مؤلماً في هذه الرواية، إلا أنَّه شكَّل فرصة للنمو الشخصي، والتحرر من قيود الأدوار الاجتماعية التقليدية.
***
علاوة على ذلك، فإنَّ الروايات الغربية لم تعد تقتصر على تقديم الطلاق بوصفه خياراً فردياً فقط، بل توسَّعت لتوجِّه نقداً أعمق للبنية الاجتماعية التي كانت تفرض أدواراً محدَّدة على النساء، فالعديد من الروايات استخدمت الطلاق لنقد المجتمع الأبوي الذي يعزِّز القيود التقليدية، ويحدُّ من حرية النساء، من خلال هذه الروايات، تمكَّنت النساء من رؤية الطلاق على أنَّه قرار شخصي، وفعل تحرري يعكس رفضاً صارماً للهيمنة الذكورية على حياتهنَّ.
كما تقدِّم رواية (جيد حقاً، في الواقع) 2023 للكاتبة الكندية Monica Heisey تجربة شخصية لامرأة في الثلاثينيات من عمرها تنفصل عن زوجها، وتقع نتيجة ذلك في أزمة نفسية تسبِّب لها الاكتئاب، وعلى الرغم من ذلك لا تستلم، وتمضي في طريقها للتعافي، فبطلة الرواية تمثِّل نموذجاً لرحلة تمكين المرأة بعد الانفصال، من خلال تسليط الضوء على كيفية تجاوزها لتوقُّعات المجتمع، والتحرر من قيود العلاقة السابقة، فنرى كيف تتغلَّب على التحديات النفسية والاجتماعية، وكيف تعيد تعريف نفسها بعيداً عن صورة المرأة المرتبطة بالشريك.
يمكن القول إنَّ تطور الرواية الغربية في تناول موضوع الطلاق يعكس التغيرات الاجتماعية التي شهدها العالم الغربي، خاصة في العقود الأخيرة، إذ أصبحت الروايات أكثر اهتماماً بتقديم صور متعددة للعلاقات الزوجية، ومن خلال هذه الروايات، نجحت الكاتبات في طرح أسئلة مهمة حول دور المرأة في المجتمع والأسرة، واستخدام الطلاق كأداة نقدية لتفكيك البنى التقليدية التي تحدُّ من حرية النساء واستقلالهنَّ، وبذلك ساهمت هذه الروايات في تعزيز وعي الأفراد والمجتمعات بضرورة النظر إلى الطلاق كمرحلة من مراحل التطور الشخصي والاجتماعي التي تفتح آفاقًا جديدة للتفكير في العلاقات الإنسانية من منظور أكثر عمقًا وفعالية.