قدمت إيران لنظام الأسد، بحسب وثيقة صادرة عن الشؤون الرئاسية الإيرانية سربتها جماعة "خلق" المعارضة، ديونًا تحت اسم الدولة السورية قدرت بـ 50 مليار دولار، شملت صفقات سلاح، وقروضا مالية، وخطوط ائتمان نفطية. وكان من ضمن التسريبات مبادئ اتفاقية "الاستراتيجية الشاملة" التي وقعها الرئيس رئيسي قبل وفاته في أثناء زيارته لسوريا عام 2023 مع بشار الأسد. وتضمنت الاتفاقية أن 18 مليار دولار من الديون سيتم استردادها على شكل اتفاقيات واستثمارات اقتصادية لطهران على الأراضي السورية. وتشير الوثائق المسربة إلى أن مدة الاتفاقية هي 20 عامًا قابلة للتمديد حتى تفي الدولة السورية بكامل التزاماتها المالية. وأكدت مبادئ الاتفاقية أنه في حال انتهاء مدة عمل الاتفاقية، فإن ذلك لن يوقف استمرارية سير عمل المشاريع الإيرانية المنفذة في سوريا.
تتناول سطور هذه المقالة كيفية ترسيخ إيران نفوذها السياسي الاستراتيجي طويل الأمد في سوريا عبر الاستثمار في ملف الديون بأشكالها المتنوعة التي قدمتها للنظام تحت اسم الدولة السورية، من خلال تحليل شكل الاستثمارات والنفوذ الاقتصادي الذي بنته طهران في سوريا.
كيف أسهم النظام في فتح الطريق أمام استحواذ إيران
في السنوات الأخيرة، اندفع النظام السوري نحو خصخصة أصول الدولة، وتُعرَّف الخصخصة بأنها عملية نقل ملكية الخدمات والمرافق من ملكية القطاع العام إلى ملكية القطاع الخاص. ويمكن سرد الأسباب التي دفعت النظام نحو الخصخصة على الشكل التالي: تعثر السياسة الاقتصادية للنظام وإفلاسه، وضعف الدورة الاقتصادية في البلاد. وعدم قدرة النظام على تمويل مؤسسات الدولة، بمعنى عدم قدرته على إقرار ميزانية تتناسب مع متطلبات المجتمع. والتخلص من الديون الخارجية لصالح إيران وروسيا وتعميق العلاقات السياسية معهما، ومنح النظام عقود الاستثمار لطهران وموسكو هو جزء من الديون المستحقة عليه، ويسعى من خلال خصخصة مرافق الدولة لتخفيف الضغط عليه من قبل الحليفين. وانخفاض أو توقف الدعم من الحلفاء (روسيا وإيران).
عجز النظام عن سداد ديونه الخارجية، لم يعد أمامه سوى بيع أصول الدولة للوفاء بديونه. وتكاد تكون إيران الدولة الوحيدة التي مدّت النظام بالمساعدات المالية، والآن تطالبه علنًا وبشدة بالسداد عبر استثمارات طويلة الأجل لقطاعات اقتصادية استراتيجية من مقدرات البلاد.
النفوذ الاقتصادي الإيراني في سوريا
تناولت المقالة في القسم السابق مسار النظام نحو الخصخصة، والتي تعني منح أصول الدولة كاستثمارات طويلة الأجل للقطاع الخاص، سواء للشركات المحلية أو لشركات ومستثمرين دوليين. وتعد إيران إحدى الجهات الفاعلة في الاستحواذ على الأصول السورية، ويعد استثمارها لميناء اللاذقية أحد أهم أشكال الاستحواذ، لما لهذا الميناء من دور مهم في عملية التبادل التجاري الدولي. وباستثمارها في الميناء، تستحوذ طهران على كافة عوائد الاستيراد والتصدير التي تتم عبر الميناء.
كما تحاول إيران الاستحواذ على مصادر الموارد الطبيعية في سوريا، والتي تعد القاعدة الصلبة لكل صناعة وموردًا مهمًا لخزينة الدولة. فقد خسر النظام القسم الأكبر من موارد الطاقة شرقي الفرات، لكنه ما زال يتحكم ببعض حقول النفط والغاز التي تشهد تنافسًا على استثمارها من قبل الشركات الروسية والإيرانية، إلا أن الأخيرة استحوذت على بلوك 21 في البوكمال. ويعد استحواذ إيران على مناجم الفوسفات في تدمر الأهم على مستوى الموارد الطبيعية، لحجم الاحتياطيات الموجودة في المناجم وأهميتها في الصناعة. وفي إطار متصل، وقعت إيران مع النظام السوري اتفاقية لإنشاء مستودعات ومحطات للنفط والغاز في مناطق سيطرته.
وتستثمر إيران في قطاع الكهرباء عبر بناء المحطات الحرارية المنتجة للكهرباء، ووقعت مع النظام اتفاقية لمد شبكات توتر عالٍ لتصدير الكهرباء لسوريا عبر العراق. إلا أن هذا المشروع لم يبدأ العمل عليه بعد، وتنفيذه قد يكون صعبًا لكلفته العالية. ومن المتوقع أن تدخل إيران بقوة في منافسة للاستحواذ على شركة الكهرباء التي تمتلكها الدولة في حال تم خصخصتها من قبل النظام في المستقبل القريب، ومن المتوقع أن يقع الاختيار على الإيرانيين لتعويضهم عن جزء من الديون.
في قطاع المواصلات، تعمل إيران على بناء مجموعة من الطرق والمواصلات بين البلدين. ووقعت في عام 2012 اتفاقية مع النظام لتمديد خط أنابيب الغاز عبر الأراضي العراقية إلى الموانئ السورية ليتم تصديره إلى الأسواق الدولية. وطرحت طهران أيضًا على النظام بناء خط سكك حديدية موازية لخط الأنابيب.
تغلغل النفوذ الإيراني في كافة مراكز ومؤسسات الدولة السورية، بنته طهران عبر استراتيجية طويلة المدى، بدأت بالتدخل العسكري لتشمل فيما بعد الاستحواذ والسيطرة على عدد من مؤسسات الدولة.
وبحسب وسائل إعلام إيرانية، وقعت طهران مع دمشق في عام 2017 اتفاقية تتعهد بها سوريا بتسليم إيران مشاريع زراعية بمقدار خمسة آلاف هكتار، ومناجم ورخصة تشغيل الهاتف الجوال ومشروع تربية الماشية. وفي عام 2019، تم توقيع 11 اتفاقية بين البلدين، تشمل مجالات الاستثمار في المقاولات لإعادة الإعمار، واتفاقية تجارة حرة وتعزيز التبادل التجاري بين البلدين.
ومن المهم التنويه إلى أن إيران والنظام السوري صدّقا على غالبية الاتفاقيات الاقتصادية الموقعة فيما بينهما عبر البرلمان لتشريع الاتفاقيات.
الديون مقابل الأصول
لا شك أن النظام، بعد مدة طويلة تصل لـ13 عامًا من تمويل العمليات العسكرية، والعقوبات الدولية، واستحواذه على اقتصاد البلاد، لم يعد بمقدوره الوفاء بديونه. فالبنك المركزي خالٍ من النقد الأجنبي والمعادن الثمينة، وفي الوقت الحالي غالبية موارد البلاد الطبيعية خارج مناطق سيطرته. إضافة إلى ضعف عمليات الاستيراد والتصدير مع الدول الأخرى، كل ذلك يضعنا أمام عجز النظام عن سد ديونه الخارجية. لذلك، لم يعد أمام النظام سوى بيع أصول الدولة للوفاء بديونه. وتكاد تكون إيران الدولة الوحيدة التي مدّت النظام بالمساعدات المالية، والآن تطالبه طهران علنًا وبشدة بالسداد.
يمكن القول إن كل الاستحواذات والاستثمارات التي تناولناها في القسم السابق هي جزء من سداد النظام لإيران، التي سعت لأن يكون لها في كل قطاع من قطاعات الدولة استثمار طويل الأجل تعزز من خلاله نفوذها على مؤسسات الدولة، ويحفظ مكتسباتها لفترات زمنية طويلة.
بالنتيجة، نحن أمام نفوذ إيراني منتشر في كافة مراكز ومؤسسات الدولة السورية، بنته طهران عبر استراتيجية طويلة المدى، بدأت بالتدخل العسكري لتشمل فيما بعد الاستحواذ والسيطرة على عدد من مؤسسات الدولة، لتشكل مركزًا للنفوذ وأداة لحماية مصالحها.