icon
التغطية الحية

كيف انعكس الواقع الاقتصادي المتردي في سوريا على "شرعنة الرشوة"؟

2023.12.10 | 14:39 دمشق

كيف انعكس الواقع الاقتصادي المتردي في سوريا على "شرعنة الرشوة"؟
كيف انعكس الواقع الاقتصادي المتردي في سوريا على "شرعنة الرشوة"؟
دمشق - جنى نجار
+A
حجم الخط
-A

تعتبر الرشوة واحدة من الظواهر القديمة في سوريا، وخاصة في المؤسسات الحكومية الرسمية، لكن الحرب والانهيار الاقتصادي كانا كفيلين بتحويلها إلى حالة عامة يتعامل معها المجتمع السوري كشيء طبيعي وثقافة عامة في التعاملات الرسمية.

المواطن السوري، عند مراجعته للدوائر الحكومية أو عمله بأوراق ومعاملات رسمية، أول ما يضعه في حسبانه هي الرشوة التي تخلصه من مرحلة طويلة من العذاب والانتظار. فما هو السبب الذي جعل هذه الظاهرة موجودة بهذا الشكل، وهل من عقوبات تطول المُرتشي؟

الرشاوى في الدوائر الحكومية

تعتبر شريحة واسعة من الموظفين، خاصة العاملين في الدوائر الحكومية، أن الرشوة باتت اليوم حاجة لا مفر منها "للعيش"، إذ لم يعد بإمكانهم الاكتفاء بالراتب، فالموظفون في الدوائر الحكومية لا يعتمدون على الراتب المدفوع لهم بل يستمرون في دوامهم من أجل المبالغ التي يتلقونها كرشوة لتسهيلهم أعمال المراجعين، وأصبحت هذه الظاهرة مبررة من قبل الطرفين، الراشي والمرتشي، لتصبح حلاً للأزمة الاقتصادية لغالبية الموظفين في المؤسسات الحكومية.

تقول شيرين (مستعار) وهي موظفة في إحدى المؤسسات منذ 15 عاما: "الراتب الذي نتقاضاه لا يكفيني كمصروف ليوم واحد، لم يكن من الممكن أن أقبل بأن أتلقى مبالغ من أحد مقابل عملي، لكن الحال هذه أجبرت الجميع على ذلك، لدرجة أنه لا يمكنك أن ترفض ذلك والجميع من حولك يقبلونها، لم نعد نعتبرها غير شرعية بل هي جزء من حقنا أمام ما نعانيه من جهد مع عدد كبير من المراجعين دون مقابل مادي يكفينا".

وبحسب شيرين فإن المشكلة الحقيقية تتمثل اليوم في أن "البعض أصبحوا بالغي الثراء جراء هذه المبالغ الصغيرة على حساب من يعمل تحت أيديهم من موظفين".

رشاوى "على المكشوف"

يجتمع العشرات أمام النافذة الواحدة في إحدى المؤسسات في ريف دمشق، يبدأ توافد المراجعين منذ الثامنة صباحاً، تجلس سيدة في الثلاثين من عمرها أمام باب المؤسسة، توزع الأرقام ومع كل رقم تعطيه لمراجع درجت العادة على أن يدفع لها هذا المراجع رشوة صغيرة كي تسهل دخوله المؤسسة.

تختلف المبالغ وتبدأ من ألفي ليرة كحد أدنى، ويمكن لهذه السيدة أن تفاضل بحسب رغبتها من تدخل قبل من، لا تنتهي الرشوة هنا، فعند دخول المراجع للمؤسسة يحتاج أن يدفع لكل موظف مبلغاً.

وتختلف تلك المبالغ بحسب أهمية الموظف ودوره في تمرير المعاملة، لم تعد تخبأ الرشاوى داخل ظرف أو بين الأوراق بل أصبحت تطلب جهاراً وتعطى أمام الجميع، وإن لم يعجب المبلغ المدفوع الموظف يطلب من المراجع الخروج أو الرجوع لآخر الدور، يتحدث عن ذلك مهند (مستعار) وهو شاب اضطر للانتظار ثلاثة أيام أمام شعبة التجنيد للحصول على ورقة تأجيله.

 يقول: "في اليوم الأول وضعت ألفي ليرة داخل الأوراق وتقدمت إلى الموظف، نظر إليّ وإلى المبلغ وسألني بنبرة قاسية "شو هاد" ثم رمى الأوراق وطلب مني المغادرة، في اليوم الثاني لم أعطه رشوة، لكن الأمر تكرر في اليوم الثالث رفعت المبلغ إلى عشرة آلاف واستطعت الحصول على التأجيل".

تختلف التسعيرة بحسب الدرجة الوظيفية والمؤسسة حتى في الجامعات يمكنك التعجيل بتسجيلك بوضع مبلغ للموظف، وتختلف الطرق التي يقدم بها الراشي المال، فالبعض يقدم المال كبديل عن فنجان من القهوة أو يقدم مع المال علبة من السجائر، وفي هذه الحالات يستقبل الموظفون الرشوة دون شعور بالذنب أو الإهانة، هناك بعض المؤسسات التي يقف فيها شاب بالخارج وظيفته تنظيم الدور وإخبار المراجعين عن كل موظف وما يتقاضاه من رشاوى.

أساليب ملتوية لشرعنة الرشوة

ورد في المادة 341 من قانون العقوبات الاقتصادية أن "كل موظف وكل شخص ندب إلى خدمة عامة سواء بالانتخاب أو بالتعيين، وكل امرئ كلف بمهمة رسمية كالحكم والخبير التمس أو قبل لنفسه أو لغيره هدية أو وعداً أو أية منفعة أخرى ليقوم بعمل شرعي من أعمال وظيفته، عوقب بالحبس من ثلاثة أشهر إلى ثلاث سنوات وبغرامة أقلها ضعفا قيمة ما أخذ أو قبل به"

إلا أن هذا القانون لا يطبق على أرض الواقع أبداً فالرشوة متفشية من مشرعي القوانين أنفسهم إلى أصغر الموظفين، ويمكن القول إن "الدولة" ذاتها أصبحت تجد المبررات وتلتمس القوانين التي تجعل من الرشوة ممكنة وترسخ من وجودها بين العاملين فيها، وكأنها حق طالما هي تحت سقف محدد.

 مؤخراً دعا "النائب" محمد خير العكام إلى تعديل بعض مواد قانون العقوبات الاقتصادية الذي صدر عام 2013 وتحديداً جرم الرشوة وقيمته المالية، حيث قال في تصريح نقلته جريدة الوطن المحلية: "معيار تحريك الدعوى في جريمة الرشوة والذي يبلغ 500 ألف ليرة سورية لم يعد صالحاً بسبب التضخم وفرق العملة وطالب برفعه ليصبح خمسة ملايين ليرة على الأقل"، وفي حال تطبيق هذا الكلام تصبح جميع الرشاوى التي تقل عن هذا المبلغ مباحة ولا يحاسب عليها القانون.

وكان قد تم تعديل القانون عام 2018 ليشمل إعفاء الراشي والمرتشي في حال اعترفا بالجرم، كما اقترح العكام أن مبالغ الرشوة ما دون الخمسة ملايين ليرة هي من اختصاص محكمة الجنايات، وتعتبر مثل هذه المطالب نوعاً من شرعنة الفساد والرشوة، فرفع سقف المبالغ التي يحاكم عليها كرشوة يسمح للموظفين بزيادة المبالغ التي يرتشونها على حساب المواطن ويحقق الفائدة لهم ولمن يقف خلفهم دون محاسبة أو محاكمات.

بدورها تغيب هيئة الرقابة والتفتيش عن المشهد، والتي كانت قد كشفت في النصف الأول من العام عن قضايا فساد تجاوز عددها 800 قضية، بقيمة بلغت 21.4 مليار ليرة سورية و59 ألف دولار أميركي.