ثلاثة أعوام مرّت على بدء التدخل العسكري الروسي المباشر في سوريا، نفّذت روسيا خلال تلك المدة مئات آلاف الغارات الجوية واستخدمت مختلف أنواع الأسلحة التدميرية، موقعةً آلاف الضحايا مِن الشعب السوري، ومٌدمّرة مئات المراكز الحيوية، معلنةً بذلك إنقاذ "نظام الأسد" الذي كان قاب قوسين أو أدنى مِن السقوط.
وسبق التدخل العسكري المباشر، مساندة روسيا لـ "نظام بشار الأسد" سياسياً مِن خلال تصريحات - كانت تزعم فيها ضرورة الحوار -، قبل أن تبدأ في إعادة تعويمه بشكل مباشر وصريح، نهاية السنة الثانية مِن تدخلها العسكري، عبر الانزياح عن مسار "جنيف"، ونقل العملية السياسية إلى مسار "أستانة" في عشر جولات فرضت فيها ما يُعرف بمناطق "تخفيف التصعيد"، اخترقها "النظام" كلّها بدعم روسي.
رغم أن التدخل العسكري كان حاسماً في نقطة تحول ميزان القوى لـ صالح "نظام الأسد" الذي استعاد - بفضل ذلك - مساحات واسعة مِن سوريا عبر سياسة "التهجير" التي فرضتها روسيا، إلّأ أن الإنقاذ الحقيقي كان "سياسياً" ليس فقط عن طريق حرف مسار "جنيف" بخلق مسار "أستانة"، إنما أيضاً عن طريق "الفيتو الروسي" الذي بدأت روسيا باستخدامه لـ صالح "النظام" بعد شهور قليلة مِن اندلاع الثورة السورية في آذار عام 2011.
"الفيتو الروسي" أول دفاعٍ عن "الأسد"
منذ الأيام الأولى لـ المظاهرات التي اشتعلت في معظم المناطق السوريّة مطالبةً بـ إسقاط "نظام الأسد"، رافعةً شعار الحرية والكرامة بحراك سلمي منقطع النظير، واجهها "النظام" كلّها بآلةٍ قمعٍ فتّاكه حصد خلالها أرواح الكثير مِن المتظاهرين، وملأ سجونه بمئات منهم، لـ يبدأ المجتمع الدولي بإدانة "النظام" داعياً لفرض عقوبات عليه، لتبدأ روسيا على إثر ذلك بتدخلها الأول سياسيّاً عن طريق "الفيتو".
وكان أول "فيتو" (حق النقض) تستخدمه روسيا في الملف السوري لـ صالح "نظام الأسد"، شهر تشرين الأول عام 2011 (أي بعد ستة أشهر مِن اندلاع الثورة)، حيث عطّل الفيتو الروسي الأول - المتزامن مع فيتو صيني أيضاً -، مشروعاً دولياً في مجلس الأمن الدولي، يُطالب بفرض عقوبات على "النظام"، في حال استمر باستخدام العنف ضد الشعب السوري، تقدّمت به الجامعة العربية ودول أوروبية عدّة للمطالبة بوقف "انتهاكات حقـوق الإنسان، واستخدام القوة ضد المدنيين".
ومع "الفيتو الروسي" الأول الذي أعطى ضوءاً أخضراً لـ"نظام الأسد" باستمرار "العنف" ضد الشعب السوري، تقدّمت الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبية والجامعة العربية بمشروع قرار، في الرابع مِن شهر شباط عام 2012، يقضي بـ"سحب جميع القوات العسكرية للنظام مِن المدن والبلدات السوريّة، وضمان حرية التظاهر السلمي"، لـ يُحبط القرار بـ"فيتو" ثاني مشترك أيضاً (روسي - صيني)، تذرّعت خلاله الدولتان بمنع الولايات المتحدة والدول الأوروبية مِن استخدام القرارات الدولية وسيلةً للتدخل العسكري في سوريا.
كذلك، عطّلت روسيا والصين معاً - للمرة الثالثة - مشروع قرار تقدّمت به بريطانيا وفرنسا، في الـ 19 مِن شهر تموز عام 2012، يطالب بـ"وقف العنف في سوريا، وفرض عقوبات على نظام بشار الأسد، وتمديد مهمة المراقبين الدوليين"، كما أوقفت بـ"فيتو" رابع مشروع قرار يقضي بإحالة الملف السوري إلى المحكمة الجنائية الدولية للتحقيق في جرائم حرب، زاعمةً أن هذا المشروع يُضعف فرص الحل السلمي في سوريا.
وفي الثامن مِن شهر تشرين الأول عام 2016 (أي بعد شهر مِن تدخل روسيا العسكري)، أحبط "فيتو روسي" خامس مشروع قرار اقترحته فرنسا وإسبانيا يدعو إلى وقف عمليات القصف في حلب، وفرض حظر للطيران في أجواء المحافظة، رغم تصويت 11 عضواً مِن أعضاء مجلس الأمن لـ صالح القرار، لـ تعطّل في "فيتو" سادس - اشتركت فيه الصين - مشروع قرار يُطالب جميع الأطراف المتقاتلة في حلب بـ"هدنة مدتها سبعة أيام" وإدخال المساعدات الإنسانية إلى المدينة المحاصرة، شهر كانون الأول عام 2016.
وبعد اتهام "نظام الأسد" باستخدام أسلحة كيماوية ثلاث مرات خلال عامي 2014 و 2015، قدّمت دول أوروبية مشروع قرار لـ مجلس الأمن يقضي بفرض عقوبات على "النظام"، وحظر تزويده بطائرات مروحية، وإدراج أسماء قادة عسكريين تابعين له على القائمة السوداء لـ تنفيذهم هجمات بغازات سامة ضد المدنيين، إضافةً لـ حظر سفر وتجميد أصول 11 مسؤولاً تابيعن لـ"النظام" مع تجميد أصول عشر مؤسسات مرتبطة بهجمات كيماوية، لـ يسقط القرار بـ"الفيتو" الروسي السابع، يوم الـ 28 مِن شهر شباط عام 2017
روسيا دمّرت مصداقية مجلس الأمن واختارت الوقوف بجانب "الأسد".
وعلى خلفية ارتكاب "نظام الأسد" مجزرة الكيماوي في مدينة خان شيخون بإدلب، قدّمت أميركا وفرنسا وبريطانيا، في نيسان عام 2017، مشروع قرار يدين الهجوم الذي أسفر عن مقتل نحو 70 مدنياً وإصابة المئات بحالات اختناق، ويسعى لـ تعزيز الجهود الخاصة بإجراء تحقيقات حوله، عطّلته روسيا بـ"الفيتو" الثامن، فيما أخفق مجلس الأمن بـ"فيتو" تاسع ضد مشروع قرار أميركي، يوم الـ 24 مِن شهر تشرين الأول عام 2017، في تمديد مهمة التحقيق باستخدام أسلحة كيماوية في سوريا.
وجاء "الفيتو" العاشر في الـ 16 مِن شهر تشرين الثاني عام 2017، واستخدمته روسيا ضد مشروع قرار أعدّته الولايات المتحدة الأمريكية مِن أجل تمديد مهمة الخبراء الدوليين في التحقيق الساعي لـ تحديد المسؤول عن هجمات كيماوية في سوريا، وأحبطت بـ"الفيتو" رقم 11 بعد أقل مِن 24 ساعة على "الفيتو" العاشر، مشروع قرار ياباني مماثل، يدعو لـ تمديد عمل لجنة التحقيق الدولية مدة شهر واحد، ريثما تتوصّل أمريكا وروسيا لـ اتفاق بشأن التحقيق.
وفي العاشر مِن شهر نيسان عام 2018 الجاري (بعد أيام مِن ارتكات "نظام الأسد" مجزرة الكيماوي في مدينة دوما بغوطة دمشق الشرقية)، أسقطت روسيا مشروع قرار أمريكي أيضاً يهدف إلى التحقق مِن استخدام السلاح الكيماوي في دوما، ويدعو إلى إنشاء "آلية تحقيق مستقلة" تابعة لـ الأمم المتحدة، وذلك باستخدام "الفيتو" رقم 12 لـ صالح "نظام الأسد" منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011 وحتى اللحظة، لـ تقول المندوبة الأميركية لدى الأمم المتحدة "نيكي هيلي" عقب ذلك، إن روسيا دمّرت مصداقية مجلس الأمن واختارت الوقوف بجانب "الأسد"، معتبرة أن ما جرى "نكتة! وروسيا بارعة في ممارسة الألاعيب"، لافتةً أن "التاريخ سيسُجل أن روسيا فضّلت حماية وحش على حماية حياة الشعب السوري".
"أستانا".. إنقاذ سياسي لـ"الأسد" في ظل تدخل عسكري
استمر الدعم السياسي الروسي لـ "نظام الأسد" متزامناً مع الدعم العسكري المباشر، الذي ساعدها في تغيير المسار السياسي للملف السوري بشكل كلّي، وسحبه مِن يد الأمم المتحدة إلى يدها والتحكّم به بشكل مباشر، وخاصة بعد أن تمكّنت مِن إعاقة أي تقدم في الحل السياسي عبر "جنيف" عبر خلق مسار "أستانة" الذي فكّك المعارضة السورية - سياسياً وعسكرياً -، وفرض مناطق "تهدئة" استمر "نظام الأسد" في خرقها، حتّى تمكّن مِن استعادة معظم المناطق السوريّة عبر حملات عسكرية "شرسة" التي انتهت كلّها بفرض عمليات "تسوية" وتهجير.
أول جولة مِن محادثات "أستانا" بدأت، مطلع العام 2017، وجاءت بعد استيلاء "نظام الأسد" - بدعم روسي - على كامل مدينة حلب، نهاية العام 2016، ما فتح الباب على خسائر كبيرة في الأراضي السورية لـ صالح "النظام"، وشكّل نقطة مفصلية استغلها الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" لـ يطرح مساره "أستانة"، بالتوازي مع مفاوضات "جنيف" التي ترعاها الأمم المتحدة، ويسعى "بوتين" لـ إفشالها.
خلال العام 2017 عُقدت ثمان جولات مِن المحادثات أبرز ما نتج عنها اتفاقات "تخفيف التصعيد"
ودعت روسيا إيران (ضامنان لـ"نظام الأسد") وتركيا (ضامن لـ فصائل المعارضة) لـ عقد جلسات تفاوضية في العاصمة الكازاخستانية "أستانا"، وخلال العام 2017 عُقدت ثمان جولات مِن المحادثات نتج عنها ما عُرف باتفاقات "خفض التصعيد (تخفيف التوتر)" في مناطق سيطرة الفصائل، ونشر نقاط مراقبة، في ظل نقاش عن مفاوضات غير مباشرة بين "النظام" و"المعارضة"، والعمل على ملف الإفراج عن المعتقلين في سجون "النظام".
في الجولة الأولى، يوم 23 كانون الثاني 2017، توصّلت الدول الثلاث الراعية للمحادثات (روسيا، تركيا، إيران) إلى اتفاق على إنشاء آلية ثلاثية لمراقبة تنفيذ وقف إطلاق النار في سوريا، إضافةً لـ مفاوضات غير مباشرة بين "النظام" و"المعارضة"، مؤكدين على أنه لا يوجد حل عسكري للوضع السوري، وأن الوفود المشاركة تؤكّد محاربتها لـ تنظيم "الدولة" و"جبهة فتح الشام" (النصرة سابقاً، هيئة تحرير الشام حالياً).
والجولة الثانية، يوم 15 شباط 2017، تحدّثت عن تشكيل مجموعة عمل ثلاثية (روسية تركية إيرانية) لمراقبة وقف الأعمال القتالية، وتشكيل آلية لتبادل المعتقلين بين "النظام" و"المعارضة"، بينما كان أبرز ما جاء في الجولة الثالثة - التي انتهت بمقاطعة الفصائل العسكرية "المعارضة" -، يوم 14 من نيسان، اقتراح روسيا بوضع دستور لـ سوريا، كما أكّد البيان الختامي لهذه الجولة، اتفاق الدول الضامنة على تشكيل لجان لمراقبة الهدنة والخروق، ولجان لمتابعة ملف المساعدات، وأخرى لـ ملف الأسرى والمعتقلين.
وأبرز ما نتج عن الجولة الرابعة، يوم الرابع مِن شهر أيار، اتفاق مناطق "تخفيف التصعيد" وتشمل كامل محافظة إدلب ومحافظة اللاذقية ومحافظة حلب، وأجزاء من محافظات حماة وحمص ودرعا والقنيطرة، ومنطقة الغوطة الشرقية في ريف دمشق، على أن يتم تطبيقها لمدة ستة أشهر قابلة للتمديد، وأعلن وفد المعارضة حينها أنه ليس جزءا مِن الاتفاق، لـ تعجز الجولة الخامسة، يوم الرابع مِن تموز، على رسم حدود مناطق "خفض التصعيد" في سوريا، ولكنهم اتفقوا على تحديد اجتماعين لاحقين، بهدف تحديد خرائط للمنطقتين الثانية والثالثة (اللاذقية وحلب)، مع وجود أسئلة بشأن المنطقة الأولى في محافظة إدلب وبعض التحفظات بالنسبة للمنطقة الجنوبية.
واستؤنفت محادثات "أستانا" في جولة سادسة، يوم الـ 14 مِن شهر أيلول، عقب شكاوي مِن "المعارضة" لـ عدم التزام "نظام الأسد" باتفاق "تخفيف التصعيد" في العديد مِن المناطق، وضم وفد المعارضة حينها 24 عضواً برئاسة العميد (أحمد بري)، وشاركت فيها "حركة أحرار الشام" لـ أول مرة، كما شارك فيه وفد أميركي برئاسة "ديفد ساترفيلد" مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى بالوكالة، ووفد الأمم المتحدة برئاسة "ستفان دي ميستورا"،ووفد أردني، ووفد قطري بصفة مراقب لأول مرة أيضاً، ونتج خلال هذه الجولة، رسم حدود مناطق "خفض التوتر"، خاصة منطقة إدلب التي كانت محط خلافات.
وكانت الجولة السابعة مِن "أستانا"، يوم 30 تشرين الأول عام 2017، طلبت روسيا خلالها مِن تركيا بفرض الاستقرار في محافظة إدلب. كما تضمنت مناقشات الجولة السابعة ملف المعتقلين في سجون "النظام"، كما أشارت الوثائق إلى أن وفد المعارضة أفردت ملفاً للحديث عن تدخل إيران العسكري في سوريا، وانتشار ميليشياتها والجرائم التي ترتكبها، في حين اختتمت الجولة الثامنة، أواخر كانون الأول 2017، باتفاق الدول الضامنة على تشكيل مجموعة عمل من أجل المعتقلين، وحُدّد فيها موعد انعقاد مؤتمر "سوتشي" الذي دعت إليه روسيا.
الجولة التاسعة كانت أولى جلسات المسار التفاوضي منذ مؤتمر "سوتشي"
أمّا الجولة التاسعة التي عُقدت، منتصف شهر آذار 2018، وهي أولى جلسات المسار التفاوضي منذ مؤتمر "سوتشي" (الذي دعت إليه روسيا وعقدته أواخر كانون الثاني 2017 في مدينة سوتشي الروسية)، وشهدت الجولة غياب الوفد الأميركي، وحضور ممثلين عن الجامعة العربية لأول مرة، إلّأ أنها لم تشهد أي تطورات أو قرارات جديدة وخاصة فيما يتعلق بملف المعتقلين.
وعُقدت الجولة العاشرة مِن محادثات "أستانا" في "سوتشي"، نهاية شهر تموز الماضي، أكّدت خلالها الدول الضامنة على "محاربة التنظيمات الإرهابية، والوقوف في وجه الأجندات الانفصالية ومواصلة الجهود المشتركة لدفع التسوية السياسية في سوريا لبدء عمل اللجنة الدستورية في جنيف بأقرب وقت"، وجاءت تلك الجولة وسط تهديدات لـ"نظام الأسد" بشن عملية عسكرية على محافظة إدلب، قبل أن تُلغى العملية باتفاق "روسي - تركي" جرى في "سوتشي" أيضاً، حول إنشاء منطقة منزوعة السلاح في إدلب.
خلال مسيرة "الفيتو الروسي" وجولات "أستانا" التي تحوّلت فيها روسيا إلى راعٍ للمفاوضات بين "نظام الأسد" حليفها وبين المعارضة، تزامناً مع ضرب المعارضة سياسياً وعسكرياً وفي كل محفل، والعمل على إبقاء "النظام" واستمراره، فإن روسيا مستمرة - حتى النهاية - في تصفية القضية السورية بشكل كامل على المستوى السياسي - بعد نجاحها إلى حدِّ ما عسكرياً بتقديم كل الدعم لـ"النظام" -، خاصة مع تقزيم الحل في سوريا إلى "لجنة دستورية" تشارك فيها المعارضة (التي أدخلت روسيا في تركيبتها منصات موالية لها وللنظام)، بهدف إعادة صياغة دستور جديد، ومن ثم إجراء انتخابات "غير مشروطة"، ربما تعيد "الأسد" إلى الحكم مجدّداً، ضاربةً بعرض الحائط كل جرائمه وانتهاكاته - بدعمها - بحق الشعب السوري.