انتهى فعلياً تاريخ شركة فاغنر العسكرية الخاصة في سوريا، إذ ما يزال هناك العشرات من المرتزقة، أما المجموعات الأساسية فقد انسحبت من سوريا وتوجهت نحو روسيا وبيلاروسيا. وقد سبق ذلك تسليم مرتزقة فاغنر أسلحتهم الثقيلة للجيش الروسي النظامي ومغادرتهم لسوريا في ربيع عام 2016، ولكن بعد أشهر قليلة على ذلك، عادوا إلى هناك مرة أخرى ليستعيدوا تدمر من سيطرة تنظيم الدولة، إلا أنه من غير المرجح لفاغنر اليوم أن تعود إلى سوريا من جديد.
بعيداً عن وزارة الدفاع
في الثاني من تشرين الثاني الجاري، أعلن أندري كارتابولوف، رئيس لجنة الدفاع التابعة للبرلمان الروسي، بأن فاغنر قد جرى تفكيكها بشكل قاطع، وأضاف: "لقد فككت أخيراً، وقد دخل معظم مقاتليها مرحلة الانتقال إلى هياكل أخرى، فيما يواصل بعض منهم تنفيذ مهامه في دول أفريقية، ولكن تحت شعار آخر ترعاه وزارة الدفاع الروسية، كما وقع بعضهم على عقود للانضمام إلى القوات المسلحة الروسية، في حين انضم بعض منهم إلى الحرس الوطني الروسي".
وفي اليوم نفسه، نقلت وكالة الأنباء الروسية التابعة للدولة خبراً مفاده بأن مقاتلي فاغنر السابقين قد أسسوا وحدة تعرف باسم وحدة كامرتون ضمن القوات الخاصة بالشيشان، التي تعرف باسم آخمات وهي رسمياً تابعة للحرس الوطني الروسي، ويبلغ تعداد هذه الوحدة نحو 170 شخصاً بينهم محكومون بجرائم مختلفة باتوا يخضعون اليوم لتدريب قتالي من أجل المشاركة في العمليات القتالية الدائرة في أوكرانيا.
وقد علق على ذلك الرئيس الشيشاني رمضان قديروف بالقول: "بعد أن شكلوا مجموعة رائعة من مقاتلي فاغنر السابقين، التحق متخصصون في المجال الطبي بقوات آخمات الخاصة، وهؤلاء كانوا في السابق تابعين للفصيل نفسه ضمن تشكيلات الجيش".
ولكن بخلاف مزاعم ممثلين عن الشيشان، لم يجر التحاق مرتزقة فاغنر السابقين بوحدة آخمات بصورة جماعية، بل احتاج الأمر إلى نقل عدد بسيط من قادة معينين وهؤلاء استقطبوا المئات من المقاتلين العاديين، وذلك لأن العمود الفقري لفاغنر سيجري إعادة دمجه ضمن الحرس الوطني الروسي تحت قيادة قطعة منفصلة. يذكر أن بافل، نجل ييفغيني بريغوزين حاول هو وقائد المجموعة أنطون إيليزاروف المحافظة على بنية مجموعة فاغنر حتى النهاية من دون أن يتسنى لهما ذلك.
إن الهدف من ضم مقاتلي فاغنر السابقين هو الحفاظ على ما يشبه البنية العسكرية السابقة للجيش لا الاحتفاظ ببنية الشركة بحد ذاتها، ولهذا يتعين على المرتزقة كافة التوقيع على عقود فردية مع المؤسسة العسكرية الروسية، كما قال أحد مدربي فاغنر وهو ضابط احتياطي لدى القوات الخاصة التابعة لوزارة الداخلية بجمهورية بيلاروسيا، وأضاف: "سيبقى ترتيب العمل والقيادة على حاله، لأن المشكلة تكمن في التطبيق القانوني للقرارات الصادرة بحكم الأمر الواقع عن الأطراف والموافقة التي تأتي عليها"، وذكر هذا الضابط بأن فاغنر بعدما أصبحت تابعة للحرس الوطني الروسي ستبقى موجودة في بيلاروسيا حتى تدريب العساكر هناك ولتحارب في أوكرانيا وأفريقيا، وقال: "وقعت كل فئات (فاغنر) على العقد المعروف باسم المشروع ك، مظلة، أجانب، وهؤلاء تتراوح أعمارهم ما بين 20-55 عاماً".
المشروع ك
تشير عبارة المشروع -ك إلى قطعة تضم المجرمين الذين جرى تجنيدهم، أما كلمة مظلة فتمثل جزءاً منفصلاً من تلك القطعة قوامه مرتزقة مصابون بالأيدز والتهاب الكبد الوبائي. وفي هذه الحالة لن يقبل مرتزقة فاغنر الذين نقلوا بعد مرور أشهر قليلة على وفاة زعيمهم بريغوزين إلى شركات عسكرية خاصة تابعة لوزارة الدفاع أو إلى قطعات مؤلفة من متطوعين مثل قطعة آربات التي وقعت عقوداً مع وزارة الدفاع الروسية، وذلك عند عودتهم إلى القطعة التي أصبحت تحت جناح الحرس الوطني الروسي.
تتحدث مصادر من قناة VChK-OGPU على تيليغرام بأن السبب الذي دفع الكرملين للسماح لقائد الحرس الوطني الروسي فيكتور زولوتوف بضم فاغنر تحت جناحه يتمثل بالمحاولة المستمرة للسيطرة على تلك المجموعة الأمنية عبر فرض ضوابط وخلق توازنات والحد من نفوذ وزارة الدفاع والأهم من ذلك الحد من نفوذ وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو ضمن طبقة النخبة الروسية. وفي الوقت ذاته، لم تتضح بعد الآلية المحتملة لعمل فاغنر ضمن الحرس الوطني الروسي في أفريقيا، وذلك لأن الحرس الوطني ليست لديه أي خبرة في العمليات التي تنفذ خارج روسيا، ولهذا يمكن أن تكون السيطرة على الأنشطة التي يديرها هناك نجل بريغوزين وإيليزاروف مجرد إجراء شكلي فحسب، حتى لو ساعدت قوات الحرس الوطني بشكل مباشر في فرض تلك السيطرة من خلال فروع الأمن الموجودة لدى الدولة الروسية.
وفي الوقت ذاته، لن تتخلى وزارة الدفاع الروسية، أو بالأحرى المديرية الرئيسية لهيئة الأركان العامة عن مخططاتها الساعية لخلق حالة من التنمية في أفريقيا ولأن تحل محل فاغنر في تلك المنطقة عبر إقامة هياكل وشبكات موالية لها، وعلى رأسها شركة ريدوت العسكرية الخاصة التي تخضع للمديرية الرئيسية لهيئة الأركان العامة بروسيا، إذ على الرغم من المقاومة التي أبدتها فاغنر في سوريا ومحاولات مرتزقتها في أيلول الماضي إقامة ممر بديل يصل بين بيلاروسيا وأفريقيا مع الهبوط بينهما في تونس بدلاً من الهبوط في قاعدة حميميم الجوية كما كانت فاغنر تفعل في السابق، استطاع الجيش الروسي بمساعدة ريدوت أن يحقق هدفه المتمثل بطرد منافسيه وذلك في شهر تشرين الأول الماضي.
ما هي شركة ريدوت؟
ورد في الإعلام بأن شركة ريدوت العسكرية الخاصة لم تعمل لفترة طويلة في سوريا فحسب، بل كانت في المقدمة عند غزو روسيا لأوكرانيا في عام 2022، ولديها وجود أيضاً في دول الخليج امتد لسنوات طويلة إلى جانب وجودها في كردستان العراق وفي الصومال.
ولنفهم كل ذلك علينا أن نعرف الآتي:
في البداية، وبحسب المتوافر من البيانات، أنشئت شركة ريدوت العسكرية الخاصة التي كانت تعرف بالمجموعة ر في بداياتها خلال فترة انهيار الاتحاد السوفييتي على يد جنود وضباط من المديرية الرئيسية لهيئة الأركان العامة الروسية (أي المديرية الرئيسية للاستخبارات)، وبما أنهم متعاقدون مع هذه الشركة العسكرية التقليدية الخاصة، لذا فقد عملوا في الإمارات وزائير التي أصبح اسمها اليوم جمهورية الكونغو الديمقراطية، وكذلك في البحرين والعراق إلى أن تفككت المجموعة.
ثانياً، أنشئت شركة ريدوت الحديثة باسمها هذا بعد التدخل الروسي في الحرب السورية وقوامها شركات الأمن الخاصة التابعة لموسكو والمرتبطة باللواء الجوي سبيتسناز 45.
في البداية كانت هذه الشركة العسكرية تضم مرتزقة سابقين من فاغنر، وقد نفذت في سوريا حيث تعرف باسم الدرع عمليات كاملة منذ أواخر عام 2017، إذ كانت تحرس مقرين لشركة سترويترانس غاز التي يملكها الملياردير الروسي غينادي تيمتشينكو، وهي عبارة عن محطة لمعالجة الغاز قريبة من حفل توينان للغاز في سوريا، إلى جانب مصنع لإنتاج الأسمدة في حمص. وحتى أواسط 2022، أصبح لدى شركة ريدوت نحو 100 مقاتل مزودين ببعض المعدات الثقيلة، وأغلبهم انخرطوا في عمليات تأمين الشحنات إلا أنهم كانوا ينفذون غارات ضد مقاتلي تنظيم الدولة بالقرب من مقارهم بين الفينة والأخرى.
بيد أن الإمكانيات لدى تلك الشركة العسكرية الخاصة كانت ضئيلة، وهذا ما دفعها لتوظيف سوريين من شركة المهام الأمنية السورية التي تعود ملكيتها لرجل الأعمال السوري حسام قاطرجي، وذلك حتى تقوم هذه الشركة السورية بتزويدهم بحماية إضافية لمقراتهم. وفي مطلع خريف عام 2022، اضطر المتعاقدون مع فرقة الدرع للمشاركة في الحرب الدائرة بأوكرانيا.
ثالثاً، منذ بداية الحرب في أوكرانيا، بدأ الجيش الروسي باستخدام اسم شركة ريدوت بشكل عام لإضفاء طابع رسمي قانوني على العقود الموقعة مع تشكيلات مختلفة. وبحسب الحوار الذي أجري مع قائد عسكري من تلك الشركة، فقد تبين وجود نحو سبع شركات عسكرية خاصة تابعة لريدوت موجودة في مناطق مختلفة في روسيا ضمن قواعد مخصصة للقوات الخاصة من سلاح الجو ومن الهيئة العامة للأركان، بعضها أنشئ في عام 2021 استعداداً لغزو أوكرانيا، وبحسب ما ورد في بعض التقارير، فإن هذه الشركة العسكرية الخاصة تستخدم كهيكل مظلة حالياً لتشمل ما لا يقل عن عشرين تشكيل مسلح يضم متطوعين يصل تعدادهم إلى عشرات الآلاف.
معظم مرتزقة فاغنر غادروا سوريا على متن طائرات حملتهم من قاعدة حميميم الجوية، وما تبقى منهم من عشرات المرتزقة سلموا أسلحتهم للجيش الروسي وتجري معالجة أوراقهم حالياً بحسب مصادر مرتبطة بهذه المجموعة. وهكذا، انتقلت السيطرة على حقل حيان للغاز وكذلك مصنع شركة حيان للبترول، اللذين سيطرت عليهما قوات فاغنر منذ عام 2017، إلى شركة عسكرية خاصة تابعة لوزارة الدفاع الروسية. وهذا يعني أنه من الممكن أن يصل عدد من نظم سام ليد حزب الله في لبنان، وهنالك اعتقاد بأن مرتزقة فاغنر يفضلون تسليم عدد من مواقعهم للإيرانيين على أن يسلموها لأبناء جلدتهم من الجيش الروسي، ولكن لم يتضح حتى الآن من ستطلق روسيا يده للسيطرة على المصنع وحقل الغاز هذا، إلا أن المؤشر الوحيد الواضح يدل على أنها ستطلق يد شركة ريدوت في السيطرة عليهما، وهنا يحق لنا أن نسأل: أي قسم تابع لشركة ريدوت سيتسلم السيطرة على المصنع وحقل الغاز؟!
المصدر: Al-Monitor