تعمد حكومة نظام الأسد لاستخدام شماعة العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا لتبرير سياساتها التي لا تراعي حياة السوريين ولا حقوقهم ولا متطلبات عيشهم الأساسية من طعام ودواء.
ويتجاهل المطالبون برفع تلك العقوبات بأنها أساساً فُرضت نتيجة ارتكاب هذا النظام انتهاكات فظيعة ما تزال مستمرة بحق الشعب السوري منذ أكثر من تسع سنوات، مع رفض نظام الأسد لأي حل سياسي يحقن دماء السوريين. ومع ظهور وباء كورونا وجدت حكومة النظام فرصة للمطالبة برفع العقوبات الاقتصادية المفروضة، التي لا تشمل الغذاء والدواء، بحجة أنها تؤثر على قدرتها على مواجهة الوباء وحماية حياة السوريين. ومؤخراً ركّز النظام على موضوع الدواء، وبيان أثر العقوبات الاقتصادية على الصناعات الدوائية في سوريا؛ لكونها تمس مباشرة موضوع التصدي للوباء.
وحرصاً على بيان الزوايا الأخرى لموضوع واقع الصناعات الدوائية في البلاد أجد أنه من المهم تسليط الضوء على مجموعة من النقاط المتعلقة بواقع تلك الصناعات، دون الدخول في مناقشة أثر العقوبات على تلك الصناعات، لكون تلك النقاط أساسية لبيان واقع اقتصادي مؤلم تعيشه سوريا منذ استيلاء آل الأسد على الحكم في البلاد، انسحبت آثاره على كل المرافق، ومنها الصناعات الدوائية. وأهم تلك النقاط:
1 ـ قصف النظام وحلفائه لمعامل الدواء:
دمرت الغارات التي شنتها طائرات نظام الأسد والطائرات الروسية كثيراً من معامل الدواء في المناطق التي كانت خارجة عن سلطة النظام، خاصة في مدينة حلب، التي كانت تعد مركزاً أساسياً لصناعة الدواء، ومن هذه الغارات:
• تدمير معمل "آسيا" للصناعات الدوائية في منطقة حريتان بريف حلب وتوقفه عن العمل، بعد تعرضه لدمار كبير من جراء القصف المتكرر من قبل الطيران الروسي، وذلك في 24 نوفمبر/ تشرين الثاني 2015م، وكان المعمل يغطي بين 20 إلى 30 في المائة من الأصناف في سوق الأدوية السورية، من حيث النوعية والكمية.
• قصف معمل "الشفا" للصناعات الدوائية ببلدة المنصورة في ريف حلب، يوم 26 نوفمبر 2016م واستهدافه بسبع غارات بالصواريخ المظلية مما أدى لمقتل مديره وأحد العاملين وجرح عشرة آخرين بالإضافة لدماره بشكل كامل وخروجه عن الخدمة.
• تدمير معامل «السعد» و«الوطنية» و«آراك» و«ابن الهيثم» وغيرها من معامل الأدوية، وجميعها خرجت عن الخدمة بشكل كامل جراء القصف، هذه المعامل كانت تعمل بطاقة إنتاجية كبيرة، بحيث تؤمن أكثر من 70% من حاجة الصيدليات والمشافي للأدوية بكل أنواعها في حلب وريفها قبل قصفها خلال سنوات 2015 و2016م.
2 ـ السماح لإيران بالدخول على خط الصناعة الدوائية:
سمحت حكومة النظام للشركات الإيرانية بدخول السوق السورية لتحقيق مكاسب خاصة على حساب الشعب السوري، ومؤخراً كشفت مصادر محلية عن خطة إيرانية للاستحواذ على مقر الشركة العربية الطبية "تاميكو" التابع للقطاع العام في بلدة المليحة في الغوطة الشرقية بريف دمشق تحت بند اتفاقيات ما يسمى الغرفة التجارية السورية الإيرانية، مؤكدة أن وفوداً إيرانية ترددت على المعمل. وكانت إيران أعلنت منتصف شهر أغسطس/ آب 2019 عن توقيع اتفاقيتين تتضمنان إنشاء معمل لحليب الأطفال ومعمل أدوية.
بالإضافة إلى انتشار أدوية إيرانية مهربة تباع في صيدليات مناطق سيطرة النظام حسب سعر صرف الدولار، ولم ينكر أمين سر نقابة الصيادلة طلال العجلاني في تصريح سابق له وجود أدوية غير نظامية أو مهربة في تلك المناطق.
3 ـ أعوان النظام وأزلامه يسيطرون على صناعة الدواء:
شهدت صناعة الدواء قفزة نوعية خلال السنوات 2005 و2010، حتى وصل الإنتاج لمرحلة غطت فيها أكثر من 90% من حاجة السوق السورية للمنتجات الدوائية. لكن معظم هذه المعامل كانت تعود ملكيتها لمسؤولين في النظام أو لرجال أعمال كانوا يضطرون لدفع أتاوات لأزلام النظام تصل لملايين الليرات من أجل استمرار عملهم.
وبعد دمار كثير من معامل الأدوية خاصة في حلب وريف دمشق عادت شهية رجال الأعمال الموالين لنظام الأسد للاستفادة من واقع الحال وافتتاح معامل جديدة للدواء، كان أحدثها معمل للأدوية السرطانية في منطقة عدرا بريف دمشق، لشركة "مينفارما" التابعة لـ"أمان القابضة" التي تعود ملكيتها لعائلة فوز، وهم من أشهر رجال الأعمال الذين تضاعفت ثرواتهم خلال سنوات الحرب.
كما تم افتتاح معامل في المنطقة الساحلية، اللاذقية وطرطوس. منها ثلاثة معامل في طرطوس وخمسة في اللاذقية تم إنشاؤها في السنوات الأخيرة، تعود ملكيتها لمسؤولين ومستثمرين ورجال أعمال موالين للنظام، مما دفع "عمار علي" مدير صناعة طرطوس لتوقع أن تكون محافظة طرطوس عاصمة صناعة الدواء في البلاد، كاشفاً عن ترخيص 10 معامل لصناعة الأدوية، 7 منها يجري تنفيذها، والثلاثة المتبقية بدأت بالإنتاج الفعلي، منها معمل "سيفارما" الذي يعد أحد أضخم مشروعات التصنيع الدوائي في سوريا.
ولو لم تكن صناعة الدواء في سوريا مربحة، لما تسابق هؤلاء لافتتاح معامل للأدوية يكلف إنشاء الواحد منها ملايين الدولارات. وقد أشارت مصادر إلى أن بعض الأصناف الدوائية المنتجة محلياً يتم تهريبها إلى الخارج، بالتعاون والتنسيق بين المهربين ومسؤولين في النظام، مع الأخذ بعين الاعتبار أن التهريب الدوائي لا يقتصر على الأدوية البشرية فقط، بل وعلى الأدوية البيطرية أيضاً، وغيرها من المنتجات الطبية الأخرى.
وبحسب المصادر هناك 96 معملاً دوائياً في سوريا، تغطي نسبة 95% من حاجات السوق اليوم، وذلك بحسب تصريح نقيب صيادلة سوريا "وفاء كيشي" التي بينت توفر جميع أصناف الدواء للأمراض المزمنة، باستثناء بعض الأصناف السرطانية وبعض اللقاحات، وهذا يعني أن هذه الأدوية المصنعة محلياً لا تعاني من نقص المواد الأولية، ولا من صعوبة الحصول عليها.
4 ـ تلاعب بالأسعار والحجة سعر الصرف:
رفعت حكومة النظام أسعار الدواء أكثر من مرة خلال السنوات القليلة الماضية، ومنذ أن بدأت حكومة النظام برفع سعر الدواء بحجة ارتفاع سعر الصرف، انتقد رئيس نقابة عمال الصحة في دمشق، سامي حامد القرار، مشيراً إلى أنه يوجد أدوية رابحة بنسبة 100% لدى معظم الشركات، وأن صناعة الأدوية وفق خبرته لم تكن خاسرة أصلاً ليتم رفع سعر الدواء، وإنما انخفضت أرباح شركات الأدوية الخاصة بنسب معينة، فاعترضت على ذلك، ما دفعها إلى الضغط لإصدار قرار رفع الأسعار، رغم أن تلك الشركات رفعت أرباحها دون أي قرار عندما خفض العديد من الشركات كمية الدواء في العلبة الواحدة.
أما رئيس اتحاد غرف الصناعة، ورئيس غرفة صناعة حلب، فبين أن أصحاب المعامل طالبوا الحكومة بإعفاء شركات ومعامل الأدوية من الضرائب، وتمويل مستورداتهم بسعر قطعٍ مناسبٍ ومخفّض، وليس وفقاً لأسعار السوق السوداء، وحماية منشآتهم، وتيسير نقل الدواء والمواد الأولية، واستثناء الدواء من التفتيش على الحواجز فور إبراز الفواتير النظامية، والسعي إلى تأمين الطاقة الكهربائية لتشغيل المعامل، أو أيّ مادةٍ من مواد الطاقة الأخرى تعمل عليها الآلات، وبالأسعار النظامية، مبيناً أن هذه الإجراءات لن تؤثر كثيراً على موارد خزينة الدولة، التي اتجهت نحو رفع الأسعار دون التفكير بحلول أخرى.
اللافت أنه سبقت صدور قرارات رفع الأسعار تأكيدات جازمة من وزير الصحة في حكومة النظام، نزار يازجي، بأن لا نيّة لدى الوزارة برفع أسعار الأدوية. كما أنه انتقد، في تصريحاتٍ سابقةٍ، أرباح معامل الدواء التي كانت تصل إلى 500%.
5 ـ غياب رقابة وفساد وجودة منخفضة:
موضوع التسعير لم يقتصر على رفع سعر الدواء، بل أيضاً أثر على جودة الدواء نفسه، الذي غابت عنه الرقابة وعمل الفساد عمله في التغاضي عن غشه وغياب جودته، عدا عن ظهور أدوية بأسماء تجارية غير مألوفة، وسوء التخزين والتوزيع.
موضوع فساد الرقابة على الأدوية في سوريا ليس جديداً، فمنذ عام 2010 بينت تقارير لوزارة الصحة السورية تراجع في تحاليل الرقابة على الأدوية عام 2010 بمقدار 6762، أي ما نسبته 41.48% عن سنة 2005، في حين انخفضت عن سنة 2009 بمقدار 2384 أي ما نسبته 20%، في حين زادت نسبة المعامل المنتجة للدواء عام 2010 بمقدار 16، معمل أي ما نسبته 29.6% عن سنة 2005، أما مقارنة بالعام 2009 فكان مقدار زيادة ثلاثة معامل ما نسبته 4.47% .
واليوم يغيب الدواء الفعال في سوريا لانخفاض فعالية المواد الداخلة في تركيبته الكيميائية، وذكرت مصادر محلية أن "شركة دوائية تكتسب أدويتها مصداقية عالية في الجودة والفعالية لدى السوريين وللعلم ما زالت تنتج بعض أصنافها الدوائية بمراقبة من الشركة الأم صاحبة الترخيص، إلا أن الشركة الأم كشفت بأن الشركة المحلية قد تجاوزت حدود الأمانة العلمية والمصداقية العملية. فقد أنتجت أضعاف العبوات من دواء محدد ومشهور ومطلوب وهو صاد حيوي. بدليل أن المادة الدوائية المسلمة من قبل الشركة الأم للشركة المحلية تكفي لتصنيع أربعة آلاف عبوة تحديداً بينما الموجود في الأسواق يتجاوز ذلك بأضعاف وليس ضعفاً واحداً أو اثنين من المنتج المذكور".
نظام الأسد ما زال مستمراً باستغلال معاناة السوريين وآلامهم، وما زال يعمل على ابتزازهم وسرقة ما في جيوبهم بكل الوسائل المتاحة أمامه، مع إمعانه في ارتكاب الانتهاكات الخطيرة بحق الشعب السوري، وامتناعه عن القبول بأي حل سياسي يرفع عن كاهل السوريين سنوات طويلة من القتل والدمار والتشريد والألم، ودون أن يسعى للتخفيف عنهم وتأمين أدنى متطلبات العيش لهم، متذرعاً بالعقوبات الاقتصادية التي فُرضت عليه بسبب انتهاكاته وقتله للسوريين وتدميره للبلاد، فإذا كان يريد بالفعل رفع العقوبات، فليعمد إلى إطلاق سراح المعتقلين الذين تمتلأ بهم سجونه على الأقل، دون ذنب لهم إلا مطالبتهم بالحرية والكرامة، وليعمد إلى الاعتراف بما اقترفته ميلشياته من انتهاكات بحق الشعب السوري وصلت لحد جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، ولينخرط بعملية سياسية تسرع الانتقال السياسي وتنهي معاناة السوريين، وتسهم في مسار عملية عدالة انتقالية تشفي جراح الشعب السوري.
كما على المجتمع الدولي عدم الاكتفاء بالعقوبات الاقتصادية الرمزية التي لا تؤثر على بقاء النظام وقدرته على ارتكاب المزيد من الجرائم بحق السوريين، والانتقال إلى العقوبات العسكرية التي ترافقها عملية سياسية عادلة.
إن مطالبة بعضهم برفع العقوبات الاقتصادية عن النظام بحجة التخفيف عن السوريين، مع استمرار السكوت عن الجرائم المرتكبة بحقهم، تعد بمثابة دعم وتشجيع للنظام على استمرار انتهاكاته وجرائمه، في وقت يجب أن يتم فيه نشر الوعي بمسؤولية النظام أولاً وأخيراً عن كل ما لحق بالسوريين خلال السنوات الماضية من أذى، فهو حتى الآن مازال يتعامل مع من بقي تحت سلطته من الشعب كرهائن يستغل آلامهم ويسرق قوت يومهم أمام سمع العالم وبصره.