منذ ما يزيد على نصف قرن، وتحديداً في عام 1972م، تم التوقيع على الاتفاقية العالمية المعروفة باسم "اتفاقية التراث العالمي"، والتي يمكن تكثيف جوهرها بفكرة أن بعض مواقع العالم لها "قيمة عالمية استثنائية"، ويجب أن تشكل جزءاً من التراث المشترك للبشرية، ولا يُقصد بالمواقع فقط تلك التي بناها الإنسان خلال تاريخه، بل تشمل أيضاً مواقع طبيعية تمتاز بخصوصية ما.
وقعت 190 دولة على هذه الاتفاقية، أي أن المجتمع الدولي قرر في هذه الاتفاقية توحيد جهوده في تحديد أهم المواقع التراثية، الطبيعية، والثقافية وحمايتها وصيانتها، ووقّعت سوريا على هذه الاتفاقية في عام 1975م، وهناك ما يزيد على 1300 موقع عالمي أدرج ضمن المواقع المصنفة على أن لها قيمة عالمية استثنائية، وأنها تشكل جزءاً من التراث المشترك للبشرية.
أدرجت مواقع سورية عديدة في قائمة التراث العالمي، في دمشق، وحلب، واللاذقية، وطرطوس، ودرعا، وإدلب، ودير الزور، والرقة، وحمص وغيرها، لكن دمشق احتلت الصدارة في عدد المواقع السورية، فهي أقدم عاصمة مأهولة بالتاريخ، وعلى أرضها تعاقبت حضارات كثيرة، ومن المواقع الدمشقية التي أدرجت في القائمة كانت دمشق القديمة كلّها، والمحددة بسور دمشق وبأبوابها السبعة، وهناك عدة مواقع خارج دمشق القديمة، باختصار في دمشق وحدها تم وضع 125 معلماً أثرياً ضمن قائمة "اليونسكو"* للتراث الثقافي العالمي.
تُعد اتفاقية التراث العالمي نقلة بالغة الأهمية في تعاطي البشرية مع تاريخها، وثقافاتها القديمة، ومع الطبيعة، فهي تدمج مفاهيم حماية الطبيعة والحفاظ على المواقع الثقافية في وثيقة واحدة. وتركز الاتفاقية على دور المجتمعات المحلية في حماية وصيانة هذه المواقع، ولهذا فهي - أي اليونسكو- تدعم المجتمعات المحلية والحكومات للوقوف في وجه التحديات التي تهدد هذه المواقع، مثل مسائل تغير المناخ، والتوسع العمراني السريع، والسياحة الجماهيرية، والتنمية الاجتماعية، والاقتصادية المستدامة، والكوارث الطبيعية، وغير ذلك.
لم تعرف سوريا في تاريخها حماية حقيقية للمعالم التاريخية والثقافية التي تكتنزها في أرضها، وكانت التعديات التي تتم على المواقع الأثرية، إنّما تتم بسبب غياب دور الدولة الحقيقي في هذا المجال من جهة، وإلى غياب الوعي الرسمي والشعبي لأهمية هذا التراث من جهة أخرى، ومع هذا، فقد ظلت سوريا بعيدة عن التدمير الممنهج لهذا التراث، إلى أن قام حافظ الأسد بانقلابه 1970م.
افتتح رفعت الأسد استثمار العائلة في تجارة آثار سوريا، واستمرت هذه التجارة بعد خروج رفعت من سوريا، لكنّها ظلت حكرا على العائلة وأزلامها، إلى أن دخلت إيران على الخط
بعد وصول حافظ الأسد إلى السلطة، تم إصدار قوانين متشددة لحماية المعالم الأثرية، ووقعت سوريا في 1975 على اتفاقية حماية الآثار والمواقع الأثرية والثقافية، وكان هذا يدعو للتفاؤل فيما لو تم تنفيذه، لكن الذي حصل على أرض الواقع هو أن بيع الآثار، والتنقيب العشوائي وغير العلمي، إنما احتكرته السلطة ممثلة بالعائلة، وافتتح رفعت الأسد استثمار العائلة في تجارة آثار سوريا، واستمرت هذه التجارة بعد خروج رفعت من سوريا، لكنّها ظلت حكرا على العائلة وأزلامها، إلى أن دخلت إيران على الخط، ومن ثم وبعد أن انفجرت الثورة السورية، انضمت كتائب مسلحة تحسب على المعارضة إلى المتاجرين بالآثار السورية.
اليوم هناك جريمة كبرى ترتكب بحق تاريخ سوريا، وثقافتها، وشعبها، ترتكبها ثلاثة أطراف هي عصابة آل الأسد ومن يتبع لها، وهناك فصائل مسلحة عديدة، والأخطر من الجهتين السابقتين هي إيران والميليشيات التابعة لها.
التهديد الأكبر الذي يواجه المعالم الأثرية السورية، والتراث الثقافي، وخصوصا في دمشق القديمة، هو التدمير المتعمّد والممنهج الذي تقوم به إيران للمعالم الثقافية والتاريخية، ولغايات سياسية، ودينية، واقتصادية، فمنذ عام 2004م، بدأت إيران بتنفيذ خطة واضحة للاستيلاء على مواقع داخل دمشق القديمة، وعلى طريق المطار وفي مناطق أخرى، ورصدت من أجل ذلك أموال طائلة، ومن رفض من السوريين بيع ممتلكاته في هذه المناطق، أُرغم بواسطة السلطة السورية وأجهزة مخابراتها، على البيع أو التنازل.
قبل عام تقريبا تم بيع المدرسة "القليجية الحنفية"، وهي مدرسة أثرية تقع في دمشق القديمة، داخل أسوار مدينة دمشق القديمة، خلف قصر العظم مباشرة وإلى الجنوب الشرقي منه، ولأنها داخل سور دمشق التاريخي، فهي ضمن ما يُعرف بمنطقة دمشق القديمة، وقد أدرجتها "اليونسكو" ضمن مواقع التراث العالمي، أي إنها مصنّفة من ضمن المناطق المحمية من قبلها، لكن وبلعبة شاركت بها وزارة الأوقاف وأجهزة المخابرات السورية، تم بيعها لتصبح مطعماً وفندقاً سياحياً، تعود ملكيته لضابط سوري أجرم بحق سوريا والسوريين، وهو رجل إيران الأهم في سوريا.
عشرات المواقع التاريخية استولت عليها إيران بتواطؤ مع أجهزة الأمن السورية ومع مؤسسات أخرى في الدولة، وبالترغيب والترهيب، وكل ما تفعله السلطة السورية التي تقودها عائلة الأسد هو أن تشرعن وتقونن استملاك الإيرانيين لها
وقبل أشهر فقط تم طرد كل شاغلي "التكيّة السليمانية" من الحرفيين السوريين، الذين يشغلونها منذ نصف قرن، بحجة انتهاء عقودهم، واستولت جهات تتبع لأسماء الأسد عليها تمهيداً لمشروع سوف تموله إيران.
وقبل أيام التهم حريق كبير قسماً من حي "ساروجة" التاريخي، وفي هذا الحريق خسر السوريون كنزاً وثائقياً لا يُقدر بثمن، كان موجوداً في دار الوثائق التاريخية، وقبل ذلك شبت حرائق كثيرة في محال دمشق القديمة.
عشرات المواقع التاريخية استولت عليها إيران بتواطؤ مع أجهزة الأمن السورية ومع مؤسسات أخرى في الدولة، وبالترغيب والترهيب، وكل ما تفعله السلطة السورية التي تقودها عائلة الأسد هو أن تشرعن وتقونن استملاك الإيرانيين لها، ولا أحد في داخل سوريا سواء في المؤسسات الثقافية أو الحكومية، أو في البرلمان السوري يرفع الصوت أمام هذه الجريمة الكبرى بحق الشعب السوري، وتاريخه وثقافته.
قبل عدة أيام وجه ناشطون سوريون نداءً عاجلاً إلى منظمة اليونسكو لحماية دمشق القديمة، والمعالم الثقافية فيها، لكن هل بإمكان هذه المنظمة فعل شيء حيال ما يفعله الحرس الثوري الإيراني في المواقع المصنفة من قبلها – أي اليونسكو - على أنها تنتمي إلى جميع شعوب العالم، بغض النظر عن المنطقة التي تقع فيها، وهل تتنبه جهات سورية ثقافية وسياسية وحقوقية إلى خطورة ماتفعله إيران لتغيير تاريخ سوريا؟
(*) اليونسكو: منظمة تتبع للأمم المتحدة، متخصصة في التربية والعلم والثقافة تسعى إلى تشجيع تحديد التراث الثقافي والطبيعي، وحمايته، والمحافظة عليه في جميع أنحاء العالم الذي يُعتبر ذا قيمة بارزة للبشرية. يتجسّد هذا في معاهدة دولية تسمى اتفاقية حماية التراث الثقافي والطبيعي العالمي، التي اعتمدتها اليونسكو في عام 1972م.