(دفق Flow) هو الألبوم الذي ترافق صدوره مع الأوصاف التي نشرتها مجلة النيويورك تايمز "كثيف الطاقة الروحية... حيوي"، بينما استعملت (النيويوركر) "أخاذ.. يأسر الألباب"، وقالت محطة CBC "صوت الغنى المفاجئ"، معلقة على قدرة المؤلف والعازف في التنويع بين الأنماط والألوان الموسيقية العالمية المتعددة.
قدرة التنويع بين ذائقة الثقافات
يكفي النظر إلى الأنواع الموسيقية التي تشكل المقطوعات العشرة التي يتضمنها الألبوم، لنلمح تنويعاً بين شكل الكونشرتو الكلاسيكي، وكذلك السوناتا لآلتين، أو شكل الارتجال المستمد من عوالم الجاز، لكن كذلك يتحول إلى تقسيمات الموسيقا الشرقية، وكذلك هناك مقطوعة مستلهمة من لحن تراثي، وأخرى مستلهمة من الطقوس والشعائر، وتبقى المقطوعة الأخيرة قادرة على السرد القصصي والشعوري بين سولو الآلة المنفردة من جهة، وعلاقتها مع الكتلة الصوتية للمجموعة من جهة أخرى.
هذا ما يدفع الملحن والمنتج والموسيقي (وولف كورشيك)، لينشر حواراً مع (كنان العظمة) في نصوص الألبوم، ويبدأ حواره بالتطرق إلى مقدار التنوع بالأنماط الموسيقية في الألبوم من الجاز إلى الموسيقا الشرقية، مروراً بالمؤلفين الكلاسيكيين، وروح الكونشرتو التي تضم المقطوعة الأولى التي خصصها المؤلف لكتابة كونشرتو لآلة الكلارينيت، يبدأ مع تفريعات لآلة وحدها، لتتصاعد في فضاء سمعي مصمت، لكن النوتات ما تلبث أن تشكل وحدها اللحن والعالم الصوتي من حوله، وصولاً إلى التداخل في الخفة، في التركيب، وفي التجريب الصوتي بين مجموعة الآلات والكلارينيت المنفردة، يلهوان معاً ببعض النوتات على إيقاع البطيء، والدقيق، ومن ثم يتشكل اللحن في أذن المتلقي، الذي يحمل خصائص متنوعة من الفلكلور الشرقي، من الموسيقا الإثنى عشرية، اللالحنية، وبالتأكيد التقسيمات- الارتجالات التي تجمع بين العزف الشرقي وتفريدات الجاز.
يضع المؤلف جهداً واضحاً في كتابة كونشيرتو معاصر لهذه الآلة، لكنه يحمل الخصوصية والجمالية التي اكتنزها المؤلف العظمة في تجاربه، وفي مشاريعه، وألبوماته، التي لن ترضى الأرتهان إلى جمالية شرقية أو غربية أو ما شابه، بل يبدو التنويع ورغبة الجمع بين أنماط ربما تكون غير مألوفة، غاية أساسية في فكر المؤلف. والمقطوعة الثانية بعنوان (The Canteen)، ويظهر فيها بشكل استثنائي دور الكلارينيت، الساكسفون، والطبلة.
دفق الموسيقي بين القصائد وحكايات الأصدقاء الحميمية
مع المقطوعة الثالثة بعنوان (الفتاة ذات الرداء الأحمر)، والتي تبرز فيها ألتي الكلارينيت والترمبون، ينقلنا المؤلف إلى عالم فني وموسيقي مغاير، مستلهم هنا من الأدب، أو من الحكاية الشعبية. فالعنوان يحيل إلى (الفتاة ليلى) في حكاية الأطفال (ليلى، الجدة، والذئب). لكن المؤلف العظمة هنا لا يعود بنا إلى نص الحكاية الأصلي وعوالمها، بل كان قد ألف مقطوعته هذه متأثراً بقصيدة (الفتاة ذات الرداء الأحمر) للشاعر (عدنان العودة)، وتحمل خصوصية اللهجة:
"يا ليلى
يا ليلى
ما في ذئب بالغابة يا ليلى
لشو مشاويرك
وستك محاصرة بالجوع
أكلت عصافيرك
يا ليلى والغابة حرقوها والقصة سرقوها
خليكي صغيرة يا بنت وغفيانة بسريرك"
إن هذه الميزة بالاستلهام من قصائد أو حكايات، تمنح المؤلفات ما هو أبعد من التراكب الموسيقي، بما يطلق عليه الموسيقي (علي موره لي) بالتراكب المفاهيمي، الذي يشمل المجال الفكري والعلاقة بين المفاهيمي والموسيقي أيضاً، فتنشأ برأيه وحدة بين الموسيقا والمفاهيم تكوينية، يتمخّض عنها عمل موسيقي يخاطب الوجداني والفكري في الآن عينه. وهو ما ينطبق على المقطوعة المستلهمة من قصيدة نبوءة الخراب والعنف للطفلة الصغيرة. ورغم الرهبة التي تتضمنها الموضوعة، إلا أن أسلوب العزف وطبقات الحوار الآلاتية تضمر حضوراً واضحاً للسخرية، التي تتناقلها النفخيات الملتزمة بالاحتمالات التي يفتحها نوع الجاز، في مقابل التزام المجموعة الموسيقية بالإيقاعات والبنى الكلاسيكية لتخلق التنافر الهزلي في بعض تركيباته.
في لقاء مع راديو مونت كارلو لا يخفي المؤلف والعازف العظمة روحاً من التفاؤل أحاطت به في فترة تأليف الألبوم. عنوان المقطوعة الرابعة (كلنا متفائلون) يعود أيضاً إلى حكاية جمعية، ربطت المؤلف مع أصدقاءه، وهي مقطوعة ألفها لمرافقة ألبوم صور ذكريات العائلة والأصدقاء الذي قررت صديقته مشاركته عبر اليوتيوب، لتحمل إلى الجماعة متعة الذاكرة، واحتمالية الأمل. والموسيقا ترافق تدفق الصور القادمة من ألبوم العائلة الذي أصبح ملكاً جمعياً لكل السوريين/ات، لينمعوا بلحظات الحنين، التفاؤل، والعلاقات القادرة على الإستمرارية. يروي كنان عن تأثره بهذه الحكاية التجربة، ورغبته القوية في التعبير عن مشاعره حيال التجربة. وتغلب على المقطوعة أداءات البيانو المتفرد أو المرافق بآلات فرقة الجاز.
في استلهام تراث المدن الموسيقي.. الحكائي والشعائري
يبين المؤلف كنان العظمة في نص مرافق لإصدار الألبوم، عن ثنائية المكان التي يعيشها في تعدد الانتماء:
"لطالما شعرت بأني الدمشقي في نيويورك، وبالعكس، النيويوركي في دمشق..
لكن اهتمامي ينصب الآن على أن أكون نيويوركياً في نيويورك، ودمشقياً في الشام.
كلا المدينتان على الرغم من تناقض خصائصهما، ملهمتان بالنسبة لي.
الأماكن،الأشخاص، الطبيعة، وأحداث التراجيديا إلى جانب الاحتفالات، أدرك أن كل هذه الخصائص والتجارب تعمل أثرها في إبداعي الموسيقي.
العيش في حالة من الدفق المستمر يمنحني الشعور بالأمان".
وسواء بسبب تجربة الحرب ودمار المدن السورية، أو بسبب النزوح والمنفى، أو بسبب العلاقة الملتبسة مع المكان والذاكرة، فإن ألبومات (العظمة) إما أن تؤلف كاملة على مفهوم العلاقة مع المدينة، كما في ألبوم (المدينة اللينة Elastic City)، أو تتضمن في أجزاء أساسية منها مقطوعات تتعلق بالمدن أو مستلهمة من ذاكرتها. لكن المقطوعة الخامسة هنا بعنوان (درعا)، مختارة بلاشك، كنوع من التحية الوجدانية لهذه المدينة التي عرفت دوراً أساسياً في مطالبات التغيير السياسي، وكذلك شهدت مقدار مكثفاً من العنف والدمار على مدار السنوات. بوضوح، تحمل المقطوعة اسم المدينة، وعلى المستوى الموسيقي، فإن اللحن الأساسي في المقطوعة يعتمد على ترنيمة فلكلورية، أو أنشودة هتافية يؤديها أهالي المنقطة بإيقاعاتها المميزة. هذا اللحن الفلكلوري يشكل المركز الذي ينطلق منه التأليف اللحني، ولكن أيضاً التراكيب الصوتية والتوزيعات الموسيقية. ورغم أن عنوان المقطوعة التالية أيضاً يتعلق بمدينة، (جسرين)، إلا أن المقطوعة لا تنطلق من المبدأ ذاته في عملية التأليف، فليس هنا من اعتماد على لحن تراثي أو ترنيمة شعبية، بل تخيل موسيقي بين السولو والجاز مهدى لهذه المدينة، التي تربط المؤلف بها علاقة طويلة منذ الطفولة، وصولاً إلى كل ما تعايشه أيضاً جسرين في ظل الأوضاع العنفية والمعيشية. وتظهر في مقطوعة (جسرين) النفخيات بشكل واضح كلارينيت، الساكسفون، والهورن الكبير.
منذ ألبوم فرقة (حوار) الأول، والذي انطلق العظمة في التأليف والعزف معها منذ العام 2005، قدم حينها مقطوعة بعنوان (صلاة، مهداة إلى إدوارد سعيد)، ومن حينها يستلهم المؤلف من الشعائر الجماعية، أو الطقوس الدينية، أو الظواهر الاجتماعية، وذلك أحياناً من عوالمها الصوتية، وأحياناً من مفاهيمها الروحية والذهنية. في المقطوعة التاسعة يمنح تسع دقائق من ألحان الجاز البحتة، والتي أقرب ما في مقطوعات الألبوم لذائقة الجاز الأمريكي وجماليتاته، يمنحها اسم (Rituels، طقوس أو شعائر)، عنوان يدفع المستمع حين يربطه مع المقطوعة موسيقياً، للابتهال للجاز باعتباره الشعيرة والطقس التي يجب الاحتفاء بها وتكريسها، كأن المقطوعة تمنح البعد الديني، أو القدسي، إلى موسيقا الجاز، إلى الاحتفاء بالآلات في جدلياتها والعالم الجمالي الذي تبتكره. وهي بلاشك، مقطوعة تدفع المستمع إلى تجربة التقارب في مقطوعة واحدة بين الشعائري والموسيقي، بين القدسي والإبداعي، بين الطقوس والمابعد حداثي في تكسيرات الألحان وحد الإيقاعات.
المقطوعة الأخيرة تحمل في عنوانها فرضية حكائية (الحب في شارع 139)، وهي بالتالي تتضمن احتمالات سردية لقصة حب مرتبطة برقم، بمكان، بشارع في نيويورك. يصف الموسيقي علي موره لي: " في هذه المقطوعة Love on 139th Street تلد الموسيقا من رحم الكلارينيت، وإلى الكلارينيت تعود. على نارٍ إيقاعية تبُثها طبول هندية وأفرو لاتينية، تُسخّن الألحان، ينفُثها كنان كالدخان، حتى يتبادر للآذان كما لو أن كل الأصوات تصدر عنه، من بين يديه، من حنجرته ومن رئتيه. ألوان الوتريّات مستترة، والنفخيات المختلفة متقاربة، طبقاتها اللًونية متّسقة ومتماهية".