"كل شيء هادئ على الجبهة الغربية" عنوان فيلم حديث من إخراج إدوار بيرغر، وهو مبني على رواية الكاتب إريك ماريا ريمارك التي تحمل نفس الاسم. وهذه الرواية تحولت في السابق إلى فيلمين سينمائيين، في ثلاثينيات وسبعينيات القرن الماضي، ولعل النسخة الفيلمية الأخيرة (الثالثة) هي الأكثر إدهاشاً وروعة، ومن المتوقع أن تُرشّح لنيل العديد من جوائز الأوسكار لهذا العام.
يكمن إبداع هذه النسخة في حبك القصة وسردها من خلال الصور، وفي واقعية المشاهد التي تجعلنا نشعر بأنها بث حي ومباشر للأحداث، والانتقال السلسل والبسيط للكاميرا من المشاهد الخارجية (المعارك) إلى المشاهد الداخلية (قاعات المفاوضات ومكاتب القادة).
وما يميز هذا الفيلم عن أفلام الحروب هو العناية بالتفاصيل وشمولية الطرح؛ حيث يغطي الفيلم جميع جوانب الحرب السياسية والعسكرية والاجتماعية والنفسية. وقد استطاع المخرج إيصال الكثير من المعاني دون حوار، فقط من خلال الصور، مع الحفاظ على إيقاع متوازن لا تطغى فيه جوانب الإثارة والحركة على الجوانب الدرامية والقصصية في الفيلم.
المتن الحكائي ومعلومات تاريخية لتبسيط المشاهد
يرصد الفيلم، وهو من إنتاج نتفلكس، مجموعة طلاب يُجنَّدون خلال الحرب العالمية الأولى للالتحاق بالجبهة الغربية لألمانيا في حربها ضد فرنسا ضمن ما بات يُعرف بـ "حرب الخنادق"، حيث تُمارَس عليهم أدلجة وخطب وشعارات براقة وهم صغار سن يُخدعون بهذه البروبغندا، ثم يتطرق الفيلم إلى معاناة وتجارب هؤلاء الجنود في ساحة المعركة، ليرى المشاهد أهوال الحرب من خلالهم.
يبدأ زمن الأحداث من السنة الثالثة للحرب على الجبهة الغربية، حيث تدور المعارك بين الفرنسيين والألمان، ويمكن اعتبار رواة الأحداث هم الشباب الألماني المشارك بالحرب، خصوصاً شخصية "باول بومر" بطل الفيلم.
استمرت الحرب العالمية الأولى أربع سنوات، وهي أول حرب استُخدِمت فيها الدبابات الحربية والطائرات في المعارك، وكذلك أول حرب كيميائية استُخدِمت فيها الغازات السامة والأقنعة الواقية والخوذ الحديدية. ولعل ما يميز هذه الحرب أيضاً، على هذه الجبهة تحديداً، هو استخدام الخنادق، حيث يتمترس كل فريق بخنادقه ولذلك لا يوجد تقدم على الأرض لأحد الفريقين على الآخر بالرغم من الخسائر الكبيرة بالأرواح والعتاد.
النقاط الإيجابية للفيلم
يحكي الفيلم قصة الحرب من وجه نظر الشباب الألماني المشارك فيها، ومن خلال ممثلين ألمان أيضاً، وهذا يقرب الفيلم من الواقع؛ فالراوي وبطل الأحداث شاب ألماني زُجَّ في خضم هذه الحرب معتقداً أنه سيدخل التاريخ كبطل ليجعل أهله يفتخرون به، منساقاً وراء آلية الضخ الإعلامي والتوجيه السياسي والشعارات الرنانة.
عندما نشاهد الفيلم، سنجد كم كانت تلك الحرب الوحشية إنسانية وأخلاقية مقارنة بما سُرِّبَ من صور وفيديوهات وصوتيات لحرب الأسد على السوريين
وقد أبدع مخرج العمل وفريقه في تجسيد مشاهد المعارك بشكل قريب للواقع، يكاد المشاهد أن يستشعر طعم الطين الذي يملأ فم بطل الفيلم في مشاهد كثيرة، فمشهد وقوعه مع جندي فرنسي في بركة طين كبيرة، وعراكهما ثم طعنه لهذا الجندي، فمحاولته إسعافه، ثم بكائه عليه بعد وفاته، من أبرز المشاهد التي يمكن اعتبارها سابقة قد لا تتكرر في مثل هذه النوعية من الأفلام.
كما استطاع المخرج خلق تجربة بصرية متكاملة بانتقالات سلسلة بين المشاهد، انتقالات توصل للمتلقي رسائل مبطنة، خصوصاً عند الانتقال من الخطوط الأمامية للجبهة إلى طاولات المفاوضات؛ بين البرود القاتل على تلك الطاولات وبين غريزة البقاء التي تسيطر على الجنود في ساحة المعركة. الانتقال بين لقطة لقائد يلقي بالأطعمة اللذيذة لحيواناته الأليفة، وبين الجنود الذين يتضورون جوعاً في ساحات القتال. هذه التنقلات جعلت الحوار يخفت وجاءت المشاهد التصويرية لتعبر عنه.
مشاهد مميزة ومشاهد محروقة
هناك مشاهد طويلة بلقطات متسلسلة داخلية وخارجية تعبر بالصور على ما لا يمكن أن تعبر عنه الكلمات، منها مشاهد تَتَبُّع كومة الملابس؛ فبعد موت الجنود يعمل جنود آخرون على نزع أحذيتهم وملابسهم وتجميعها، ثم تنتقل إلى الغسيل، ثم تنتقل إلى مشاغل الخياطة، لتخاط أماكن الطلقات، ثم تنضد وتسلم إلى جنود آخرين.
قد ينسى القائمون على هذه العمليات إزالة ملصقات أسماء الجنود القتلى على الثياب المدوّرة، وإذا انتبه الجندي الجديد، تقطع تلك القطعة وتلقى تحت طاولة من يسلمه الثياب وهكذا... كل شيء ثابت في هذه العملية: الثياب، الأحذية والأسلحة... أما الجندي فيتبدل؛ الجسد إلى التابوت والثياب إلى جنود آخرين!
مشاهد جمع القلائد أيضاً هو رسم بالصور، حيث يجمع بعض الجنود الناجين القلائد المعدنية من أعناق القتلى، وتتضمن تلك القلائد مواليد وأسماء القتلى، وهي توثيق لمشاركة الجندي بالمعركة وتحديد مكان وفاته. وفي أرض المعركة غالباً لا يكون هذا الإحصاء دقيقاً، تجمع القلائد وترسل إلى القيادة لتستخدم في الإحصاء فقط، فالجنود الذين نعيش معهم القصة هم بالنسبة للقادة مجرد أرقام، لا يهم إذا زاد العدد بضعة آلاف أو نقص، لذلك في بعض المشاهد يتوقف عدّ القلائد إذا استعجل القائد طلب قوائم القتلى.
المشهد الختامي هو مشهد ملحمي بامتياز. فبعد الاتفاق على الهدنة التي ستبدأ في الساعة الـ11.11 صباحاً، قرر قادة ألمان شنّ هجوم أخير لكسب مزيد من الأراضي قبل سريان الهدنة بدقائق. حينها كان بطل الفيلم ما يزال حياً، ولكن في تمام الساعة الـ11.10 يتلقى طعنة ثم يستمر في المسير لتظهر صورة فتاة كان زميل له ألصقها على مكان مناوبتهم عند بداية الفيلم، أي أن الألمان والفرنسيين لم يحققوا أي مكسب على الأرض، بإشارة لعبثية الحروب، فكل هذه الدماء وهؤلاء القتلى من أجل لا شيء.
تقاطعات ومفارقات مع تفاصيل الثورة السورية
عندما نشاهد الفيلم، سنجد كم كانت تلك الحرب الوحشية إنسانية وأخلاقية مقارنة بما سُرِّبَ من صور وفيديوهات وصوتيات لحرب الأسد على السوريين. هناك تفاصيل كثيرة تتقاطع فيها أحداث الحرب مع بعض أحداث الثورة السورية، ومفارقات بنفس الوقت؛ فالحرب العالمية الأولى استخدمت فيها الأسلحة الكيمياوية لأول مرة وكذلك الأقنعة الواقية، وآخر الحروب التي تستخدم فيها الأسلحة الكيماوية هي حرب الأسد على الشعب السوري في مجزرة الغوطة وما تلاها، ولكن بدون أن يستخدم المدنيون السوريون الأقنعة الواقية كما حدث في الفيلم.
أيضاً، استخدمت أسلحة لأول مرة في الحرب العالمية الأولى، كالدبابات والطائرات... وفي حرب الأسد استخدمت البراميل المتفجرة لأول مرة، ولكن ما رأيناه في الفيلم هو صراع متكافئ بين جنود الطرفين، أما البراميل فكانت غالباً ما تُلقى على المدنيين وبدون أن تفرّق بين شيخ كبير وطفل صغير.
أما المشاهد التي تقارن بين مجاعة الجنود الألمان على ساحات القتال وموائد القادة وكلابهم التي تحتوي على ما لذ وطاب من المأكولات، فتذكرنا بمجاعة السوريين في الداخل السوري، في مختلف مناطق السيطرة، وخبر افتتاح لونا الشبل مطعمها الروسي الفاخر!
ويُمارَس في الفيلم أدلجة وخطب رنانة على المجندين من صغار السن، تماماً كما هي خطابات إعلام النظام السوري، والتوجيه السياسي والمعنوي، ومقرر "التربية القومية الاشتراكية" في مدارس وجامعات نظام الأسد.
في أفلام الحروب، غالباً ما يتوق المشاهد إلى معرفة المنتصر في نهاية الفيلم، ولكن في هذا الفيلم بالتحديد، لن يتمنى المشاهد إلا انتهاء الحرب.