كذب المنظّرون ولن يصدقوا

2024.09.20 | 09:13 دمشق

5444444443
+A
حجم الخط
-A

منذ بداية العدوان الوحشي على غزة وحتى اليوم، يتعرض السوريون لحملة تنظير وأستاذية لا تُطاق ولا يمكن السكوت عنها. ولأن الوعي السوري بخطورة ما يجري في غزة كان الصمت غالبًا على معظم السوريين في بداية حملة التنظير هذه، لإدراكهم بأن اللحظة ليست لحظة افتعال معارك في وقت تُسحق فيه بيوت غزة فوق ساكنيها وتتعرض فيه عموم مناطق فلسطين المحتلة لأكبر عملية استباحة منذ نشأة دولة الاحتلال، وإلى ما يشبه نكبة ثانية. حملة الأستاذية هذه لم تكن لأن السوريين، مثلاً، لم يناصروا أشقاءهم في غزة أو أن موقفهم كان ملتبسًا مما يجري في فلسطين، بل كانت دفاعًا عن إيران وميليشياتها التي تعيث فسادًا في أربع دول عربية!

يحار المرء كيف ومن أين يبدأ كلامه وهو يحاول تفنيد ادعاءاتهم وافتراءاتهم بحق السوريين، بعد أن ارتقوا إلى مرتبة جديدة من مراتب التنظير والأستاذية حين بدؤوا بترويج فكرة أن كل من يعادي خصوم إسرائيل هو "صهيوني".

يمكن أن نقسم هؤلاء المنظّرين إلى عدة أقسام وشرائح. الشريحة الأولى يمكن أن نسميها، إذا أحسنا الظن، بأصحاب النوايا الطيبة، أي الذين يريدون من الجميع اليوم تأجيل أي خلاف قد يشوش على دعم أهل غزة، وهم بطبيعة الحال شريحة تراجع صوتها مع مرور الوقت لأنها أدركت مبكرًا أن المشكلة أعمق وأعقد من هذا التفصيل.

أما الشريحة الثانية، والتي غالبًا ما ينتمي أفرادها إلى عرب شمال أفريقيا من مصر وصولًا إلى أقصى المغرب، فيشبه تعاملهم مع تفاصيل ما يجري تعامل مشجع كرة القدم الذي لا يتابع سوى كأس العالم، أي لا معلومات لديه ولا تفاصيل، فقط يريد المشاركة في هذه الهمروجة من باب تسجيل الحضور. معظمهم لا يملك معلومات عن ما فعلته وتفعله إيران، وهو حبيس شعارات ما بعد نكسة الـ 67، وهم بطبيعة الحال يحاولون باندفاعهم هذا تغطية عجزهم وشعورهم بالتقصير تجاه غزة، لأن حكوماتهم منعتهم حتى من التظاهر دعمًا لفلسطين.

الشريحة الثالثة، وهي الأخطر بطبيعة الحال، هي تلك التي تتعمد تشويه عذابات وتضحيات السوريين واليمنيين والعراقيين واللبنانيين بحجة أن بوصلة عداء الشعوب العربية يجب أن تكون مصوبة نحو إسرائيل وحدها، وأن أي تذكير بجرائم إيران في أربع دول عربية هو قطعًا في صالح الاحتلال!

يحار المرء كيف ومن أين يبدأ كلامه وهو يحاول تفنيد ادعاءاتهم وافتراءاتهم بحق السوريين، بعد أن ارتقوا إلى مرتبة جديدة من مراتب التنظير والأستاذية حين بدؤوا بترويج فكرة أن كل من يعادي خصوم إسرائيل هو "صهيوني".

هذه الكلمة، التي كانت في حقبة مضت لها وقعها وتأثيرها حين كانت تُستخدم وتقال في موضعها الصحيح، لكن مع بداية العدوان على غزة أفرط بعضهم في استخدامها، لا سيما أولئك الذين يلهثون خلف التفاعل السوشيال ميديوي، وبدؤوا يوزعونها يمينًا ويسارًا على كل من يختلف معهم في وجهة نظرهم. واللافت أن أكثر من تم توصيفهم بالصهينة بداية العدوان كانوا ممن يعتبرون إسرائيل دولة احتلال ويدافعون عن حق الفلسطينيين بأرضهم التاريخية. أي أنهم مع فلسطين حتى النخاع، لكن لهم وجهة نظر مختلفة، وهذا طبيعي لأن الفلسطينيين أنفسهم ينظرون لما جرى بعد السابع من تشرين الأول من العام الماضي من زوايا مختلفة. لكن ما العمل؟ وأصحاب ركوب الترندات لم يوفروا وسيلة متاحة إلا واستخدموها لفتح معارك جانبية لا داعي لها ولا طائل منها سوى خلق خصوم جدد للقضية الفلسطينية.

اللافت في الحملة الأخيرة على السوريين هو انشغال مناصري حزب الله بفرح السوريين أكثر من انشغالهم بقضايا أهم، مثل كيفية حدوث هذا الخرق الكبير للبنية الاستخبارية للحزب.

قبل يومين، نفذ جيش الاحتلال عملية نوعية وضخمة في الضاحية الجنوبية لبيروت بعد أن قام بتفجير أجهزة اتصال قديمة تسمى "البيجر"، كان يحملها الآلاف من قيادات وكوادر حزب الله. نتج عن هذه التفجيرات جرح المئات ومقتل 40 في إحصائية أولية، ويرجح أن عدد المصابين بالآلاف مع اختلاف درجة إصاباتهم. لحظة ورود الخبر مع مشاهد أولية للمصابين، والذين هم بطبيعة الحال قادة ومقاتلون في صفوف حزب الله، بدأ السوريون بإظهار فرحهم وبهجتهم لأنهم شاهدوا من ارتكب المذابح في سوريا واحتل المدن والقرى يُقتل. وشارك العراقيون واليمنيون واللبنانيون أيضًا بالتعبير عن فرحتهم بالخلاص من مجرمين كانوا يتجولون بين أربع بلدان عربية وكأن هذه الدول غير موجودة ومستباحة فقط من قبلهم هم وبقية ميليشيات الحرس الثوري الإيراني. وبدأ الجميع يذكرون العالم بجرائم إيران وحزب الله والحوثي والميليشيات العراقية، وينشرون أخبارًا وصورًا توثق تلك الجرائم، وتقول للعالم ببساطة: هؤلاء قتلة وطائفيون، وقتلهم من قبل جيش الاحتلال لا يعطيهم صك براءة من جرائمهم، وهو بطبيعة الحال لا يجعل منهم أبطالًا.

وفي أثناء ذلك، عادت فئة المنظّرين من الشريحة الثالثة للظهور وبدأت بكيل الاتهامات لكل من فرح بمقتل القتلة، واستخدمت هذه المرة مصطلحات واضحة أكثر تقول من دون مواربة إن كل من فرح هو يدعم جيش الاحتلال!

فضلًا عن سذاجة هذا الطرح، فهو أولًا غير صحيح، والأهم أنه غير أخلاقي. لأنه وببساطة، يمكن للمرء أن يكون ضد جرائم إيران وضد جرائم الاحتلال في الوقت ذاته، وأن يناصبهم العداء معًا. وأن المفاضلة بين الضحايا بناءً على هوية القاتل تشبه تمامًا المفاضلة بين القتلة بناءً على هوية الضحية، كما يفعل الغرب حرفيًا في فلسطين.

فضحايا فلسطين وشهداؤها لا قيمة لهم عند الغرب الداعم للاحتلال، وكل ما يعنيهم اليوم من هذه المذبحة المفتوحة في فلسطين هو سلامة الأسرى الموجودين لدى الفصائل الفلسطينية وسلامة المستوطنين. اللافت في الحملة الأخيرة على السوريين هو انشغال مناصري حزب الله بفرح السوريين أكثر من انشغالهم بقضايا أهم، مثل كيفية حدوث هذا الخرق الكبير للبنية الاستخبارية للحزب. خرق يرقى لأن يكون انتهاكًا واستباحة كاملة. وبدلًا من أن يلوموا السوريين على فرحهم، كان من الأجدى أن يضعوا أصابعهم على جرح الحقيقة، التي تقول إن مشاركة الحزب في قتال الشعب السوري على مدار أكثر من عشر سنوات أضعفته وأفقدته قدرة الردع في لبنان.

وأسوأ ما تفوّه به هؤلاء المنظّرون المتأستذون هو محاولة تحديد أولويات الشعوب العربية وفرض من يكون عدوهم الأوحد أو الأول عليهم. وهذه النقطة تحديدًا تحتاج إلى نقاش مطول، لكن اليوم ليس وقته، وبعد الهدنة في غزة سأعود إليها بشكل مفصل، لأن قوالب القضايا الجاهزة والأعداء الوحيدين التي يريدون فرضها بالترهيب باتت مثيرة للشفقة.