لاشك أن كأس العالم كان وما يزال البطولة الرياضية التي تستحوذ على متابعة جميع عشاق كرة القدم، حيث ينتظرون بشغف كل أربع سنوات موعد انطلاق البطولة، لكن خلال الأسابيع الماضية بدأ التخطيط لتنظيم تلك البطولة كل سنتين، وبالتالي انقسم الشارع الرياضي ما بين مؤيدٍ لتلك الفكرة ومعارضٍ لها.
برزت فكرة تنظيم كأس العالم مرة كل عامين في آذار الماضي، من قبل "أرسين فينغر" مدير التطوير في الاتحاد العالمي لكرة القدم "الفيفا"، وجاء ذلك بناءً على مقترح من الاتحاد السعودي لكرة القدم، الذي دعا لاعتماد هذه الخطة خلال عاميّ 2026-2028.
تضمن المقترح تقليص فترات التوقف الدولي إلى فترتين كحدٍ أقصى، بحيث تُلعب سبع مباريات فقط في التصفيات المؤهلة، بعضها في (تشرين الأول) والباقي في (آذار).
المقترح السعودي حظي بدعمٍ كبير من "الفيفا" التي بدأت العمل على كسب تأييدٍ له، ما تسبّب في إشعال حربٍ بين اتحادات كرة القدم حول العالم.
استطاعت "الفيفا" كسب تأييد عدة اتحادات دولية لتنظيم كأس العالم كل عامين، وأبرزها اتحادات آسيا وأفريقيا وأميركا الشمالية والوسطى والبحر الكاريبي (كونكاكاف)، في حين واجه الاقتراح معارضةً شديدة من الاتحاد الأوروبي لكرة القدم (يويفا)، واتحاد أميركا الجنوبية (كونمبول)، والاتحاد الدولي للاعبين المحترفين (فيفبرو)، ورابطة المشجعين الأوروبية.
تنظيم كأس العالم كل أربع سنوات، هو نظام قائم منذ تأسيس هذه البطولة العريقة عام 1930 في الأوروغواي،، حيث لعبت حتى الآن 21 نسخة، ما عدا بطولتي عام 1942 و1946 اللتين ألغيتا بسبب الحرب العالمية الثانية، فلماذا قررت "الفيفا" الآن تغيير هذا النظام السائد على مدار تسعين عاماً؟!.
السبب بكل بساطة هو السعي وراء المال، فلا شك أن تنظيم بطولة كأس العالم تدر أرباحاً ضخمة على "الفيفا"، والدولة التي تستضيف البطولة والاتحاد القاري التابعة له.
الاتحاد الأوروبي لكرة القدم "يويفا"، يعتقد أن مساعي رئيس "الفيفا" جياني إنفانتينو، لجعل كأس العالم كل عامين، تعود لأسبابٍ شخصية هدفها إدخال اسمه في سجل التاريخ، بأنه الرئيس الذي غيّر قواعد كرة القدم، وبالوقت نفسه إضعاف شوكة الاتحاد الأوروبي لكرة القدم، ومنح جرعة من الحياة للاتحادات الصغيرة في آسيا وأفريقيا وأميركا الشمالية، التي هي بطبيعة الأحوال تعيش تحت كنف "الفيفا".
مكاسب منتظرة
لو تكلمنا بواقعية فإن تنظيم بطولة كأس العالم مرة كل عامين بدلاً من أربعة أعوام، له العديد من الإيجابيات:
- زيادة فرص المنتخبات الأقل حظاً في المشاركة بالمونديال.
- منح المنتخبات الكبيرة فرصة أكبر في الحفاظ على لقبها كونها ستبقى مهيمنةً على اللعبة، ما يعني عدم تكرار السيناريو الذي حصل مع كثيرٍ من المنتخبات التي حصدت كأس العالم، وبعد أربع سنوات فقدت جيلها الذهبي وخرجت من الدور الأول في النسخة التالية، كفرنسا وإسبانيا وألمانيا وغيرها.
- فرصة لعشاق كرة القدم لمشاهدة كبار النجوم يتنافسون ضد بعضهم في حدث عالمي كل سنتين، بدلا من الانتظار لأربع سنوات.
- مع زيادة عدد مرات استضافة كأس العالم، ستزداد فرص قارتي أفريقيا وآسيا في احتضان المونديال القاري، ما يدرّ عليها أموالاً ضخمة، حيث إن دول أفريقيا وآسيا استضافت هذا الحدث العالمي مرة واحدة فقط لكل منهما حتى الآن، بينما استضافته أوروبا وحدها 11 مرة.
- كأس العالم يمكن أن يساعد الدول النامية، على إعطاء لاعبيها فرصة الظهور أمام الملايين كل عامين، في حال تأهل منتخباتها للمونديال، ما يساعد في التسويق للاعبين ومنحهم فرصة الاحتراف في الدوريات الأوروبية وزيادة خبرتهم.
- تنظيم كأس العالم كل سنتين، سيُعيد الأضواء للبطولات الدولية التي ستحظى بتغطية إعلامية أكبر على حساب البطولات المحلية.
- إعطاء فرصة أكبر لبعض النجوم التي فشلت في تحقيق كأس العالم لأسبابٍ مختلفة، للتعويض وحصد كأس العالم قبل الاعتزال.
سلبيات تقتل المتعة
رغم الإيجابيات التي ستتحقق في حال تنظيم كأس العالم كل عامين بدلاً من أربعة، إلا أن الموافقة على تلك الخطوة قد تتسبّب في كثير من السلبيات.
- إرهاق اللاعبين بشكلٍ كبير، نتيجة كثافة جدول المباريات التي سيلعبوها، ما يتسبّب في تعرضهم لإصاباتٍ متكررة وانخفاض مستواهم، وبالتالي تتلاشى متعة كرة القدم، مع تراجع مستوى الأندية والمنتخبات.
- تنظيم كأس العالم كل عامين، سيساهم في خسارة الاتحاد الأوروبي لكرة القدم "يويفا" ثلاثة مليارات يورو، على مدى أربع سنوات، نتيجة تغيير تقويم المباريات الدولية والدوريات والبطولات المحلية، وستكون الخسائر الأساسية مرتبطة بدخل تذاكر المباريات وإيرادات البث والرعاية.
- خسائر كبيرة تلاحق الأندية، بسبب تراجع مستواها، نتيجة إصابات اللاعبين وإرهاقهم، فالأندية مطالبة بدفع رواتب اللاعبين بموجب العقود، حتى لو لم يلعبوا أي دقيقة بسبب الإصابة.
- مشاركة اللاعبين بشكلٍ مستمر في كأس العالم، قد يؤثر سلبياً على نفسيتهم، في حال إقصاء منتخباتهم من التصفيات أو الفشل في المونديال، وهذا سينعكس على أدائهم مع أنديتهم.
- إقامة كأس العالم كل عامين، سيؤثر على حقوق البث والمعلنين، الذين سيُقسمون الميزانية ما بين دوري الأبطال والبطولات القارية من جهة، وكأس العالم من جهةٍ أخرى.
- انهيار بطولات كرة القدم للسيدات، والألعاب الأولمبية، والمنافسات المحلية، وتراجع شعبية بعض البطولات ولا سيما دوري أبطال أوروبا وبطولة اليورو.
- تنظيم كأس العالم كل سنتين، سيجعل تلك البطولة العريقة مملة وتفقد بيرقها، فأحد مميزات كأس العالم هو الانتظار وترقب هذا الحدث كل أربع سنوات.
- سيتراجع عدد متابعي كأس العالم، فهذه البطولة بدأت تفقد شعبيتها منذ زيادة عدد المنتخبات إلى 32 منتخباً، وستضعف أكثر وتقل متعتها مع زيادة عدد المنتخبات إلى 48 منتخباً في مونديال 2026، حيث ستكون هناك فرصة لمشاركة منتخبات بمستوياتٍ ضعيفة.
- لن تحصل الدول على وقتٍ كافٍ لتنظيم كأس العالم في حال أصبح كل سنتين، كما أن الأوضاع الاقتصادية المتردية التي تعيشها كثير من الدول العالم ولا سيما الدول النامية، لن تساعدها على تنظيم المونديال على أراضيها.
- إقامة المونديال كل سنتين سيعطي المجال لبعض اللاعبين لكسر أرقام تاريخية في كأس العالم، نتيجة مشاركتهم في مباريات أكثر، وهذا سيظلم الأساطير التي حققت أرقاما قياسية في وقت قليل.
تحديات تحتاج حلولاً بديلة
رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم جاني إنفانتينو، ما يزال يسعى جاهداً لتنظيم بطولة كأس العالم كل عامين، حيث سيعقد "الفيفا" قمة في الشهر المقبل، للنقاش مع باقي اتحادات كرة القدم، والحصول على موافقة لتنظيم البطولة بالشكل الجديد، وهنا يبقى السؤال هل ينجح في ذلك؟
لا أعتقد أن "الفيفا" وباقي الاتحادات التي تقف وراءها لدعم فكرة تنظيم المونديال كل سنتين ستنجح في ذلك، حيث يقف في وجه المشروع الجديد الاتحاد الأوروبي لكرة القدم إلى جانب اتحاد أميركا الجنوبية، حيث يهددان بالانسحاب من كأس العالم، في حال اعتماد تلك الخطة.
وكما نعلم الاتحاد الأوروبي وأميركا الجنوبية، يضمان كبار منتخبات العالم، ما يعني أن انسحابهما سيجعلنا نشاهد كأس العالم، من دون البرازيل والأرجنتين وفرنسا وألمانيا وأسبانيا، وغيرها من المنتخبات الكبيرة التي تضم أفضل النجوم، فأي كأس عالم سخيف سنشاهد حينذاك!!!.
رغم كل تلك التهديدات إلا أن "الفيفا" مصرّة على مشروعها الجديد، حيث صرّح رئيسها "إنفانتينو" قائلاً: "لا يمكننا صياغة المقترحات الجديدة بناءً على ردود الفعل المقبلة من أوروبا فقط، علينا احترام آراء الجميع"، في إشارة إلى أن رفض دول الاتحاد الأوروبي الأعضاء في "يويفا" البالغ عددها (55)، لن يمثل ضغطاً شديداً على "الفيفا" في طريق اتخاذ قراره بشأن كأس العالم، حيث يراعي آراء ستة اتحادات قارية، تضم 211 اتحاداً وطنياً.
إذا أرادت "الفيفا" تمرير مشروعها الجديد، فتحتاج لبعض التعديلات لتحظى على قبول الاتحادات الكروية ولا سيما أوروبا، فعلى سبيل المثال قد يكون الحل الأفضل تنظيم كأس العالم كل ثلاث سنوات، بحيث تقسّم الثلاث سنوات كالتالي: سنة تلعب كل القارات كؤوسها، وسنة من أجل الألعاب الأولمبية، وسنة لتنظيم كأس العالم.
من التعديلات التي قد تكون منطقية في حال أصرّت "الفيفا" على تنظيم كأس العالم كل سنتين، تقليل عدد الأندية في الدوريات الكبرى، كالدوري الإنكليزي الممتاز والدوري الإسباني، وإلغاء بعض البطولات الأقل أهمية، مثل كأس الرابطة الإنكليزية والدرع الخيرية ودوري الأمم الأوروبية، وهذا يُخفّف الضغط أكثر على اللاعبين.
من الواضح أن "الفيفا" يُفكر فقط في المال، ولا يهمه سلامة وراحة اللاعبين، الذين يشتكون أصلاً من كثافة جدول المباريات، فكيف سيكون الحال إذا أقيم كأس العالم كل عامين؟ متى سيحصل اللاعبون على بعض الراحة؟ كيف سيتعافون من كرة القدم المكثفة فى كل عام؟!، اللاعبون ليسوا مجرد آلات تدر الأموال، بهل هم في النهاية بشر بحاجة للراحة والاستجمام.