السخرية ليست نوعًا من التهريج لإضحاك الناس بل هي نوع من أنواع النقد للواقع، وهي إنْ أدّت إلى الضحك، إلا أنه ليس هدفها. فالإضحاك بهدف الإضحاك فقط يعدّ فكاهة، أمّا الإضحاك بهدف النقد فهو سخرية.
تاريخ السخرية
أقدم سخرية مسجّلة تعود إلى الإغريق في المسرحيات التي كانت تُقدّم في أثينا، حيث كان على المؤلفين تقديم ثلاثة أعمال ذات طابع تراجيدي (مأساة) وواحد كوميدي (ملهاة)، وكان على الممثلين انفسهم أداء المسرحيات الأربعة!
أما في التراث العربي فإنّ السخرية بدأت في العصر الجاهلي عبر قصائد الهجاء، واقتصرت بالإضافة إلى ذلك على السخرية العفوية أو تجميعات الأخبار ككتاب "الأكَلة" لـ المدائني، و"أخبار اللصوص" لـ أبي عبيدة. حتى جاء الجاحظ (775-868 م) الذي يُعدّ أوّل من ألّف كتبًا كاملة في السخرية، عدا اتّباعه أسلوب السخرية والفكاهة في كلّ مؤلفاته حيث يقول في كتاب النساء: "ولا بأس بأنْ يكون الكتاب موشّحًا ببعض الهزل، وإذا كثُر هزله سخف، كما أنّه إذا كثُر جدّه ثقل".
ثمّ تتالت الأعمال الساخرة بشكلٍ خجول فهي معدودة بأصابع اليدين بالرغم من النتاج الثقافي الهائل آنذاك، ونذكر "أخبار الحمقى والمغفّلين" لـ ابن الجوزي، ومقامات بديع الزمان الهمذاني ولو أنها لونٌ أدبي مميّز ومستقلّ إلا أنّها جمعت من الفكاهة ما يكفي لتصنيفها ضمن الأعمال الساخرة.
أمّا بالنسبة لرسوم الكاريكاتير الوجه الأبرز للفنون الساخرة فقد ظهرت خلال القرن السادس عشر في أوروبا وكانت موجّهةً في الغالب لنقد المذاهب الدينية أثناء حقبة الإصلاح الديني في أوروبا.
في العصر الحديث تنوّعت أساليب السخرية كثيرًا، فأصبح لدينا أعمال ساخرة من جميع الصنوف: المسرحيات، والمسلسلات، والأفلام، والرسوم، والمجلات، والجرائد، والمواقع الإلكترونية، وصفحات على مختلف المنصات الاجتماعية، والكتب الساخرة، والروايات، والقصص القصيرة، والعروض الارتجالية (ستاند آب كوميدي)، والبرامج الكوميدية على التلفزيون أو يوتيوب، والبودكاست والراديو.
هذا التنوّع الهائل لموادّ وموارد ومنصّات عرض السخرية اليوم، جعل الخوض فيها كالخوض في حقل ألغام، لذا سنستعرض قائمة تقتصر على أهم قواعد السخرية للقرن الحادي والعشرين.
قواعد السخرية الـ 14
- لا تسخر من الضعفاء: هذه القاعدة وضعناها في رأس القائمة لأنّها تكاد تكون الأهمّ في عالم السخرية، فالسخرية من الضعيف هي بالضبط ما نسمّيه "التنمّر"، لذا تجنّبًا للوقوع في فخ التنمّر علينا توجيه السخرية باتّجاه الأقوياء فقط.
- السخرية لا تهدف إلى إثارة الجدل، لكن يصدُف دومًا أنّ يحضر الجدل مع السخرية في المكان نفسه، فالموضوعات الجدلية هي مواد دسمة للسخرية وليس العكس.
- السخرية ليست أداة للإهانة، ولكن الشعور بالإهانة سيكون حاضرًا دومًا لدى الفئة المقصودة بالسخرية والفئات المقربة منها.
- النوايا الحسنة لا تجنّب الساخر الوقوع في المشكلات، فلذلك تقع على الساخر مسؤولية اختيار الكلمات والعبارات والأسلوب المناسب للجمهور بهدف إيصال فكرته بالشكل الأمثل.
- لا سخرية من الصفات الخَلقية أو أي صفة لم يختَرها الإنسان بنفسه مثل لون بشرته أو جنسيته أو طوله أو شكل أنفه أو جنسه... إلخ.
- السخرية من الأفكار وليست من الأشخاص الذين يحملونها. مثلًا السخرية من تناول اللبن مع المربّى مقبولة كأن نقول مطربان مربّى يتصل بالإسعاف بسبب حموضة اللبن الذي اختلط معه، لكن السخرية من الطفل الذي يفعل ذلك أو وصفه بالطفل اللبني مثلًا غير مقبول.
- وُجِدت السخرية بوصفها أداة للنقد، وازدهرت وتطوّرت وعاشت على الظواهر السلبية التي تحتاج النقد، فهدفها الرئيس النقد وليس التهريج.
- ليس من مهام الساخر تقديم الحلول، في الأصل هذا الوصف ينطبق على الناقد، وينسحب بالضرورة على الساخر كونه ينفّذ مهمّة الناقد بطريقته.
- تجنّب الوقوع في فخّ الخبر الكاذب، فبعض المواد الساخرة قد تؤخذ على محمل الجدّ بسبب طريقة طرحها التي تشبه الموادّ الحقيقية، كما أنّ بعض المتلقّين يعدّون ما يُسخَر منه حقيقيًا بالضرورة. مثال ذلك إذا نشر أحدهم رسمًا كاريكاتوريًا يسخر من الغلاء فلن يظنّ أحد أنّه يسخر من الغلاء الذي حصل في السنة الماضية أو الذي سيحصل في السنة المقبلة بل سيعتقد من يرى الرسم بأنّ هناك موجة غلاء في الوقت الحالي بالفعل، وهذا يُعدّ خبرًا كاذبًا بطريقةٍ غير مباشرة.
- الشتائم والبذاءة لا تضفي على السخرية حسًا كوميديًا ولا تقوّي موقف الساخر بل ستبقى شتيمة وستخفض من مستوى المادّة وتحوّلها من مادّة ساخرة إلى مادة إباحية أو مادّة غير أخلاقية.
- تجنّب السخرية غير المفهومة، أو التي تُفهم على نطاق ضيّق، كالمصطلحات والتسميات المضحكة التي تعارفت عليها مع أصدقائك، فهي أمور محلّيّة لن يفهمها أحد خارج نطاق "الشلة".
- تجنّب شرح المادة الساخرة أو النكتة التي أطلقتها، إذا اضطررت للشرح فقد وقعت في أحد أمرين إما أنّ مادّتك معقدة وتحتاج للشرح، أو إنّ الجمهور خاطئ. وفي كلتا الحالتين ستكون المادة الساخرة ضعيفة وربما تفقد مضمونها الساخر أصلاً. وهذه القاعدة ترتبط نوعًا ما بالقاعدة رقم 4.
- اختر جمهورًا مناسبًا، أو اختر مادّة تناسب جمهورك، فلا فائدة من السخرية من تعقيد نموذج استرجاع كلمة السر للبريد الإلكتروني أمام جمهور لا يمتلك أصلًا أجهزة متصلة بالإنترنت.
- تجنّب العشوائية والخلط غير المبرّر وغير المنطقي، فنحن اليوم في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين ولم تعد عبارة "يوم الثلاثاء بعد صلاة الجمعة" مضحكة، رغم أنّ هذه القاعدة تندرج ضمن القواعد الفنية إلا أننا اعتبرناها ضمن القواعد الأخلاقية لما تسبّبه من أذى معنوي للمتلقّي.
نماذج من مخالفة إحدى قواعد السخرية
قبل أقلّ من شهر شهدنا حادثتين ستُذكران طويلًا كأمثلة، الأولى حادثة صفعة الأوسكار والثانية كاريكاتير علي فرزات ضد سيدة عضو في الائتلاف.
أولًا سخرية كريس روك من زوجة ويل سميث التي فقدت شعرها بسبب مرضٍ ما، خالف فيها القاعدة الخامسة لأنّ المرض ليس من الأشياء الاختيارية.
ثانيًا كاريكاتير علي فرزات الذي استخدم فيه امرأة بدينة عارية، فيها مخالفة للقواعد الأولى والخامسة والعاشرة، حيث تنمّر على المرأة وهي ما تزال الطرف الأضعف، وتنمّر عليها باعتبارها امرأة أي على أساس الجنس، وتنمّر عليها باستخدام صفة البدانة كمادة للسخرية، واستخدم الإباحية في غير موضعها.
واقعنا الساخر
في بعض الأحيان يُضطر الساخر إلى إبراز توضيح يبيّن فيه أنّه يقدّم مادّة ساخرة كي لا يُساء فهمه، وهذا الأمر مفهوم ومنطقي، لكن يشهد العالم حاليًا أحداثًا تفوّقت في سخريتها على أشدّ المواد الساخرة فكاهةً وغرابة، لذا نجد فقرةً في البرنامج الساخر "السليط الإخباري" بعنوان "أخبار دقيقة في دقيقة" تخلط في بعض الأحيان أخبارًا ساخرة من وحي خيال المؤلّف بأخبارٍ حقيقيّة ولا نستطيع التمييز بينهما حتى نسمع نيكولاس وهو يخبرنا بذلك.
وعلى المنوال نفسه نجد شبكة الحدود المتخصّصة في الكتابة الساخرة تنشر فقرة بعنوان "ليتها الحدود" تتضمّن أخبارًا حقيقيّة لكنها غريبة وكوميدية لدرجة يتمنّى فيها محرّرو الحدود لو أنّهم هم من ألّفها. بناءً على هذا أصبحت عبارة "هذا الخبر حقيقي" اعتيادية في ترويسة الكثير من الأخبار.
مصادر: