بهدوء.."وقد عدنا إلى البيت فرحين مسرورين"، هذا ما كان تلامذة المدارس يختِمون موضوعهم الإنشائي والواجب في مادة اللغة العربية، والذي يطلب فيه المعلم وصفَ رحلة الصف والرفاق والأصدقاء في أحضان الطبيعة. وهذا ما أظهرته "قمة جدة"، بعدما حملت تناقضات كبيرة، فهي إن دلَّت على شيء فإنها تتعلَّق بتكبير الحجم والدور الاستراتيجي وتوسُّعه إقليمياً، لكن من دون مفاعيل أو ترجمة واقعية تتعلَّق بقضايا الشعوب وحريتها وكرامتها المهدورة، ومنها وضع الشعب السوري اللاجىء في شتى أصقاع الأرض.
ليس هناك من لا يرغب بقيام دور عربي فاعل وله ثقل إقليمي ودولي تلعبه الجامعة العربية، بعد أن تحوَّلت الدول وتحوَّل النظام الدولي عنه، وسئم من تعقُّد الصراع في الشرق الأوسط، بحيث دخلت الدول الكبرى المهندسة لسياسات العلاقات الدولية، هي نفسها في صراع وإثبات حضور على أكثر من جبهة جيوسياسية، لكن بعد انفضاض عقد القمة العربية في جدة، طوى الإعلام العربي والدولي تغطيته وانبرى لقضايا وأحداث أخرى تدور، وبقي النظام العربي ومأساة الشعوب على حالها بانتظار الــ"خطوة بخطوة".
وهذا يُعرف من خلال اللازمة المتكررة في "إعلان جدة" والذي أكد أهمية تكثيف الجهود للتوصل لتسوية عادلة للقضية الفلسطينية، والتأكيد على مركزية القضية الفلسطينية عربياً وعلى المبادرة العربية سبيلاً لحلها. وعلى ضرورة وقف التدخلات الخارجية في الشؤون الداخلية للدول العربية، واحترام قيم وثقافات الآخرين، واحترام سيادة واستقلال الدول وسلامة أراضيها، مؤكداً رفض دعم تشكيل الجماعات والميليشيات المسلحة الخارجة عن نطاق مؤسسات الدولة.
إنها مقدمات لتسويات فضفاضة تخدِم مصالح الدول وبناء استراتيجياتها المستقبلية فقط، ولا علاقة له بحرية الشعوب واحترام وحفظ كراماتها. فتلك هي معاناة السوريين شعباً وقادة نُخب معارضة، رفضت الانصياع والتسليم بحكم استبدادي، في دولة يتجذَّر فيها التسلط عميقاً، محمولاً بالمال والسلاح والأمن والقضاء، ومصادرة الرأي والتمييز الفئوي بين أبناء الشعب الشعب الواحد.
فمعنى أن تكون معارضاً سورياً، فهذا يعني:
أنك اخترت نهايتك الحتمية مع عائلتك وأهلك ومحبيك.
وأنك ستواجه المصير المحتوم وحدك.
وأنك ستقف ضدَّ كلِ العالم في الشرق وفي الغرب.
وأنك كنت وستكون وستبقى نازحاً أو لاجئاً أو مشرَّداً أو مقتولاً على عتبات الطرقات كعداد لضحايا العنف والعنصرية.
ويعني أنك ستكون مادة دسمة للابتزاز في أي انتخابات مستقبلية تجري في لبنان أو تركيا أو الغرب الأوروبي مع تطور نزعته القومية الشوفينية.
أن تكون معارضاً سورياً، يعني أنك ستحمل أوزار وأخطاء وقذارات بعض حكام العرب، وهلوساتهم وأزماتهم الشخصية والمعنوية.
وبأنك مسؤولٌ عن أزمات الِّليرة وسقوطها، وهيمنة الدولار العالمي، وصعود اليوان الصيني، ومعه الانهيارات المالية والجوع الذي أحدثته حروب الدول الكبرى.
معنى أن تكون معارضاً سورياً، يعني أن لا مكان لك فوق هذه الأرض تحطُّ فيه رِحالك، حتى لو أردت نبْذَ السياسة والاستغناء عن المشاركة أو التغيير في الحكم وأنماط السلطة.
وأنك كمعارض سوري، يجب أن تكون أذنيك دوماً على خطِّ الهاتف للاستماع إلى دوائر الأمن العام في بلدان اللُّجوء من أجل الترحيل القسري إلى الخارج، من دون علم من هو الخارج.. هل إلى سوريا "قلب العروبة النابض"..؟ أم السودان، أم مصر..؟ لكن لا تحلم باللجوء إلى الغرب.. فأدوات تشغيل الرأسمال وعمالته فيه التي شاخت قد ملأتها عناصر عربية أفريقية، عانت وكابدت تسلُّط السلطة..
معنى أن تكون معارضاً سورياً واحداً أحداً، فهذا يساوي في قُدرة التحمُّل والجرأة والصلابة، ما يماثل ألف معارض للسلطة: في لبنان أو تركيا أو مصر أو تونس أو غيرها.. فالمعارض السوري يعني أنه اختار الحتمية التاريخية للهلاك في ظلِ أنظمة القبو والخطف وأسماء الموقوفين المتَّهمين بأقلام الحبر الرصاصي التي تُمحى في أي لحظة..
إنَّها مأساة شعب عربي سوري، ومأساة شعوب عربية حَكَمَها منطق الإنتاج الاقتصادي الفلاحي في موروث لتناسل الاستبداد واستمراريته الأبدية.. في الدين والتسلُّط والقومية والعرق، وهنا الخطأ القاتل في السماح بحكم الأقليات الدينية والمذهبية، تحت ستار "العَلْمنة" المزيَّفة، والتي تتساوى فيها حقوق المواطنين ككل في بوتقة المجتمع، في حين أن هذه الأقليات وفي سبيل الحفاظ على مكوناتها الوجودية بالعقل الجمعي لها، لن تتخذ ولم تتخذْ إلاَّ العنف سبيلاً للحفاظ على امتيازاتها في الحكم والسلطة، فسترفض حتماً أي تغيير أو مشاركة حتى، كي لا تذوب في المجتمعات الكبرى المحيطة بها.. وهنا نتحدث عن نظرية سياسية علمية متكاملة أرساها ميكيافيللي حتى لا تنهار إمارته وحكمه في يوم من الأيام.