كان الفيديو الذي التقطته كاميرات المراقبة مرعباً، إذ على الرغم من أنه لم يكن واضحاً ولم يظهر فيه كل شيء، التقط تحركات جرت تحت جنح الظلام لشخص تسلل إلى مخزن الذخيرة التابع لنقطة عسكرية أميركية تقع في أقاصي سوريا. وبعد ساعة من تسلله، وقع انفجاران تسببا بجرح أربعة جنود أميركيين واشتعال نيران بقيت تحرق ما حولها حتى طلوع النهار.
تسبب التحقيق العسكري الذي فتح بالحادثة في نيسان عام 2022 باعتقال الرقيب في الفرقة التقنية ديفيد دبليو ديزوان، وهو خبير بالمتفجرات لدى سلاح الجو الأميركي تبين أنه كان بمفرده في الموقع الذي حدث فيه الانفجار الثاني. بعد ذلك زعم الادعاء العسكري بأن هذا الرقيب يتمتع بالمهارات اللازمة ووصل إلى المعدات اللازمة للقيام بهذا الهجوم الغادر من داخل المقر.
خيانة فبراءة
في مطلع هذا العام وجهت للرقيب تهمة غير عادية، ألا وهي الخيانة، وذلك أمام المحكمة العسكرية التي أبرأته بعد محاكمة استمرت لثمانية أيام في ولاية أوتا الأميركية، حيث وصفته جهة الادعاء بالمخرب الذي يعتقد بأن أمله قد خاب بعدما أرسل إلى نقطة عسكرية عامله فيها زملاؤه من الجنود معاملة الغريب. كما ذكر محامي ديزوان بأن القضية مليئة بالثغرات، فوافقه أحد أعضاء هيئة المحلفين في نهاية المطاف.
يكشف ملف التحقيق في القضية الذي تمكنت صحيفة واشنطن بوست من الحصول عليه بموجب قانون حرية المعلومات بأن محاميي ديزوان انتقدا قلة الأدلة الجنائية الموثوقة مع عدم إثبات وجود دافع لدى المتهم ليقوم بالتفجيرين. كما كشف الملف وجود الكثير من المخاوف الأمنية في المقر الذي يتقاسمه الجنود الأميركيون مع شركائهم السوريين، وهذا ما أثار الشكوك بين أعضاء هيئة المحلفين، ولم تحدد هوية الشخص الذي تسلل على الرغم من وجود كاميرات وأقفال ومراكز للحرس.
ثغرات أمنية في نقطة عسكرية أميركية
مايزال ديزوان يعمل فنياً في مجال التخلص من المتفجرات في الجيش، لكنه رفض طلب صحيفة واشنطن بوست لإجراء مقابلة معه، أما محامياه وهما نيثين فريبيرغ وفيليب كيف فأكدا على وجود مصادر للقلق شاطرهما بها بعض الشهود عن وجود ثغرات أمنية في النقطة العسكرية الأميركية.
إذ يخبرنا المحامي كيف بأنه من السهل على مقاتلي قسد الوصول إلى الجانب الأميركي من المعسكر الذي يعرف باسم القرية الخضراء، وأضاف: "وبالسهولة ذاتها يمكن لأي فرد من قسد أو حتى لأي شخص تسلل إلى قسد أو اندس بين صفوفها أن يصل إلى هناك"، وتحدث هنا عن سجل حافل بالحوادث التي جرت في أفغانستان والتي بقيت نادرة الحدوث في سوريا، وقال: "وعندما فتح تحقيق بالحادثة لم يسمح لأي شخص بمقابلة أي شخص من قسد، وفي ذلك ثغرة كبيرة".
المهاجم من الطرف الأميركي
وصف فرهاد شامي الناطق الرسمي باسم قسد هذه النظرية بأنها غير صحيحة البتة، وذكر بأنه لا يسمح لجنودهم على الإطلاق بالوصول إلى منطقة الذخيرة حيث وقع الانفجاران ثم إن مجال الرؤية الذي ظهر في الفيديو الذي صورته كاميرات المراقبة يشير إلى قدوم المهاجم من الجانب الأميركي، وأضاف: "صحيح أن هنالك تنسيقاً عالياً وتعاوناً بناء بيننا وبين قوات التحالف في القرية الخضراء، إلا أن هنالك خصوصية وضوابط أمنية نلتزم بها نحن وقوات التحالف".
في حين تحدثت الناطقة الرسمية باسم سلاح الجو الأميركي، روز إم. ريلي عن التحقيق الذي أجراه قسم حفظ القانون لدى القوات المسلحة وسلاح الجو، ووصفته بأنه لم يقدم أي تطور في المعلومات يشير إلى مسؤولية أحد مقاتلي قسد عن التفجيرين.
في حين رفضت القيادة الوسطى الأميركية التي تشرف على العمليات العسكرية في الشرق الأوسط التعليق على المزاعم المتعلقة بوجود ثغرات أمنية وتذرعت بأن الأمر يتصل بأمن عملياتها.
القرية الخضراء
يذكر أن نحو 900 جندي أميركي معظمهم من وحدات العمليات الخاصة قد تم نشرهم في المنطقة الشرقية بسوريا لدعم قوات قسد لمنع تنظيم الدولة من الظهور مجدداً. أما القرية الخضراء التي تقع ضمن محافظة دير الزور الغنية بالنفط والقريبة من الحدود العراقية، فقد تحولت إلى عنصر جذب لمضايقات من الميليشيات المدعومة إيرانياً وحلفائها لدى النظام السوري بما أنهم جميعاً متحمسون لفكرة طرد القوات الأميركية من سوريا.
كثيراً ما تضرب الصواريخ والمسيرات القرية الخضراء وغيرها من النقاط العسكرية الأميركية الموجودة في سوريا، إذ خلال شهر آذار الماضي، وقعت حادثة عنف بين القوات الأميركية ومقاتلين يعتقد بأنهم وكلاء لإيران، وهذا ما دفع الرئيس الأميركي بايدن لتهديد طهران بعواقب وخيمة في حال وقوع أي حادثة عنيفة تستهدف القوات الأميركية في سوريا.
"هذا لا يشبهني في شيء"
وقع الانفجار الأول في مستودع الذخيرة ضمن القرية الخضراء عند الساعة الواحدة بعد منتصف الليل ما أدى لتدمير متفجرات وصواريخ وقنابل يدوية تم الاستيلاء عليها من الأعداء، ما خلف دماراً وأشعل ألسنة لهب ارتفعت مسافة 305 أمتار في السماء. وبعد مرور دقيقة على التفجير الأول، حدث تفجير آخر أضعف منه أصاب مقطورة تحتوي على حمامات، وتسبب بجرح ديزوان أثناء اقترابه من تلك البقعة ليغسل جسمه في ساعة متأخرة من تلك الليلة، لكن إلى جانب أدوات الحمام والملابس الداخلية التي حملها معه، كانت بحوزته سكين وولاعة تعمل بغاز البوتان بحسب ما ورد في ملخص اللقاء الذي أجري معه.
خلص التحليل إلى وجود عبوات ناسفة وضعت على كلا جانبي كل موقع من المواقع التي أصيبت، وكل عبوة منها ربطت بمؤقت بسيط، مثل صمامات البارود، وأشعلت بوساطة ولاعة يدوية حسبما رجح الخبراء. وقد وافق ديزوان على تفتيش هاتفه كما ذكر المحققون، وفيه عثر على تطبيق لساعة إيقاف بقي يعمل إلى أن وقع الانفجاران. في حين كشفت الفحوص المخبرية التي أجريت حول الحمام عن وجود آثار لمادتي RDX و PETN وهما مركبان يستخدمان بكثرة في العبوات المتفجرة البلاستيكية.
كما كان ديزوان الأميركي الوحيد الذي فقد بعد الانفجارين، ثم عثر عليه وهو يزحف بين الحمامات وهو يرتدي سروالاً قصيراً وقميصاً خفيفاً وقد أصيب بجراح طفيفة، إلا أن التفجير أصابه بالذهول على ما يبدو بحسب ما ذكره الشهود أمام المحققين.
أكد الطبيب الذي فحص ديزوان بأن جروحه ليست تلك الجروح التي تسببها الانفجارات، وهذا ما دفع الادعاء للقول إنه هو من جرح نفسه باستخدام سكين متفحمة عثر عليها في موقع الحادث، على الرغم من عدم تمكنهم من الحصول على حمضه النووي من ذلك المكان. في حين ذكر محاميا ديزوان بأنه جُرح أثناء زحفه بين الأنقاض، كما كشف التصوير بالرنين المغناطيسي بأنه تعرض لأذية دماغية طفيفة بسبب الصدمة.
تعرض الجنود الأميركيون الأربعة الذين أصيبوا في حادثة الانفجار لجروح في الرأس، وعند صعودهم إلى مروحية بهدف نقلهم إلى بغداد حيث ستقدم لهم الرعاية الطبية، سخر خبير متفجرات آخر يعمل في القرية الخضراء من ديزوان وقال عنه مازحاً بإنه هو الجاني بحسب ما ذكره الشهود للمحققين. واستشهاداً بتلك الكوميديا السوداء، أوضح هذا الخبير فيما بعد بأنه لم يكن يعتقد بأن ديزوان يمكن أن يفجر نفسه أو غيره.
في حين ذكر خبراء متفجرات آخرون التقى بهم المحققون بأن ديزوان شعر بحماسة غامرة عندما نقل إلى سوريا، على الرغم من أن فريقه لم يكن مشغولاً كثيراً بعمله، وشكك بعض الجنود بديزوان عندما ذكروا للمحققين بأنه كان غريب الأطوار، وتحدث عدد منهم عن مماحكات بسيطة وقعت لهم معه، مثل الاختلاف على مكان الجلوس أثناء تناول الطعام، وشجار بسبب صور التقطها لمقر تقيم فيه فرقة أخرى. وذكر أحد الشهود بأن ديزوان بدا عليه الانزعاج عند تلقيه لنبأ فرزه خارج بلده يوم عيد ميلاده، وخلال المحاكمة، ذكر الادعاء بأنه سعى للعودة إلى بلده في وقت مبكر.
وعندما سأل المحققون ديزوان عن الاختلافات التي وردت في طريقة سرده للأحداث، والتي شملت تعليقات متناقضة له حول وجوده في داخل قاطرة الحمامات لا خارجها عند وقوع التفجير، ذكر بأن ذاكرته لم تسعفه بسبب الأذية الدماغية التي تعرض لها.
وعن آخر شيء ذكر ديزوان أنه تذكره هو كتابة وثيقة رسمية في وقت متأخر، وقد وصف بقية الجنود ذلك العمل بأنه أمر عادي بحسب ما كشفه التحقيق، إلا أنه أصر على أنه لم يكن الشخص الذي زرع القنابل وذلك عندما قال للمحققين: "أعرف نفسي جيداً، وهذا العمل لا يشبهني في شيء".
من الجاني إذن؟
في الوقت الذي عملت فيه القوات الأميركية وشريكتها قسد عن قرب طوال سنوات بهدف تفكيك دولة الخلافة التي أقامها تنظيم الدولة، وثقت التحقيقات وجود بعض التوتر والتشكيك والإحباط بسبب وجود ثغرات أمنية.
إذ مثلاً قبل أسابيع من وقوع التفجيرين في القرية الخضراء، شوهد أحد عناصر قسد الممنوعين من زيارة المقر وهو يزور مقر الارتباط التابع لقسد بعد دخوله إليه بطريقة ما، وذلك بحسب ما ذكره شهود للمحققين، من دون أن يتضح سبب منع هذا الرجل من زيارة المقر، وقد خضعت هذه الجزئية من ملف القضية للتعديل والتنقيح.
وفي حادثة أخرى، ورد في التقرير بأن طواقم من قسد دخلت بمركباتها إلى النقطة العسكرية الأميركية حاملة معها قنبلة موقوتة على وشك الانفجار كانت قد زرعت على قارعة الطريق، ولم يتوقع الأميركيون أن يقوم مقاتلو قسد بتسليمها لهم، ولهذا أدهشتهم قدرة قسد على تسليم القنبلة لهم مباشرة دون أن يقوموا بإيقافها بحسب ما كتبه أحد المحققين، وأضاف: "تعين عليهم بعدئذ إخلاء المنطقة وتفكيك العبوة".
كما ذكر جنديان من القوات الخاصة للمحققين بأن لديهما شكوكاً حول قيام متعاقد سوري أو أحد عناصر قسد بوضع تلك العبوات الناسفة مقابل مبلغ قدمه له تنظيم الدولة أو أي ميليشيا مدعومة إيرانياً أو روسيا أو النظام السوري.
في الوقت الذي توصف فيه العلاقة بين الولايات المتحدة وقسد بالإيجابية إلى حد كبير، ذكر شهود للمحققين بأنهم يشكون بقيام شركائهم من قسد بسرقة معدات وعتاد من عندهم أيضاً.
وقعت أيضاً مماحكة قبل أسابيع من حدوث الانفجارين، وذلك بعدما استخدم شخص تم إخفاء اسمه وجنسيته عبارة "إن شاء الله" بالعربية ليوجه بها إهانة لبعض عناصر قسد بحسب ما كتبه أحد المحققين، وهذا التعليق الوقح أدى إلى وقوع نزاع أكبر، وتسبب بإخراج شخص تم إخفاء اسمه وجنسيته من القرية الخضراء لأسباب أمنية وفقاً لما أضافه المحقق.
يخبرنا المحلل فلاديمير فان ويلجنبرغ المقيم بكردستان العراق بأن الهجمات التي استهدفت فيها قوات قسد الكردية الأميركيين نادرة جداً، وهو لم يسمع سوى حادثة واحدة أطلق فيها مقاتل من قسد النار على جندي أميركي في عام 2018 لأسباب مجهولة بحسب ما أورده المسؤولون الأميركيون، وأضاف هذا المحلل الصحفي: "الوضع هنا لا يشبه ما يحدث في أفغانستان حيث تنفذ الشرطة المحلية هجمات ضد الجنود الأميركيين، وذلك لأن قسد بحاجة للولايات المتحدة حتى تبقى في شمال شرقي سوريا، وإلا فإنها ستتعرض لهجمات من قبل النظام السوري أو تركيا".
حذرت تقارير استخبارية غربية استشهد التحقيق بها من أنه في الوقت الذي يمكن للخصوم المحليين امتلاك القدرة على تنفيذ هجوم مثل الذي نفذ في القرية الخضراء، لم يعلن أحد عن مسؤوليته بخصوص هذا الحادث، وهذا شيء غير معهود بحسب رأي المسؤولين.
ذكر أحد الجنود من القوات الخاصة الأميركية للمحققين بأنه أحس وكأن المسؤولين في مجال الاستخبارات في أميركا يسعون لتوجيه مسار التحقيق بعيداً عن قسد وأشار بأنهم بحثوا في مصادر تلك التقارير، في حين رفض الناطقان الرسميان باسم وكالة التحقيق لدى الجيش الأميركي وسلاح الجو فيه تأكيد ذلك أو نفيه.
من المحتم بالنسبة لشبح خصوم الولايات المتحدة من المتعاونين الأجانب أو المقاتلين لدى الميليشيات أن يثيروا الشكوك بين صفوف هيئة المحلفين العسكرية في الولايات المتحدة الأميركية بحسب رأي المدعي السابق لدى الجيش فرانكلين دي. روزينبلات الذي كان أستاذاً للقانون بكلية الحقوق بجامعة مسيسيبي، والذي قال: "سواء أكانت لهذه المخاوف أساس أم لا، لعل ذلك أول ما خطر ببالهم (أي هيئة المحلفين) عندما حددوا من الجاني".
المصدر: Washington Post