لم تعد القضايا "الكبرى" المتعلقة بسوريا وبالسوريين من اختصاص الحكومة السورية، بل أصبحت من اختصاص دول أخرى، وأصبح عادياً عند كل السوريين بكل تصنيفاتهم، بما فيهم "رئيس" الجمهورية، وأعضاء الحكومة، وأعضاء البرلمان، وصولاً إلى أي فرد سوري أن ينتظر ماذا سيفعل الآخرون بسوريا، وكيف سيقررون مصيرها.
لم تعد القضايا الكبرى تعني كما كانت تعني قبل سنوات، فعندما قررت عائلة الأسد بوصفها هي النظام السوري، وبعد انهيار هذا النظام، وعجزه عن مواجهة السوريين الذين ثاروا ضده، أن قضاياها الكبرى تتلخص بحماية الكرسي أولاً، فاستدعت الميليشيات والجيوش الخارجية لمحاربة الشعب السوري، وبحماية النظام من قرارات دولية بحقه ثانياً، ففوضت الروس بإدارة ملف سياسته الخارجية، على أن تبقى إدارة البلد للحكومة السورية. اليوم تمدد هذا التفويض، وأصبح تصنيف القضايا الكبرى يبتلع كل شيء، الاقتصاد والتعليم والصحة، وصولاً إلى لقمة الخبز، وحتى طرق التعذيب في أقبية السجون.
ما تبقى لهذه الحكومة، هو فقط أن تؤمّن بقاء هذه العائلة حتى يقرر الآخرون مصير سوريا، وأن تزيد من احتمالات إبقاء سوريا تحت حكم هذه العائلة
وأنت تتابع تفاصيل العيش في سوريا، وحال السوريين اليوم، والقرارات التي تتخذها الحكومة السورية، ستدرك فوراً أن هذه الحكومة لم تعد قادرة على القيام بأي مهمة من المهام التي تقوم بها الحكومات عادة، حتى في الدول المتخلفة جداً، فسوريا هي الدولة الأسوأ في العالم للعيش، وهي الأسوأ من حيث الأمان، والأسوأ تعليمياً، والأسوأ صحياً، وهي الدولة الأكثر فساداً في العالم، والأكثر فقراً، والأقل دخلاً، حتى إن معظم الدراسات والأبحاث التي تتناول قراءة مؤشرات الدول، توقفت عن إدراج سوريا ضمن مجالات بحثها.
إذاً ما الذي تبقى لهذه الحكومة لكي تفعله؟
ما تبقى لهذه الحكومة، هو فقط أن تؤمّن بقاء هذه العائلة حتى يقرر الآخرون مصير سوريا، وأن تزيد من احتمالات إبقاء سوريا تحت حكم هذه العائلة، وأن تساعدها على استمرار نهبها للشعب السوري، وأن تشرعن ما تنهبه الجهات الخارجية من ثروات سوريا، وأملاك مواطنيها مقابل خدمات هذه الجهات للعائلة /النظام.
هل سمعتم ببدل الخدمة الاحتياطية، أي عقل هذا الذي يرى في المواطن مجرد مصدر لتحصيل الضريبة، بلا أي خدمات مقابلة، ضريبة للحاكم وليست للدولة، وهل سمعتم بحكومة تعجز عن معرفة أي شيء، أو التدخل بأي تفصيل من تفاصيل إنتاج المخدرات في المنطقة التي تسيطر عليها؟!
الأخطر من كل هذا، هو السعي الحثيث من قبل الحكومة والنظام/العائلة، ومن يتبع لهم من أجهزة أمنية، لسحق آخر قدرة لدى السوريين على الفعل، أو الاحتجاج، بعبارة أخرى سحق روح السوريين، ورهن أملاكهم ومستقبلهم، لصالح المافيا التي تحكم سوريا وشركاءها، وزج الشباب السوري في معارك لا تنتهي، ليس لخدمة العائلة فقط، بل لخدمة الدول الحليفة الأخرى في حروبها.
في رسالة من شاب سوري اسمه "جبران" وصلتني، عبر "الواتس أب"، يخبرني فيها كيف اضطر إلى الالتحاق بخدمة العلم، وماذا حدث معه في الأشهر الأولى، سأنقل بعضها، بعد أن تدخلت في صياغة ما أرسله حماية له، يقول جبران:
(حاولت كل ما أستطيع أن لا ألتحق بخدمة العلم، لست مقتنعاً بهذه الحرب، وهي ليست حربي، وأعرف أنها ليست لمصلحة وطني، لكنني فشلت، حاولت الخروج من سوريا، وفشلت، كنتُ أتعمّد الرسوب في جامعتي كي أحصل على وثيقة تؤجل موعد التحاقي بالجيش، وكنت أقول لنفسي ستتوقف الحرب قبل أن أنهي جامعتي، وعندها لن يكون هناك مشكلة، لكن الحرب لم تتوقف، ودراستي الجامعية طالت، واستنفدت كل سنوات الرسوب، ولم يعد أمامي أي حل آخر، فإمّا أن أذهب بنفسي، أو يأخذوني عنوة، فقررت أن أذهب بنفسي.
يومها كان أمامي عدة خيارات، لكن أية خيارات، كانت خيارات بين قهر وآخر، بين عبودية وأخرى، أحسست كما لو أنني مجرد ضحية تختار قاتلها، وكان الفرق بين قاتل وآخر هو السعر فقط، كان علي أن أختار بين أن أقاتل تحت راية الإيراني بسعر، أو تحت راية الروسي بسعر، أو تحت راية السوري بسعر، ورغم أن أبخس الأسعار كان القتال تحت راية السوري إلا أنني اخترته، قلت وأنا أغصّ بقهري طالما أنني سأقاتل فليكن تحت اسم العلم السوري، ألست ذاهبا لخدمة العلم كما يدعون؟!
في القطعة العسكرية التي التحقت بها، وبعد عدة أيام استدعونا لتنفيذ مهمة، يومها فوجئت بأن من يعطي توجيهاته وأوامره هو شخص إيراني، لم يكن يرتدي لباساً عسكرياً، لكن كان من الواضح أنه عسكري، كنت وأنا أستمع إليه أشعر كما لو أنني عار، وكما لو أن الذل ينسكب كشلال على جسدي، كنت أنكمش وأنكمش، وعندما أنهى حديثه بجملة حاسمة: استعدوا للتنفيذ فوراً، كنت أغلي، ولم أعد قادراً على الاحتمال، فقلت له وهو يستعد للمغادرة: من يعطي الأوامر هنا هو القائد السوري، ونظرت إلى العقيد السوري الذي يقف صامتاً إلى جواره، لحظتها عرفت ورأيت بكل وضوح كيف تنكسر الروح، التقت عيناي بعيني الضابط السوري الصامت، كنا مجرد سوريين عاجزين ومقهورين.
سجنت لشهرين، وكنت على حافة الموت في سجني، ولولا تدخلات كثيرة لما أفرج عني).
ما بين رمزية ما فعله "يوسف العظمة"، وبين دلالات رسالة "جبران"، ثمة وطن اسمه "سوريا"، يتمزق، وطن يذهب بكل ما فيه إلى موت معلن، ما لم ينتهِ حكم هذه العائلة
أكتب اليوم 24/7/2022 م، قصة "جبران"، وأتذكر أنه في مثل هذا اليوم تماماً لكن قبل قرن وسنتين أي في 24/7/1920 كان هناك ضابط سوري، يشغل منصب وزير الدفاع في الحكومة السورية يخوض معركة ضد احتلال فرنسا لسوريا، لم يكن "يوسف العظمة" ليشك لحظة واحدة أنه قادر على النصر في معركته هذه، لكنه كان بين خيارين: إما موته في معركة خاسرة بالتأكيد لكنها تحفظ كرامة الوطن وكرامته، وتؤسس لمقاومة المحتل، وإما بقاؤه حيا لكن بلا كرامة له ولوطنه، فاختار موته.
ما بين رمزية ما فعله "يوسف العظمة"، وبين دلالات رسالة "جبران"، ثمة وطن اسمه "سوريا"، يتمزق، وطن يذهب بكل ما فيه إلى موت معلن، ما لم ينتهِ حكم هذه العائلة.
لم يعد هناك من حلول أخرى، فإمّا موتهم أو موت سوريا.