كانت شركة Crazy Eddie من أشهر الشركات الضخمة في مجال المنتجات الاستهلاكية الإلكترونية، فقد عمل صاحبها إيدي عنتر على توسيع سلسلة متاجر التخفيضات التي يملكها في مدينة نيويورك خلال سبعينيات القرن الماضي إلى جانب نشر الكثير من الإعلانات التجارية الصاخبة عبر التلفاز التي يستحيل أن ينساها أبناء ذلك الجيل، فضلاً عن شهرة الشركة التي أتت من خلال رخص أسعارها وقصة صاحبها المقنعة والذي تعود أصوله لأسرة سورية متواضعة تدين باليهودية، لكنها هربت من سوريا بسبب الاضطهاد التي تعرضت له وأسست هذا المشروع الناجح، ولكن هذا المشروع، للأسف، بني على الخداع والغش أيضاً .
يروي كتاب "عصابة التجزئة: القصة المجنونة والحقيقية لشركة Crazy Eddie" لمؤلفه الصحفي الاستقصائي غاري ويس، القصة الكاملة لصعود إيدي عنتر هو وشركته ثم سقوطهما.
لم تنفذ شركة Crazy Eddie التي أغلقت عام 1989 عملية احتيال واحدة فحسب، بل قامت بالعشرات منها، حيث بقيت تلك الشركة تستبقي لنفسها قيمة الضرائب المفروضة على مبيعاتها طوال سنين عدداً، وقد انتهجت أساليب متعددة لممارسة الاحتيال في مجال الحسابات والضمان، وبيع منتجات مستعملة على أنها جديدة، والإبلاغ عن النتائج المالية بطريقة تقبل الأخذ والرد. وطوال تلك الفترة، بقيت تلك الشركة تجري صفقاتها نقداً فقط.
إلا أن كل تلك الأساليب قضت على الشركة، فانتهى مصير عدد من مديريها وراء القضبان.
قصة نيويورك من خلال عائلة
تخصص الصحفي ويس منذ أمد بعيد بالأخبار المتعلقة بالمخالفات في مجال المشاريع التجارية، إلا أن قصة شركة Crazy Eddie كانت أكثر قصة احتيال مفعمة بالحيوية في العصر الحديث، إذ يخبرنا الكاتب بأنه اهتم بهذا المشروع عندما أخذ سام ي. عنتر، وهو ابن عم إيدي وزميله، والذي أصبح فيما بعد أهم شاهد ضده، يعلق على مدونة ويس في مطلع الألفية الثالثة، ثم بدأ ويس بالعمل على تأليف هذا الكتاب منذ عام 2008، حيث كان يترك العمل عليه لفترة ثم يعود، وعن كتابه يحدثنا فيقول: "إنها قصة ضخمة وحساسة، لأنها تحكي قصة عائلة، وقصة مشروع تجاري، وقصة تدور حول عمليات البيع بالتجزئة، وقصة احتيال، أي أنها قصة تحكي كيف كانت الحياة في نيويورك خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي... ولذلك احتجت لفترة طويلة حتى أجمع كل خيوطها ضمن سردية محكمة".
يخبرنا ويس بأنه تحدث إلى أفراد من عائلة عنتر وغيرهم من المصادر، إلى جانب البحث في السجلات العامة الضخمة التي تتضمن العديد من لوائح الاتهام والتحقيقات والقضايا والمحاكمات.
لم يقبل كل من له يد بتلك القصة التحدث إلى ويس حسبما ذكر لنا، ثم إن إيدي عنتر توفي في عام 2016، قبل أن تتسنى للكاتب فرصة لقائه. ولكن بالنسبة لمن له يد بتلك القصة، يقول عنهم ويس: "لدي ما هو أفضل من مقابلتهم، إنها إفاداتهم الموثقة التي قدموها خلال فترة زمنية واحدة... أي أنني حصلت على القصة التي سردوها بأنفسهم، بعد فترة ليست بعيدة عن الأحداث التي كتبت عنها".
في الوقت الذي كان فيه إيدي عنتر يبتعد عن الصحافة ونادراً ما يقبل أن يلتقط له أحد صورة، خلف هذا الرجل وراءه قصة مليئة بالتفاصيل الجريئة التي تتجاوز حدود جرائمه الكثيرة. وبما أن كلتا زوجتيه كان اسمهما ديبي، لهذا أصبح المقربون منه يطلقون عليهما: ديبي 1، ديبي 2، إلا أن نجم الإعلانات الشهير جيري كارول وليس عنتر هو من قدم الإعلان المعروف والذي تظهر بنهايته عبارة: "أسعاره مجنونة" على المحطات التلفزيونية، لكن الكثير من أهالي نيويورك ظنوا بأن كارول هو إيدي المجنون لفرط حماسته في أثناء تقديم ذلك الإعلان.
كان من أهم الأمور التي ساعدت شركة Crazy Eddie على الصعود هو أن عائلة عنتر تنحدر أصولها من سوريا، وتعيش ضمن أبناء الجالية السورية اليهودية في نيويورك، فقد فر جد إيدي من حلب التي كانت وقتها خاضعة للسلطنة العثمانية، في مطلع القرن العشرين، وتوجه إلى بروكلين. كانت الجالية هناك مترابطة ومتينة، لدرجة دفعتها لرفض الزواج المختلط من اليهود الأشكناز، كما استعانت بالعلاقات العائلية ضمن الجالية لتحقق النجاح في مجال تجارة الألبسة والإلكترونيات. فقد أسست عائلة سورية أخرى من تلك الجالية سلسلة متاجر أخرى لبيع الإلكترونيات، وهي شركة Wiz (ولهذا يخلط بعض معجبي مسلسل Seinfeld الأميركي بين هاتين الشركتين، ويعود السبب في ذلك إلى تلك الحلقة التي اجتمع فيها سلوك كارول وحماسته بوصفه ممثلاً عن شركة Crazy Eddie مع شعار شركة WIZ وهو: "لن يهزم أحد Wiz"، كما أن والدة جيري ساينفيلد الحقيقية تنحدر من سوريا.
لا دخل للثقافة السورية بالإجرام
بما أن إيدي عنتر ينتمي لتلك الجالية، لذا يقول ويس: "إن ذلك صقل شخصيته ليصبح نتاجاً لجالية ضيقة الأفق ومعزولة تماماً، أي أنها عبارة عن جالية تضم مهاجرين، تعرضوا للاضطهاد لسنوات طويلة، ونتيجة لذلك أصبحوا يعتمدون على الدفع نقداً وعدم الثقة بأي حكومة في تعاملاتهم التجارية، ولكن من الخطأ أن ننظر لإيدي على أنه شخصية من يهود سوريا فحسب، لأنه مجرم"، إذ خلال مقابلات أجريت معه في أواخر حياته، أنحى بلائمة المصير الذي لاقاه على: "الثقافة" التي تربى عليها.
وهنا يعلق ويس فيقول: "إن الثقافة السورية ليست بثقافة إجرامية، بل إنها مبنية على الاضطهاد، إذ قد يجري المرء فيها معظم تعاملاته نقداً، غير أن ثقافة الجالية السورية اليهودية تعتمد على فكرة النجاة والبقاء في وجه أي حكومة معادية، ولهذا ينبغي على الناس ألا ينظروا لإيدي على أنه مثال حي على الثقافة السورية، لأنه ليس كذلك".
في الوقت الذي يصنف فيه كثيرون إيدي على أنه يهودي، نجد أنه من الصعب تحديد مستوى تدينه، إلا أنه مع ذلك أخفى مبالغ مالية طائلة في إسرائيل، وذلك قبل أن تصدر بحقه لائحة اتهام، ثم هرب إليها في عام 1990، حيث واصل هناك ارتكاب جرائمه واحتياله طوال فترة مكوثه فيها، مستعيناً باسم مستعار وهو: "ديفيد يعقوب ليفي كوهين"، ولهذا يشير ويس في كتابه إلى أن رجل العصابات المعروف ميير لانسكي كان يسعى للالتزام بالقانون طوال فترة نفيه القصيرة في إسرائيل خلال سبعينيات القرن الماضي.
أقام إيدي في إسرائيل لمدة سنتين ونصف، وعندما تم تسليمه للولايات المتحدة ليخضع للمحاكمة هناك، اتهم القاضي بمعاداة السامية، ولهذا يقول ويس: "من الصعب أن نصدق بأن رجلاً سخر من قانون العودة يمكن أن يكون متديناً متعصباً".
إيدي عنتر إلى اليمين برفقة مفتش من الشرطة الإسرائيلية - التاريخ: 25 حزيران 1992
الهاوية
بلغت سلسلة متاجر Crazy Eddie أوجها عندما وصل عدد متاجرها إلى أربعين، كما ظهرت شركات أخرى قلدتها، غير أن الغرور الذي أصاب صاحبها، وقدم قدرتها على إدارة حساباتها عبر ذكر أرباح وهمية للأبد، هما من أسهما في انهيارها في نهاية المطاف.
أمضى عنتر نحو ست سنوات في السجن، ولكن حتى بعد وفاته بست سنوات، مايزال ضحاياه يحاولون استرجاع بعض الأموال التي أدين بسرقتها.
وحتى بوجود الحاسوب وشبكة الإنترنت والسجلات الرقمية وقوانين المحاسبة الحديثة، يعتقد ويس بأن محتالاً مثل إيدي من الصعب أن يكتشف لو مارس احتياله في زمننا هذا، ويعلق ويس على ذلك بقوله: "لا أعتقد أن الأمور قد تختلف، ولا أظن أن المحللين قد ينتابهم أي شك تماماً كما فعل من كانوا مكانهم قبل ثلاثين عاماً، كما أن عامة الناس لن تشك بالأمر أبداً، وكذلك الأمر بالنسبة للمشرعين، ولشركات المحاسبة، ولهذا أرى بأن البيئة التجارية والتشريعية بأسرها التي استطاع إيدي أن يتلاعب بها، لن يفتر ترحيبها اليوم بمحتال فنان مثل إيدي، والدليل على ذلك برأيي يتمثل في بيرني مادوف... الذي استمر بالاحتيال حتى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين".
تظهر أسماء العديد من العائلات اليهودية في هذا الكتاب، إذ هنالك شخصية ستانلي تشيرا، وهو أحد أهم أصحاب المشاريع العقارية في أميركا وصديق للرئيس السابق دونالد ترامب، لكنه توفي خلال الفترة الأولى لانتشار جائحة كوفيد، وهذا الرجل هو أحد أقارب عائلة عنتر. وهنالك أيضاً مايكل تشيرتوف وهو ابن الحاخام الذي شغل منصب وزير الأمن الداخلي أيام إدارة بوش، وقد رفع هذا الرجل قضية على إيدي عنتر خلال محاكمته الجنائية الثانية. أما راؤول فيلدر، وهو أحد أشهر محامي الطلاق، وشخصية كثيرة الظهور عبر الإعلام في نيويورك، فهو من ترافع عن ديبي الأولى عندما طلبت الطلاق من إيدي.
إيدي عنتر والأصفاد بيديه بعد تسليمه للولايات المتحدة من قبل إسرائيل في 11 كانون الثاني 1993
الإرث
قام أفراد من عائلة عنتر بمحاولات عديدة لإحياء علامة Crazy Eddie بطريقة عصرية وقانونية، لكنها أخفقت جميعاً، وكان آخرها في عام 2009، وثمة مجموعة على فيس بوك، تضم حوالي 900 عضو، حيث يسرد من خلالها موظفون سابقون لدى تلك الشركة قصصهم وأخبارهم.
بذلت الكثير من الجهود لتحويل تلك القصة إلى فيلم سينمائي، فقد أعلن داني ديفيتو عن خططه لإنتاج وإخراج فيلم Crazy Eddie movie في عام 2009 بالتعاون مع إيدي عنتر الذي كان حياً يرزق حينها، إلا أن ذلك المشروع ألغي في العام التالي مخافة أن ترفع دعوى قضائية ضد منتج ومخرج هذا الفيلم بسبب الاستثمار في قصة إيدي.
وفي عام 2019، تم الإعلان عن شروع المخرج جون تيرتيلتوب بإخراج فيلم Crazy Eddie بمفرده، حيث صار اسم الفيلم: "المجنون" بمساعدة بيتر شتينفيلد، الذي عمل على كتابة نص السيناريو للفيلم الذي كان من المقرر لديفيتو أن يخرجه، ولكن لم ترشح أي أخبار حول الممثلين أو أي شيء يتصل بهذا المشروع طوال السنوات الثلاث الماضية.
الإهداء: إلى ضحايا إيدي
يهدي ويس كتابه لضحايا عمليات الاحتيال، ولكن من هم هؤلاء الضحايا؟
أولهم ديبي زوجة إيدي الأولى التي ادعت على زوجها لأنه كان يضربها، كما أنه وعدها مرات كثيرة بتسوية أمور طلاقهما إلا أن كل ذلك لم يتحقق، إلى أن حققت انتصاراً قانونياً فارغاً في الوقت الذي لم يعد فيه لدى إيدي أي مال لتحصله منه.
يعلق ويس على ذلك بقوله: "أعتقد أن الضحايا هم أصحاب الأسهم، أي الأشخاص الذين اشتروا أسهماً في تلك الشركة، وكذلك المستثمرون والزبائن، لأنهم خدعوا بأساليب عدة، تراوحت بين عمليات الغش التقليدية ، وصولاً إلى بيعهم أجهزة مستعملة على أنها جديدة، ولقد سمعت من دافعوا عن تلك الشركة وهم يقولون: كانت صفقة رائعة بالنسبة لهم، إلا أن الصفقة لم تكن كذلك، وذلك لأن الشركة كانت تصور نفسها في إعلاناتها بأنها تبيع بأرخص الأسعار، إلا أسعارها لم تكن كذلك".
المصدر: تايمز أوف إسرائيل