عندما كان عبد الله الرواس في العاشرة من عمره سأل سؤالاً لا يجوز لطفل في مثل سنه أن يفكر فيه، وهو: "متى سأموت؟" وذلك لأن بلده سوريا كانت تعاني من حرب ولذلك كان هذا السؤال يخطر بباله بشكل يومي.
قبل اندلاع الحرب، كانت حياة عبد الله رائعة، إذ كان يعيش في دمشق مع أهله وإخوته الأربعة، ولكن وقتئذ أخذ معارفهم يفارقون الحياة الواحد تلو الآخر.
وسرعان ما تبين لهم بأنهم لم يعد أمامهم خيار سوى أن يهربوا إن أرادوا أن يبقوا على قيد الحياة، ومن هنا بدأت رحلة معاناتهم الطويلة بحثاً عن وطن جديد، إذ بعد مرور تسع سنوات مع وصول الحرب إلى سنتها الحادية عشرة، أصبحت حياة عبد الله وأسرته في ريكسهام بعيدة كل البعد عما كانت عليه في السابق.
لم يكن من السهل على عبد الله أن يستقر ويعيد بناء حياته من جديد، كما اعترف لنا هذا الشاب البالغ من العمر 19 عاماً، وذلك لأنه ما يزال يشتاق لسوريا ولبيت أهله الذي دمرته الحرب، لكنه صار اليوم يستعين بقصة رحلته المؤلمة عند قيامه بدور الناشط في المجال الشبابي ليساعد غيره من الشباب الذين ينتمون لأقليات عرقية أخرى أو لمجموعات طالبي اللجوء واللاجئين في البحث عن موطئ قدم لهم في ويلز.
رحلة قصيرة.. طويلة
وفي مقابلة له تحدث فيها عن رحلته إلى ويلز التي وصل إليها قبل ثلاثة أعوام، يتذكر عبد الله اللحظة التي قررت فيها أسرته مغادرة سوريا، فيقول: "كان كل ما قاله أبي هو: سنخرج في رحلة، رحلة قصيرة، تمتد لأسبوع، وبعدها سنرجع".
إلا أنهم في الحقيقة هربوا إلى الأردن المجاور، بما أن لديهم أقرباء هناك يمكن أن يستقبلوهم، وعن ذلك يقول عبد الله: "كنت خائفاً، فقد كنت في العاشرة من عمري، ولهذا انتابتني مشاعر سيئة تجاه تركي لأصدقائي ولمدرستي وللمكان الذي ولدت وكبرت فيه، فهذا بلدي وموطني، إذ عندما رحلنا انتابتنا مشاعر سيئة، لأننا تركنا خلفنا بقية أهلنا، أي عماتي وأعمامي وخالاتي وأخوالي، إذ لم يرحل عن البلد سوى أنا وأسرتي".
بعد الحصول على جوازات سفر في نهاية المطاف، بعدما ترتب عليهم دفع مبالغ طائلة، بقيت الأسرة تنتظر على الحدود لمدة 16 ساعة، ثم سمعوا صوت إطلاق نار وطائرات تحلق فوقهم، وأخذ الناس يصرخون والأطفال يبكون، وأخيراً عبروا الحدود بوساطة حافلة عند منتصف الليل.
وعند وصولهم، عرض عليهم شخص آخر عبر الحدود معهم أن يوصلهم بسيارته إلى بيت أقربائهم في العاصمة عمان، لتكون تلك فاتحة الإقامة التي امتدت لست سنوات في ذلك البلد الذي استقبل موجة كبيرة من اللاجئين السوريين منذ بدء النزاع في سوريا.
أقامت الأسرة في ذلك البيت لمدة شهرين، حيث انحشر أفرادها السبعة في غرفة واحدة، ومع ذلك كانوا يدفعون بدل الإيجار والطعام والفواتير، وبعدئذ طردوا من البيت، ويعلق عبد الله على ذلك بقوله: "هذا ما دمر أبي".
وجدت الأسرة نفسها في الشارع هي وكل متعلقاتها، فمكث أفرادها هناك لساعات، ثم رآهم سائق سيارة أجرة كان يعبر من هناك فرق قلبه لوضعهم التعيس وساعدهم في العثور على مكان ليقيموا فيه.
اللجوء إلى الأردن
غير أن الحياة في الأردن أصبحت لا تطاق خلال فترة قصيرة، خاصة على الصعيد المالي، وقد أتت صعوبتها لكونهم لاجئين لا يتمتعون سوى بقدر ضئيل من الحقوق بحسب ما وصف عبد الله، إذ يتذكر مثلاً أن اللاجئين كانوا خلال السنوات القليلة الأولى محرومين من العمل بشكل قانوني، إلى أن بدأت الحكومة الأردنية بمنحهم أذونات عمل في تموز 2016 ما ساعدهم على العمل في قطاعات عديدة.
تنقل عبد الله وأسرته من بيت إلى بيت على مدار سنوات، وذلك مع مواصلة بدلات الإيجار لارتفاعها المتصاعد، كما عمل عبد الله في أعمال تراوح عددها ما بين ستة إلى ثمانية كل سنة، حيث كان ينتقل من وظيفة إلى أخرى، ومنها غسيل السيارات، والعمل في مكتبة، وفي متاجر ومطاعم عديدة.
وعن تلك الفترة يحدثنا عبد الله فيقول: "قبل قدومنا إلى المملكة المتحدة، كانت تلك السنوات الست أصعب ست سنوات في حياتي، لأنها كانت شاقة جداً، إذ كنت في العاشرة من عمري وأعمل في غسيل السيارات لأطعم أهلي، ولندفع الفواتير، ولندفع ثمن أي شيء نحصل عليه. وفي معظم الأوقات لم يكن المال متوافراً البتة بين أيدينا... ولهذا كنا نجلب بعض الخبز ونغمسه بالماء، ثم نأكله، وذلك لأنه لم يكن لدينا أي طعام على الإطلاق".
اللاجئ السوري عبد الله الرواس
عمل والده في مجال إصلاح الأسقف كما اشتغل كسائق لسيارة أجرة، لكنه لم يكن يحصل على أجره في بعض الأحيان، أو يؤخرون دفع مستحقاته له، ولهذا يقول عبد الله: "لم نستطع فعل أي شيء، أي لم يكن بوسعنا أن نبلغ عن الأمر لأننا ما نزال لاجئين في الأردن، ولهذا كان ذلك محظوراً علينا.. بل إنه صعب جداً، إذ حتى اليوم لا يُعامل مع اللاجئين بشكل جيد، لأنه ما يزال لدي بعض المعارف هناك".
خلال مرحلة العمل، ارتاد عبد الله مدرسة مخصصة للاجئين تم فصلها عن المدرسة المخصصة للأردنيين، إلا أن الدوام فيها كان يمتد فقط لأربع ساعات باليوم، كما كان المدرسون يعملون بشكل إضافي ليستوعبوا تلك الأعداد، وعنهم يقول عبد الله: "لم يهتموا لأمرنا، إذ قال أحد الأساتذة: إن كنتم تريدون أن تتعلموا فافتحوا الكتاب، وإن لم تكونوا ترغبون بذلك، فاخرجوا ودخنوا وافعلوا ما يحلو لكم، فلن يهمني ذلك".
كان اليوم الوحيد في السنة الذي كان بوسعهم فيه أن يسترخوا ويستمتعوا هو يوم العيد، ولهذا يقول عبد الله: "سنوات المراهقة تمتد من العاشرة حتى السادسة عشرة، وتلك الفترة هي التي بوسعك فيها أن تستمتع بالحياة، وأن تفعل ما يحلو لك، وأن تكون صداقات، وتخرج وتسافر، لكني لم أحظ بكل ذلك، لا أنا ولا إخوتي، ولا أي لاجئ في الأردن، لأننا لم نحظ بتلك الطفولة على الإطلاق".
الموت في سوريا خير من البقاء في الأردن
بعد مرور ست سنوات، لم يعد بوسع الأسرة دفع الإيجار، ولهذا قررت أن تقيم مع عم آخر من أعمام عبد الله في عمان، برفقة أسرتين أخريين. وخلال تلك المرحلة فكرت الأسرة بالعودة إلى سوريا، إذ خير لها أن تموت على أن تبقى في الأردن بحسب اعتراف عبد الله الذي يقول: "فكرنا أننا إن عدنا إلى سوريا، فسنشعر بالسعادة على الأقل، لأن لدينا بيتاً هناك، ومكاناً بوسعنا أن نعيش فيه من دون أن ندفع بدل إيجار، وإن كتب علينا الموت، فلن يهتم أحد بأمرنا، لأننا كنا نموت في الأردن... ولهذا فمن الخير لنا أن نموت على أن نحيا حياة كهذه هناك".
الفراق
لحسن الحظ لم يحدث ذلك الاحتمال، لأنهم بعد مرور شهرين اكتشفوا بأنهم حصلوا على موافقة لإعادة توطينهم في ريكسهام، ولكن اعترضتهم مشكلة واحدة، وهي أن شقيقتا عبد الله الأكبر منه سناً لن تتمكنا من القدوم بعد زواجهما وتأسيسهما لأسرة، ويعلق عبد الله على ذلك بقوله: "كان ذلك أكثر جزء يحطم الفؤاد في هذه القصة، إذ حتى اليوم ونحن نحاول جاهدين أن نأتي بهم إلى هنا، ولكنهم ظلوا في الأردن يعيشون حياة صعبة".
وهكذا تفرقت تلك الأسرة المترابطة، فلم يعد عبد الله يرى شقيقاته منذ ذلك الحين، لأن عليه أن يقيم خمس سنوات في المملكة المتحدة قبل أن يتمكن من السفر إلى الأردن. وعلى الرغم من أنهم يتحدثون كل يوم عبر مكالمات الفيديو، فإن إحساسهم بالفقدان كبير، ويخبرنا عن ذلك عبد الله فيقول: "مرضت أمي مرضاً شديداً عقب ذلك، وحتى اليوم ما تزال أمي مريضة، فهي تعاني كثيراً، لدرجة أنها لا تتمكن من المشي مطلقاً في بعض الأحيان بعدما خسرت هي وأبي ابنتيهما... لقد كانت علاقتي قوية بشقيقتي، ولكنها تحطمت عندما تفرقنا... إلا أني بقيت أحاول، وآمل أن آتي بهما إلى هنا بطريقة ما، ولهذا أبذل كل ما بوسعي، فقد أصبح لدى إحدى شقيقتي طفلان لا أعرفهما إلا عبر الكاميرا، أي أنهما لم يرياني على أرض الواقع قبل ذلك، أما شقيقي الصغير فلا يعرف شقيقتي إلا عبر الكاميرا، لأنه كان في السابعة من عمره عندما فرقونا".
مصاعب وعوائق
لا شك أن إعادة التوطين في ويلز قد غيرت حياة عبد الله للأفضل، إذ كانت اللغة عائقاً في البداية، ولهذا ترتب عليه هو وأهله أن يتعلموا اللغة الإنجليزية من الصفر، والتي كانت صعبة على عبد الله، لأنه بعد مرور شهرين على بدء دراسته للغة ظهرت جائحة فيروس كورونا.
عبد الله الرواس بعد وصوله إلى ريكسهام
سعى عبد الله جاهداً لتكوين صداقات والتعرف إلى الناس، لكنه بقي وحيداً في معظم أوقاته، إذ كان يجلس في غرفته ويتواصل مع الناس من خلال مكالمات زووم فقط، وعن تلك المرحلة يقول: "لم أكن أفهم ما يقوله المدرس، وبعد مرور سنة وثمانية أشهر، بقيت غير قادر على الحديث باللغة الإنجليزية نظراً لبقائي في البيت، ولكن بنهاية السنة، أصبح بوسعي أن أتحدث خمس كلمات فقط".
تبين أيضاً بأن اختلاف الثقافة عائق وهذا ما صعب عليه إقامة علاقات صداقة في الكلية، ولكن بعد تقديم مساعدة صغيرة له في مجال اللغة، تمكن عبد الله من تعلم اللغة بنفسه، من خلال الأفلام والموسيقا والأخطاء التي كان يرتكبها عند التحدث.
وبعدما أصبح ضليعاً باللغة ساعده ذلك على تبوء مركز جيد، فأصبح أكثر انسجاماً مع الثقافة والطريقة التي يتحدث بها الناس ويمزحون في ويلز، حتى أن بعضهم لم يعد يصدق بأن أصله سوري. وهكذا أصبحت حياته في الكلية أفضل اليوم، وبات يحلم بدراسة هندسة الطيران.
تحقيق الذات
وقبل عام من الآن، عثر عبد الله على فريق لدعم الشباب من الأقليات العرقية، وهي منظمة تأسست في عام 2005 على يد مجموعة من الشباب الذين ينتمون إلى أقليات عرقية، وهدفها تقديم الدعم بما يلبي احتياجات الشباب، لكنها توسعت لتشمل الشباب اللاجئين وطالبي اللجوء الذين يقيمون في ويلز، وعنها يقول عبد الله: "لم أكن شيئاً مذكوراً قبل انضمامي إلى تلك المنظمة، إذ منذ أن عثرت عليها تغيرت حياتي كثيراً، فمعهم عثرت على مكان يحبني فيه الجميع عند دخولي إليه ويحاولون أن يبدوا اهتمامهم بي، وهذا ما جعلني أحس بمشاعر طيبة، كونهم يسألونني عن الكلية، وبعضهم يسألني كيف أمضيت يومي، وهكذا أصبح لدي أصدقاء".
يعمل عبد الله اليوم بدوام جزئي في مجال دعم الشباب لدى المنظمة، وعن عمله يقول: "كل شيء يتعرض له الشباب في ريكسهام أو في ويلز أو في المملكة المتحدة بالعموم سبق أن حدث لي، ولهذا أعتني بالشباب في حال واجهتهم أي مشكلة أو احتاجوا إلى أي مساعدة، مثل كتابة السيرة الذاتية والعثور على عمل، والصعوبات التي يواجهونها في الكلية وبوسعي أن أساعدهم على تجاوزها، فكل ما أريده هو أن يشعروا بأن الأمور أصبحت أفضل، ولا أريد لهم أن يتعرضوا لما تعرضت له في السابق عندما أتيت إلى المملكة المتحدة ولم يكن هنالك أحد يقف إلى جانبي، لأني كنت وحيداً في رحلتي، ولهذا لا أريد أن يحدث ذلك لهم".
من خلال عمله، تعرف عبد الله إلى خليط من البشر الذين أتوا من ثقافات مختلفة، وعن ذلك يقول: "أحاول أن أتعلم لغاتهم أيضاً، حتى أجعلهم يشعرون بأن الأمور باتت أفضل، إذ بوسعي أن أكون جملاً بالإسبانية والبرتغالية، كما أحاول تعلم الفلبينية، ثم إن الحياة في ويلز برأيي أفضل من أي مكان آخر، لأن ما تقدمه حكومة ويلز للناس من مساواة وتنوع رائع، لا سيما في ريكسهام، حيث لدينا كثير من الأشخاص الذين أتوا من ثقافات مختلفة، لكننا نحترم ثقافاتهم وأديانهم كلها، إذ صرت أعرف شيئاً عن كل ثقافة بعينها بفضل الصداقات التي كونتها هنا".
المصدر: Wales Online