كان هنري رعد يحتفل بعيد القديس جورج بصحبة عائلته عندما طرق مراسل من الاتحاد الغربي باب بيته الواقع في شارع ميل بباترسون في عام 1944، وكانت تلك طرقة باب لم يكن أحد يرغب بسماعها.
وحول ذلك يحدثنا السيد رعد البالغ من العمر 92 عاماً فيقول: "ألقى الرجل رسالة على الطاولة وخرج من البيت مسرعاً كالبرق، إذ كان يعرف بأن ذلك بمثابة إشعار إذ ورد فيه: "جون رعد قتل أثناء تأدية واجبه العسكري".
خيم الصمت المطبق على كل من في الغرفة حينها، هذا ما يتذكره هنري رعد الذي قتل شقيقه الأكبر جون في معركة أنزيو بإيطاليا في الثاني والعشرين من شهر آذار، وكان هذا المحارب البالغ من العمر 20 عاماً من قوات المشاة أول من يقتل من الجالية السورية المترابطة بشكل وثيق في باترسون خلال الحرب العالمية الثانية، لكنه لم يكن الأخير. فقد قتل ما لا يقل عن سبعة شبان أميركيين سوري الأصل من المدينة ذاتها في تلك الحرب.
لقد خدم الأشقاء رعد الثلاثة في حروب خارج البلاد، حيث شارك جون ضمن فريق المشاة من الدرجة الأولى الخاصة في الجيش، أما جورج فقد خدم كبحار في البحرية من الدرجة الأولى حيث توجه إلى جنوب المحيط الهادي خلال الحرب، أما هنري فقد كان من الدرجة الأولى الخاصة في الجيش ولهذا تم إرساله إلى الحرب في كوريا.
ثم إن كل الجاليات والأقليات العرقية في أميركا لم تسلم من الحرب العالمية الثانية التي حصدت أرواح 405.399 أميركيا، وهكذا شهد السوريون الذين أتوا إلى نيوجيرسي بأعداد كبيرة في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين حياتهم وهي تنقلب رأساً على عقب، ويعتبر مركز فيلق جون رعد الأميركي رقم 438 خير دليل على ذلك.
فقد أسست مجموعة من المحاربين الذين كانوا يلتقون في النادي الديمقراطي السوري-الأميركي ذلك المركز في عام 1947، وذلك رغبة منهم بدعم المحاربين السابقين وللتعبير عن تقديرهم واحترامهم للرجال الذين ينتمون إلى عائلات سورية لكنهم ماتوا في تلك الحرب، ومن بينهم ميشيل قشي، إدغار كوري، جوزيف عطارة، جوزيف طباخ، صموئيل فقس، جوزيف دهرية، جوزيف سيوفي، وجون رعد.
ويعلق هنري رعد على ذلك بالقول: "كانوا يريدون أن يعرف كل من في المدينة أننا شاركنا في الحرب، أعني الأميركيين ذوي الأصول السورية الذين شاركوا في الحرب العالمية الثانية".
توسع الجالية السورية
أتى جفرين رعد وسارة فتال إلى الولايات المتحدة في عام 1910 تقريباً، حيث التقيا في نيوجرسي ثم تزوجا. وكبقية المهاجرين القادمين من سوريا، عملا في مجال المنسوجات التي اشتهرت هناك بعد انتشار محال تجارية يملكها سوريون امتدت على طول نهر باسيك، وغالبية تلك العائلات أتت من حلب في شمال سوريا، وكانت تدين بالمسيحية.
ولهذا أسست ثلاث كنائس لتخدم مئات العائلات باللغة العربية والإنكليزية، وهي كنيسة القلب المقدس للأرمن الكاثوليك، وكنيسة القديس جورج الأنطاكية الأرثوذكسية، وكنيسة القديسة آن للملكيين الكاثوليك، التي كانت عائلة رعد تؤدي فيها صلواتها. ومايزال الشقيقان عضوين في كنيسة القديسة آن، الموجودة حالياً في وودلاند بارك.
ولدى هذه الجالية أيضاً نواد اجتماعية أسست في الشوارع الرئيسية والكبرى حيث يمكن للناس أن يلعبوا الطاولة والنرد، كما كانوا يتسوقون من محال البقالة التي يملكها سوريون والمنتشرة في شوارع تلك المدينة.
وعندما كبر الأشقاء رعد أصبح شغفهم ينصب على حضور الأفلام وحفلات الرقص في مركز المدينة العسكري، كما استمتعوا بتلك الحفلات التي أقيمت في دور أقاربهم، حيث كانوا يستمعون للموسيقا العربية ويتلذذون بتناول الوجبات السورية التي تطبخ في البيت، بحسب ما يتذكره جورج رعد البالغ من العمر 94 عاماً في واين.
وبالعودة إلى المرحوم جون رعد فقد تخرج ذلك الشاب من الثانوية المركزية ويبدو بطلعته البهية شبيهاً بنجوم السينما، ثم عمل بالتنضيد في مطبعتين بباترسون، كما أصبح عضواً في كادر التحرير لدى جريدة منظمة الشباب الكاثوليكي وذلك بحسب ما شاهدناه في قصاصات من أخبار الصحف التي نعته عند وفاته.
وبما أن جون قد تم تجنيده في عام 1943 لذا فقد أخبر شقيقه جورج الذي كان على وشك بلوغ سن الجندية بأن تجربته في الجيش كانت مروعة ولهذا شجعه على الانضمام للقوات البحرية عوضاً عن الجيش.
وهكذا عندما بلغ جورج الثامنة عشرة من عمره انضم إلى البحرية وتم فرزه إلى LST-127 وهي سفينة ذات قعر مسطح رست في الشواطئ الجنوبية للمحيط الهادئ لتقوم بتسليم الجنود والمعدات. أما هنري فقد جند في الجيش وخدم في كوريا، لكن تم تسريحه من الخدمة في وقت مبكر ليعتني بأبويه.
رسالة أخيرة
وفي آخر رسالة أرسلها إلى الوطن قبل أيام من وفاته، أرفق جون رعد مبلغ 5 دولارات لشراء زهرة أوركيد لأمه في عيد الفصح، وذلك بحسب ما أوردته صحيفة ذا مورنينغ كول التي تعتبر الصحيفة الأم لهيرالد نيوز المعروفة اليوم.
يذكر أن الغارة التي قضت على قطعة المشاة التي انضم إليها جون على بكرة أبيها في 22 آذار 1944 كانت أشبه بالفضيحة، بحسب ما ذكره شقيقاه، اللذان أخبرانا بأن الألمان تمركزوا أعلى التلة فبات من السهل عليهم الهجوم على هؤلاء الجنود وهم نيام.
ويحدثنا جورج عن ذلك فيقول: "عندما هجم الألمان، لم يدرك هؤلاء الشبان بأن أبواب جهنم قد فتحت عليهم، وهكذا قضي على القطعة على بكرة أبيها".
وهكذا دفن جون رعد في مقبرة عسكرية في مدينة نيتونو بإيطاليا، إذ لم يطلب شقيقاه بأن ينقل رفاته بالسفينة إلى الوطن عقب الحرب، لأن ذلك قد يكون صعباً بالنسبة لوالدتهم حسبما ذكروا، كونها عاشت فترة سبات وحداد امتدت لأشهر عقب وفاة ابنها الأكبر.
الحياة بعد الحرب
بعد العودة إلى بيتهما في باترسون، انضم هنري وجورج إلى شركة يملكها عمهما، وهي شركة Perfect Textile Mill للنسيج في شارع فان هوتن بباترسون، وقد عملت تلك الشركة بصناعة الحرير.
كما شكل الشقيقان فرقة موسيقية تعرف باسم فرقة الأخوين رعد، وأخذت هذه الفرقة تعزف الموسيقا العربية ويقوم جورج فيها بالغناء وعزف العود، فيما أخذ هنري بالعزف على الكمان، أما صديقهما جورج كوسا فكان يقرع الطبلة.
وقد اشتهرت تلك الفرقة في ذلك الحين كونها الفرقة الوحيدة التي تعزف موسيقا عربية في نيوجرسي بالرغم من أن كل أعضائها ولدوا في الولايات المتحدة، وذلك بحسب ما ذكره لنا الشقيقان رعد، اللذان يعيشان حالياً في قرية شين في وين التي تضم مجمعاً سكنياً قديماً. وهكذا ظلت تلك الفرقة تعزف في الحفلات والمناسبات الاجتماعية طيلة ثلاثة عقود.
تزوج جورج وأنجب خمسة من الأبناء، إلا أن زوجته توفيت بالسرطان في أربعينيات عمرها، أما هنري فقد تزوج واستمر زواجه لمدة 51 عاماً، ولديه حالياً ابنه وزوجته بيفيرلي.
في بداية الأمر، لم يرغب جفرين وسارة بأن يتم تسمية المركز باسم ابنهما، لأن وجودهما تحت الأضواء لم يكن يبعث الراحة في نفسيهما، إلا أنهما سرعان ما تحولا إلى عضوين بارزين في ذلك المركز بحسب ما ذكر لنا جورج رعد.
فقد قام مركز فيلق جون رعد الأميركي رقم 438 بإرسال طرود تحتوي على معدات العناية للشباب الذين يؤدون الخدمة العسكرية خارج الولايات المتحدة، كما ساعد المركز المحاربين السابقين في الحصول على امتيازات بموجب قانون G.I للحقوق. وقد حضر أعضاء ذلك المركز الجنازات ونظموا مسيرات في الذكرى السنوية لوفاة جون، وقاموا برعاية قداس سنوي في الأعياد، واستضافوا الحفلات والمناسبات الاجتماعية فيه. فيما عمل فريق مساعد يضم سيدات على توزيع سلل غذائية للعائلات المحتاجة إلى جانب جمع الأموال والتبرعات للأعمال الخيرية.
كان ذلك المركز مؤلفاً من بضعة بيوت قبل أن ينتقل إلى بناء جديد في جادة مونتكلير، شارع داكوتا بباترسون في عام 1960. غير أن عدد المحاربين السابقين قد تضاءل إلى أن تم إغلاق المركز في نهاية الأمر.
موجة المهاجرين السوريين
فقد توقفت موجة المهاجرين السوريين واللبنانيين الوافدين إلى هذه المنطقة في عام 1924 تقريباً وذلك بسبب التغييرات التي أدخلت على سياسة الهجرة الأميركية، وذلك قبل أن تعود لسابق عهدها في أواخر ستينيات القرن الماضي. ما يعني أن التركيبة السكانية للمدينة قد تغيرت، إلا أن هنالك وجودا كبيرا للأميركيين من أصول عربية، وعلى رأسهم هؤلاء القادمين من سوريا والأردن وفلسطين، بيد أن المهاجرين الذين قدموا في الموجة الثانية كان معظمهم مسلمين.
وهنا لابد أن نتحدث عن أندريه صايغ رئيس بلدية باترسون المولود في الولايات المتحدة لكن أصوله تعود إلى سوريا ولبنان. فاليوم ماتزال المتاجر والمطاعم التي يملكها عرب تصطف في الشارع الرئيسي جنوب باترسون، لتقدم خدماتها للمهاجرين الجدد وللعائلات التي وصلت إلى تلك المنطقة بعد وصول أجدادها إليها منذ أمد بعيد، لكنهم ما فتئوا يستمتعون بالأذواق الخاصة بهم وبالأصوات والألحان التي كبروا معها.
أما بالنسبة للبناء الموجود في شارع مونتكلير والذي ضم ذلك المركز في يوم من الأيام فقد تحول اليوم إلى روضة أطفال، إلا أن هذا الشارع أصبح يحمل اسم مركز جون رعد، فقد قام رئيس البلدية السيد صايغ الذي كان يحضر الحفلات المسيحية في ذلك المكان عندما كان طفلاً بتغيير اسم الشارع وقام بنصب لافتة فيه تحمل هذا الاسم الجديد في عام 2012، ويعلق على ذلك بالقول: "إن نصفي سوري، ولهذا يشرفني أن أعرف بوجود شخص ينتمي إلى الجالية السورية خدم بلادنا ثم ارتأى الناس أنه من اللائق إعادة تسمية هذا المركز باسمه".