من المتعارف عليه أن كل إنسان يفكر من خلال لغته، ولذلك من الصعب ترسيم الحدود بين اللغة والفكر. وقد مرّت اللغة بمراحل عديدة قبل أن تصل إلى شكلها الحالي. وانتقالها من المرحلة الشفوية إلى مرحلة التدوين شكّل نقلة نوعية في مسار تطور الفكر، وأصبحت كل لغة لغات، تتدرج من التعبير التقريري البسيط إلى التجريد. وكل لغة من تلك اللغات تقودنا إلى مغامرات خاصة بها من حيث الكشف، والاكتشاف.
والشعر -بطبيعة الحال- ليس بعيدا عن هذه المقدمة، إلا أن علاقته مع اللغة علاقة مختلفة، ومميزة. وأهم ما يميزها أن كل شاعر يستطيع من خلال علاقته باللغة أن يؤسس لغته الخاصة، وإلا ما معنى تجاوز السائد اللغوي؟ وما قيمة القصيدة إن لم تتجاوز السائد أو تغايره؟ والشعراء يعرفون ذلك، واشتغلوا عليه، وما زالوا يفتحون في جدار اللغة أبوابا ونوافذ لم تكن موجودة.
وهذا أحد أسباب قدرة الشعر على الإدهاش. وخاصة بعد أن حظي بعناية وسائل الإعلام، والمهرجانات، والمسابقات الشعرية، واهتمام دور النشر، وأصبح له جمهورا لا يعرفه الشاعر نفسه، ولا يراه أيضا. ما أدى إلى ظهور جيل جديد من النصوص الشعرية التي تجاوزت الشكل، وما أثير حوله خلال العقود الماضية من حوارات وانتقادات وتحزبات.
الآن هناك جيل من الشعراء الذين ينتمون إلى إنجازهم الشعري، وليس إلى أي فكرة أو مدرسة شعرية. دون تأثر بوجهات نظر الشكلانيين الروس، أو ما جاء به الفرنسي رولان بارت في كتابه" درس السيميولوجيا"، وبعيدا عن نظرية موت الأب أيضا. تلك النصوص تشبه نبتة برية، تتجاوز بقدرتها على البقاء ما تستطيعه نباتات الزينة، رغم ما يتوفر لتلك النباتات من العناية والاهتمام:
"عيناكَ تسرقُ من غُرابِ العمرِ
آخر ريشةٍ
كانتْ على كتفِ الصّباح
تُرفرفُ
ويداكَ تغلي
فِتنةَ الصبّارِ في صمتي
وصوتُكَ يَغرفُ".
بهذه البساطة يعانق خيال الشاعر أحمد الصويري المجازات غير المأهولة، بحيث تغصّ كل جملة بتراكم المعاني:
"ستأتي أم لا..
هذا الأمر لا يدفعني للتردد في شراء أصيص.
إذا أتيت سنملؤه بالورود.
وإذا لم تأت، سنملؤه بالفراغ".
بعفويتها المعهودة، وجرأتها على تحويل تفاصيل الحياة اليومية إلى نصوص مدهشة، تمدّ الشاعرة رنا سفكوني سجادة المعنى، دون أن تبلل قميص الشعر بدموعها! مما يذكر بقول الشاعر الكبير عبد القادر الحصني: "في الشعر؛ بين الحسِّ والمعنى تماوجٌ خلّاقٌ، يجعلُ وردةَ الوجود وردةً لا تكفُّ عن التفتُّح".
هذا التماوج نلمسه في قصائد إياد حمودة، ذلك الشاعر المتهم بهتك ستر اللغة التي يستعملها، والأمكنة التي يرتادها، والأفكار التي يفكر بها، بذريعة البحث عن فطرة الشعر:
"كل ليلةٍ ..أنتظر
أن تصاب الأشياء..بمس
أن تعوي الأحذية عند المدخل..
كذئابٍ شبعانة
وأن يطلع من تحت الأريكة..خرتيتٌ ضخم
وينطلق عبر المدينة
ومن الكتب..تنزل النساء كما لو أنهنّ..
يخرجن من سيارات الأجرة الصفراء
ويبتعدن..
دون أن يسمعن..
عزفي على الأكورديون..
أو يلقين في قبعتي..
قبلةً..من ورق".
هذا التلاقي بين الداخل والخارج يستعمله طلال الرجا، ذلك الشاعر الذي لم يبلغ وزن الشعر بعد، لذلك تراه يكتب على وزن الفجائع التي ألمّت بنا. حين قرأته أول مرة (تبلهثت)، فاستعنت بفنجان قهوة، ولفافة تبغ، لأستعيد توازن ذائقتي التي كانت تركض لاهثة بين كلماته ومعانيها البعيدة:
"نحن أبناء البلاد الحزينة، والحارات العشوائية/
رضعنا الحسرة من ثدي الحياة
وهكذا صرنا إخوةً في الحرمان/
في الصِغر
ولإن حظّنا كان صغيراً مثلنا
حين نصبنا الفخاخ في البراري
لم نصطد سوى أصابعنا
لكنّنا ضحكنا ومضينا حاملين ندوبنا الفتية معنا
ولمّا كبرنا
وعَرفنا الله أحببناه كثيراً
لذا لعبنا الغميضة على حائط المسجد
دون أن نكفّر الذين يلعبون السبع حجرات
كنّا سنبقى صغاراً هكذا إلى اللحد
لكنَّ حربًا باغتتنا
نصبتْ لنا فخاخًا واصطادتنا بقسوةٍ
دون أن تمنحنا فرصة
لا لننجو؛ إنما لنلعب الغميضة لمرةٍ أخيرةٍ
ونوهم من بقي منّا بأن الذين هم تحت التراب
ليسوا مَيّتين؛ بل مختبئين".
وما زالت البلاد تضع لمساتها الأخيرة على قصائد الشعراء، وتوقع عنهم في كثير من الأحيان! لذلك تراهم يركضون بين خدعة المهزومين وعزاء المفجوعين، في تلك المسافة المجازية الضيقة تكتب محاسن سبع العرب هواجسها:
"تمشي امرأة مسنة على طول الشارع الممتد أمام نافذتي كل يوم ..
تحمل على رأسها صرة قماشية بيضاء ..
تضعها أرضاً كل برهة ..
تفتحها وتطمئن على ما بها ..
ثم تعيد ربطها بإحكام ..
تنثني للأمام وبيديها النحيلتين ترفعها حتى تستقر على رأسها مرة أخرى ..
اليوم يبدو أنها تعثرت بحجر على الرصيف ..
فسقطت صُرّتها وتبعثر ما بها ..
كانت تجلس القرفصاء على إسفلت الشارع تبكي ..
بينما مئات الأطفال قد خرجوا من الصُرّة وبدؤوا بالركض في كل الاتجاهات".
الآن وبعد قراءة هذا النص عرفت معنى مقولة أندريه فونتين: "الكتابة أن ترى العالم من قبر مرتفع". وكيف يصبح الداخل خارجا، والخارج داخلا. وكأن قدر الشاعر مقاومة الألم، وجمعه في صور بيانية تحاكي وجوده الإنساني. هذه المحاكاة بشكلها المحكم نجدها في نصوص الشاعر والروائي الفائز بجائزة غسان كنفاني للرواية العربية، المغيرة الهويدي:
"كنتَ وحيدًا أكثر مما تحتمل الوحدةِ
وخائفًا أكثر مما في ظنِّ الخوف
وغريبًا فائضًا عن حاجة الطرق الموحشةِ
ويائسًا كأنّك لم تعرف الأمل يومًا
شبهةً في يقينِ الآخرين؛ أنّك كنتَ،
أو ربّما لست أكثر من خاطرٍ في خيال امرأةٍ وحيدةٍ
تزيحك عن سريرها لتنامَ وتحلم بغيركَ..".
فالفن عمومًا والأدب على نحو خاص-برأي المغيرة- ليس تعبيرًا عن الواقع؛ إنه بناء عالم موازٍ يعيد فيه الفنان تشكيل الواقع وفق رؤيته.
يميز الفرنسي موريس بلانشو في كتابه "أدب الفاجعة" بين ما حدث، وبين الكتابة عما حدث. تذكرت ذلك لأن المقتلة السورية، وما تبعها من هجرة، وتشتت، وضياع، هي الحامل الموضوعي لغالبية نصوص الشعراء التي كتبت بعد عام 2011. لدرجة أصبح الخاص عاما، والذاتي موضوعيا:
"تقف امي خلف ابواب نومنا
كعلاقة هموم
نخلع عليها حزننا وننام
امي امرأة طاعنة في الحب
ربت الحزن كعاشرنا نحن التسعة
وكلما فقدت ابنا ربت حزنه
تساعدنا امي في تربية حزننا الصغير
تعرف أننا لا زلنا صغارا على الحزن".
فهذه الأم ليست أم الشاعرة ميسون أسعد، كاتبة هذا النص، بل هي الأم السورية، التي أودت الحرب بأعزّ أحلامها. هي أمي وأمك وأمهم وأمهن. إذ لا يوجد في سوريا بيت لم تطاله الفواجع! يلخص ذلك بكثافة وحرفية عالية الدكتور علاوي علي، حيث يقول:
"عثروا عليكَ، وما وشتْ بكَ نجمةٌ، خانَ المغيبُ وباتَ جرحُكَ يلمعُ
همْ أبصروكَ، وما تدافعَ جمعُهم قمرًا مريضًا في الدّجى يتوجّعُ
جاءوا إليكَ ولا دليلَ لهديهم، لولا أنينٌ في القوافي يُسمعُ
مرّوا ثقوبًا في فؤادِكَ فانحنى قصبُ النّوى بالغائبينَ مولّعُ
افرغْ خوابي الدّمعِ يبقَ معشبًا فجرُ النّدى، فلكلِّ حزنٍ منبعُ
وعلى شفا حرفٍ تظلُّ مؤرجحًا بين الشّعابِ ولا تطالكَ أذرعُ
أفإنْ سقطتَ على حروفِكَ داميًا سالَ الكلامُ الآدميُّ الموجَعُ
فانهضْ بعكّازِ الرّكامِ قدِ انحنتْ معوجةً من فرطِ همِّكَ أضلعُ
قالوا: السّلام عليكَ فجرَ غيابنا وإلى مغيبِ الشّمسِ حين تُشيّعُ
ضاعَتْ بلادُكَ لا نهارًا مسرجٌ هل في ظلامٍ قد يدلُّكَ إصبعُ؟
قالوا: الغياب،َ فقلتَ: ليسَ بهيّنٍ قالوا: أتينا من إليهِ نودّعُ
قلتَ: اتركوني نخلةً مهجورةً بينَ الرّياحِ، عصيّةً لا تُقلعُ
تبني عليَّ حمامةٌ أعشاشَها وتنوحُ نوحَ النادبينَ وتسجعُ
في كلِّ رسمٍ دارسٍ لي وقفةٌ من كلِّ أطلالِ البكا لي مطلعُ
أبقيتُ من كأسِ المرارةِ فُضلةً فلمَ جبينكَ يا زمانُ يصدَّعُ
هم أثخنوا فيَّ الوداعَ، وليتهم قد أجهزوا الطّعناتِ أو لم يوجعوا".
فالشعر ليس انتصارا للمعنى الجمالي وحسب، فأثر الفاجعة واضح في الاستعارات، والمجازات، والصور البيانية، بهذا الرحيل بالاستعارات، وبهذه الحساسية الجسورة ينتصر الشاعر للحياة، وما الشعر إن لم يكن انتصارا للحياة؟
علما أن الشاعر في هذه القصيدة ينتهج المنهج الكلاسيكي إلا أن التصوير والمعالجة والبنية والتكثيف يجعل كلاسيكيتها مجرد شكل، في المضمون حداثة لا تحتاج إلى شهادة. أحيانا يصبح فيض الحزن أكبر من أي استعارة، وتصبح صورة الفاجعة بيان بذاته، بيان لا يحتاج إلى استعارات:
"لو أخبرتِني برحيلك لكنت ُ تدر ّبتُ على غيابك ِ
أو أقنعت ُ الشّمسَ أن لاتميل نحو الغروب
كي يبقى هناك مزيداً من الوقت ِ
لو أخبرتِني برحيلك ِ
كان أفضل من أن يقع كزلزالٍ
أو ذبحة قلبية..
لو أخبرتِني برحيلك كنتُ ربّيتُ لكَ عناقيد َ من الدّمعِ
لايليقُ برحيلك دمع ٌ لم ينضجْ بعد..
لو أخبرتِني برحيلكِ كنت زرعت ُ وردةً سمّيتها باسمكِ
وردةً تصلحُ لكلّ الفصول".
الشاعر سليمان نحيلي بهذا المقطع، وغيره من ديوانه (انتظار التي لن تأتي) يوهم القارىء بأنه يكتب، هو في الحقيقة يبكي. وبكاؤه يتحول إلى كلمات. والمشترك بينه وبين جميع الشعراء، هو الأطلال. بيد أنها ليست أطلال ديار ودعوها طوعا، بحثا عن الكلأ والماء.
إنها قراءة بسيطة لموضوع معقد، فالشعر ديوان العرب والنقد ظلّ الأدب؛ سبر أغواره ومساره وتتبع معانيه ومراميه أيضا. تطوّر وتمدرس إلا أنه لم يستطع أن يضبط شكلا نهائيا للأدب. ففي كل يوم نقع على قصة مكتوبة بطريقة جديدة، ورواية تجاوزت ما قاله النقاد عن فن الرواية، وقصيدة ثقبت جيب النقد وخرجت منه وعليه، فالتغير سنة الكون. يتغير شكل الفنون الأدبية، وتتغير التهم الملتصقة بها أيضا. إذ لم يعد أعذب الشعر أكذبه، بل أبعده عن الكذب، والمباشرة أيضا.