يبدو أن النظام غير راض عن الاتفاق الذي عُقد مع "قوات سوريا الديموقراطية" (قسد) برعاية روسيا في الحسكة شمال شرقي سوريا، والذي ينص على إنهاء "قسد" لحصارها المفروض على المربعين الأمنيين التابعين للنظام في مدينتي الحسكة والقامشلي والسماح بتدفق البضائع والمواد التموينية وحركة المرور مقابل فك حصار النظام عن أحياء الشيخ مقصود والأشرفية والسكن الشبابي في مدينة حلب، وعن منطقة تل رفعت والريف المحيط بها شمالي حلب والتي تطلق عليها "قسد" اسم "مناطق الشهباء".
لم تنهِ "قسد" الحصار في الحسكة والقامشلي بشكل كامل، ونفذت عمليات إعادة انتشار جديدة لحواجزها ودورياتها الأمنية في محيط المنطقتين المستهدفتين بحثاً عن منظمي الاحتجاجات والمسؤولين عن التعبئة الشعبية والعشائرية ضدها خلال فترة الحصار، وتوفر حالة الاستنفار الجزئية ضغطاً متواصلاً على النظام لتجبره على الإيفاء بالتزاماته في تطبيق الاتفاق، وبشكل خاص تلك البنود المتعلقة بوجود قسد ومصالحها بحلب، بينما يرى النظام في الاتفاق الأخير تقييداً لحركة عناصره وفروعه الأمنية وتخفيضاَ لسلطاته التي انحصرت داخل المربعات الأمنية في المدينتين الكبيرتين.
المحاضر في العلوم السياسية، محمد بقاعي قال لـ موقع تلفزيون سوريا إن "النظام يسعى إلى زيادة مساحة سيطرته على الكتل البشرية قبيل انتخاباته المقبلة لذلك حاول ابتزاز قسد بملف مناطق سيطرتها في حلب ولكن الضغط الذي مارسته قسد على النظام في الحسكة والقامشلي دفع النظام إلى التراجع لأنه يخشى من أن يتم طرده من القامشلي والحسكة".
وأشار "بقاعي" إلى أنه "لا بد من مراقبة موقف قسد من قضية السماح للنظام بتنظيم انتخابات الرئاسة في منطقة شرق الفرات خلال الفترة القادمة لأن هذا الموقف إما سيفتح باب تفاوض أو باب الصراع بين قسد والنظام، وبالتالي تصعيد ومواجهات أكبر بين الطرفين".
الربط بين الحسكة وحلب
قبيل التوصل لأي اتفاق، ركزت الرئيسة المشتركة لهيئة الداخلية في إقليم الجزيرة سمر حسين - في مداخلة هاتفية مع إحدى الإذاعات المحلية التابعة لـ قسد - على مسألة ربط التطورات الحاصلة في الحسكة مع قضية وجود قسد في حلب وريفها الشمالي والجسر البري الذي من المفترض أن يؤمنه أي اتفاق مع النظام، وقالت "فرض النظام الحصار الخانق على شعبنا في حلب ومنطقة الشهباء لذلك لم يكن أمام الإدارة الذاتية إلا فرض نفس الحصار على المربعين الأمنيين في الحسكة وقامشلي".
ولمح المسؤولون في "قسد" خلال الفترة الماضية أكثر من مرة إلى أن الحصار يهدف إلى إفشال المؤامرة في عين عيسى شمالي الرقة، والتي يشترك فيها النظام مع روسيا والتي تنسق أيضاَ مع تركيا، وحسب مزاعم "قسد"، إن مؤامرة عين عيسى التي سعت الأطراف الثلاثة إلى تحقيقها تهدف بالدرجة الأولى إلى إضعافها في حلب، وقطع تواصلها البري بشكل كامل مع مناطق نفوذها في أقصى الشمال الشرقي من سوريا.
وفي الوقت الذي كانت تتوالى فيه تصريحات مسؤولي "قسد" حول دواعي ومبررات الحصار المفروض على النظام في الحسكة كانت رئيسة الهيئة التنفيذية لـ مجلس سوريا الديمقراطية إلهام أحمد، أواخر شهر كانون الثاني 2021 في حي الشيخ مقصود داخل حلب، تشارك في مظاهرات واحتجاجات تنظمها قيادة "وحدات حماية الشعب - YPG" وتجتمع مع مسؤولين محليين في قيادة الوحدات في المدينة، ومع قادة في "قوات تحرير عفرين" التي تنتشر في منطقة تل رفعت وعلى طول خط التماس مع الجيش الوطني حتى مشارف إعزاز شمالاً.
"قسد" والميليشيات الإيرانية في حلب
بحثت إلهام أحمد مع قادة "YPG" في حلب تطورات العلاقة المتدهورة مع الميليشيات الإيرانية في ريف حلب الشمالي، والتعاون المشترك معها في العمليات العسكرية ضد الفصائل المعارضة والجيش التركي، والذي انخفض لـ أدنى مستوياته منذ مطلع العام 2021 بسبب الخلافات، وتحميل قسد للميليشيات الإيرانية الجزء الأكبر من مسؤولية الحصار والتضييق الذي تعاني منه مناطق نفوذها في حلب والشمال، والذي تتولى "الفرقة الرابعة" تنفيذه على أرض الواقع، كما حضرت "أحمد" في أكاديمية "شهيد باكور" على أطراف حي الشيخ مقصود، تدريبات الدورة الجديدة للمتطوعين الجدد في صفوف قسد، وعددهم 45 مجنداً.
يبدو أن من مصلحة الميليشيات الإيرانية إذكاء التوتر والتصعيد بين النظام وقسد في الحسكة، وهذا بمثابة عقاب لـ قسد التي تضم مناطق سيطرتها غرفة عمليات مشتركة للتحالف الدولي وإسرائيل والتي تنطلق منها الطائرات المسيرة وتدير تنفيذ العمليات الجوية المستمرة ضد المواقع والوجود الإيراني في محافظة دير الزور شرقي سوريا.. إشغال قسد بالوضع الداخلي وربما مواجهة مع العشائر المنقسمة والتي بدأ النظام والميليشيات الإيرانية على إثارتها ضد قسد يوفر للميليشيات الإيرانية الوقت الكافي لتعيد انتشارها وأن تتنفس الصعداء بعد سلسلة من الضربات الموجعة، كما أن الإضعاف المفترض والطوق المفروض على قسد في حلب وشمالها يصب في مصلحة الميليشيات الإيرانية، والتي تتطلع إلى انتشار أوسع في خطوط التماس مع المعارضة والجيش التركي، وتدعم سيطرة النظام على عين عيسى وقطع الطريق إم 4 على قسد، وبالتالي الفصل الجغرافي بين مناطق قسد في الشرق والشمال السوري.
المحلل العسكري العقيد مصطفى بكور قال لموقع تلفزيون سوريا إنه "من الممكن أن تتجدد الصدامات بأي لحظة بين الطرفين، لأن النظام يتهرب عادة من أي اتفاق لا يلبي مصالحه، أما بالنسبة للدور المفترض للميليشيات الإيرانية في التطورات الحاصلة بين النظام وقسد في الحسكة وحلب فهو غير مستبعد، وهي دائماً تحاول الاستفادة من حالة الفوضى والتوتر بين مختلف القوى، وذلك يوفر لها فضاءً رحباً للمناورة، لكن علاقة الميليشيات الإيرانية والتنسيق العسكري لا أعتقد أنه سيتأثر، ومن مصلحتها الحفاظ على قدر كبير من التنسيق والعمل العسكري والأمني المشترك في مواجهة المعارضة وتركيا شمالي حلب".
فك الحصار عن "قسد" في حلب
ما إن تمَّ التوصل إلى اتفاق بين "قسد" والنظام في الحسكة وبرعاية روسية حتى بدأت آثاره بالظهور في محيط الأحياء التي تسيطر عليها قسد داخل مدينة حلب وفي ريفها الشمالي، حواجز النظام رفعت القيود على حركة العبور للمارة والسيارات في محيط السكن الشبابي والأشرفية والشيخ مقصود، وخفضت مستوى التشدد الأمني والتفتيش على حواجزها، وسمحت "الفرقة الرابعة" بمرور "صهاريج" تحمل المحروقات إلى منطقة تل رفعت والقرى في ريفها شمالاً، وعبرت أرتال من الشاحنات تحمل المواد الغذائية والتموينية نحو المنطقة قادمة من منطقة منبج.
وزار وفد من الضباط الروس عدداً من حواجز ومقار قسد في محيط الشيخ مقصود، وأطلع الوفد الروسي مسؤولي قسد على خطة العمل التي سيتم تطبيقها خلال الفترة القادمة والتي تشمل حرية التنقل وفك الحصار الأمني عن الأحياء التي تسيطر عليها قسد، وتأمين عبور بري آمن للأرتال العسكرية التابعة لقسد بين الشمال ومواقع تمركزها داخل المدينة.
يبدو أن من مصلحة روسيا تهدئة التوتر بين النظام وقسد بعد أن حققت استفادة لا بأس بها خلال التطورات الأخيرة، وذلك من ناحية تكثيف الانتشار العسكري الروسي في الحسكة والقامشلي وعموم مناطق شمال شرقي سوريا، ولذلك يمكن القول بأن روسيا ستعمل على تثبيت الاتفاق ومنع انهياره بالكلية.
حصار النظام وتضييقه على قسد في حلب ليس جديداً، ويمكن القول بأنه بدأ في الربع الأخير من العام 2020، وكانت آثاره أكثر وضوحاً على "مناطق الشهباء" في ريف حلب الشمالي، حيث منعت "الفرقة الرابعة" مرور أي مدني كردي نحو أحياء الشيخ مقصود والأشرفية في حلب، وأوقفت تدفق المحروقات القادمة من منبج، وفرضت الضرائب على الشاحنات التي تحمل مواد تموينية وإغاثية، ما أدى الى ارتفاع كبير في أسعار السلع والمحروقات، وشهدت المنطقة احتجاجات متكررة وتجمعَ الآلاف من الموالين لـ قسد أمام حواجز النظام بالقرب من السجن المركزي في المسلمية، وعلى أطراف مدرسة المشاة.
تؤمن الطرق المفتوحة لـ"قسد" في حلب استمرار تدفق الدعم العسكري والمالي لقواتها، واستمرار تدفق المحروقات، وتحسين مستوى معيشة أكثر من نصف مليون سوري يعيشون في مناطق سيطرتها، وهؤلاء ينعمون بالمساعدات التي تقدمها "قسد"، وتتميز مناطقهم بانخفاض الأسعار لعموم السلع والخدمات مقارنة بالمناطق المحيطة بها، ففي حي الشيخ مقصود مثلاً تباع الطاقة الكهربائية التي تقدمها المولدات الخاصة بمبلغ 1300 ليرة سورية شهرياً للأمبير الواحد، في حين يصل سعر الأمبير الواحد في الأحياء المجاورة التي تخضع لسيطرة النظام إلى 3 آلاف ليرة سورية شهرياً، ولا يزيد سعر برميل المحروقات في فافين شمالي حلب على 20 ألفَ ليرة سورية وذلك عندما تكون خطوط الإمداد مفتوحةً ين منبج والمنطقة، وقسْ على ذلك عمومَ السلع الغذائية والمواد التموينية التي تتأثر بشكل كبير بتكاليف النقل وارتفاع أسعار المشتقات النفطية.