يعتقد علماء التاريخ الطبيعي أن المجتمع الإنساني بدأ والإنسان يجري وراء طريدته لقتلها وأكل لحمها؛ ليسد بذلك "حقه الطبيعي" في الحصول على الغذاء. وفي عصر الصيد ذاك كان المجتمع قبيلة تخضع لقواعد يفرضها الرجل الأقوى أو ما يسمى بالنظام الأبوي.
في المرحلة التالية عرف البشر الزراعة ودجّنوا الحيوان، وبالتوازي تطورت العلاقات الاجتماعية فنشأ المجتمع الإقطاعي والنّظام الملكي.
ثم في المرحلة الحديثة حدث المجتمع الصناعي، وتطورت العلاقات الاجتماعية في "المصنع" فنشأت العلاقات المدنية الحديثة، والمجتمع الديمقراطي الأوروبي. وأستميح القارئة والقارئ الكريم في التوقف هنيهة لنعود بعد سطور قليلة نمر خلالها سريعاً على التّاريخ الروحي للإنسان.
التاريخ الروحي للظاهرة الإنسانيّة يبدأ من أبينا آدم وأمّنا حوّاء حيث -بحسب الكتاب المقدّس- أغواهما الشّيطان فأكلا من شجرة "معرفة الخير والشّر" فأسكنهما الله الأرض - ثمّ أبناءهما: سام وحام ويافث. وبعد الطوفان العظيم ينطلق التّاريخ مجدّداً مع أبينا نوح، وتبدو أولى العهود المذكورة في هذا السياق عهد الله مع أبينا إبراهيم، ثم إسحق فيعقوب بحسب الديانة اليهودية وبعض المسيحيين، وإسماعيل بحسب المسلمين، ثم مع السّيد المسيح بحسب المسيحيين، ثم مع محمد "عليهم الصلاة والسلام" بحسب المسلمين.
لنعد – قارئتي وقارئي الكريمين- معا إلى أوروبا المسيحية ونهاية قرونها الوسطى وبداية حداثتها؛ حيث كان الملوك يحكمون المجتمعات بوثيقة العهد- الحق إلهي المقدّس، ولهذا منطقه؛ إذ كان من المعلوم بالنسبة إليهم وقتذاك أنّ كل إنسان حرّ؛ لكنّ حريّة غير المُباركين ما كانت لتفعل "الخير" -بحسب ذلك المنطق- فكان نظام المُلك قائماً على سُلطة المُباركين: طبقة النبلاء ورجال الدين!
لا بدّ من ضبط العلاقة بين النّاس ضمن نظريّة عقد اجتماعي تعيّن الواقع المادّي كميدان للعلاقات وللمصالح المطروحة للتفاوض والمعالجة
كان لتطور العلم الطبيعي التجريبي أثره في استعادة وتأكيد "الحقوق الطبيعية" للإنسان - تلك التي كان منها حق الإنسان بالحصول على الغذاء- وفي إثبات مساواة الإنسان لأخيه الإنسان في الحقوق الطبيعية، وفي أنّ كلا الإنسانين حرّ بطبيعته وأنّ هذه الحريّة قادرة على فعل "الصواب والخطأ" أمّا تعيين "الخير والشّر" فخاضع لمصالحها في ميدان الحياة الواقعيّة "المدنيّة".
على أيّة حال فقد تم حصر المسألة بكونها علاقة إنسان بإنسان آخر، وكان لابدّ من ضبط العلاقة بين النّاس ضمن نظريّة عقد اجتماعي تعيّن الواقع المادّي كميدان للعلاقات وللمصالح المطروحة للتفاوض والمعالجة، وتؤكّد المساواة بين النّاس في الحريّة التي تعني في هذا المقام: السّيادة والسلطة، فنظّر الفلاسفة للجميع في نموذج "فرد حر ومساو لغيره".
فالعقد الاجتماعي المدني نظريّة في "العدالة الاجتماعيّة" بين الأفراد المتعاقدين في ضوء قيمتي" "الحريّة والمساواة" فإن مال العقد إلى تأكيد "المساواة" أكثر: أكّد على حريّة الجميع ثم قيّد الحريّة بقوانين فجاء العقد اشتراكيّاً. وإن مال العقد إلى الحريّة أكثر: أكّد على المساواة المبدئيّة بين المٌتعاقدين ثم صاغ قوانين تجعل الأفق المدني مفتوحاً لممارسة أقصى حدود الحريّة واهتمّ في الوقت ذاته بترميم حال الأقل قدرة على ممارسة الحريّة -كالفقراء- المرأة- المسنّون- ذوي الاحتياجات الخاصّة- ومجمل سيّئي الحظ-، فكان توجّه العقد ليبراليّا.
على أنّ كلا التّوجّهين: الاشتراكي والليبرالي بهذا المعنى ينطلقان من "الحريّة والمساواة" كقيم ليبراليّة اجتماعيّة وبالاستناد إليهما يجري تفسير الوجود الإنساني في نموذج "الفرد" وعلى ثلاثة مستويات:
طبيعي؛ حيث منشأ الحقوق. ومدني الاجتماع؛ حيث يبني النّاس عقدهم الاجتماعي. وسّياسي؛ منبثق عن المجتمع المدني.
للوقوف على مساواة مبدئيّة قام الفرنسيّون؛ إبّان ثورتهم؛ بإخراج المسألة الدينيّة من التعاطي المدني عبر "فصل الدين عن الدولة"؛ أما الإنجليز فسبقوهم بنحو قرن بـ: فصل الأفراد بذاتهم بين السلطة الرّوحيّة التي ستكفلها حقوق مدنيّة من نحو "حريّة المُعتقد -الضمير"، وبين السّلطة المدنيّة؛ تلك المعنيّة بشؤون العلاقات المصلحيّة اليوميّة على قاعدة مساواة مادية.
قدمنا لمسألة "العقد الاجتماعي" لمحاولة الوقوف موضوعيّاً على الطرح الذي قدمته "الإدارة الذّاتيّة لشمال وشرق سوريا" منتصف الشّهر الفائت، وأطلقت عليه مصطلح "العقد الاجتماعي المعدّل"؛ بغية تقديم نقد منهجي؛ فموضوعة العقد -في أساسها- ليست مماحكة سياسيّة، ويمكن تحديد موقف مبدئي منه بالاستناد إلى النقاط التالية:
قيم العقد: ومن المتوقّع ليبراليّا أن تكون العدالة الاجتماعيّة في ضوء قيمتي: "الحريّة والمساواة".
لكنّا نجدها: قيم الشهداء، القيم الأساسية للثورة، القيم الديمقراطية، قيم الحياة المنسجمة مع البيئة، قيم مشتركة، القيم والإرث الحضاري الديمقراطي للشرق الأوسط، قيم العيش المشترك وفق مبادئ الأمة الديمقراطيّة، القيم التاريخية للقبائل والعشائر بما يخدم التطور والتعايش السلمي بين المجتمع، ومناهضة كل الأعراف التي تتنافى مع العقد الاجتماعي.
لكن العقد لم يطرح بهذا المعنى لا قيمة ولا معيارا واضحاً وتكرار لفظ "قيمة" لا يصنع "قيمة"!
في تعيينات أعضاء العقد؛ ومن المتوقّع البناء على نموذج "الفرد الحر المساوي لغيره" وأن يكون التعاقد بين الأفراد. وجاء في المادة 31 "المواطن في الإدارة الذاتية الديمقراطية، هو فرد حر.." لكنّ تعيينات العقد لم تبنَ على التّعاقد بين الأفراد بل بين "مكونات- شعوب- فئات- أطياف- شرائح- كرد، عرب- سريان آشوريين، تركمان، أرمن، شركس، شيشان، مسلمين ومسيحيين وإيزيديين".
حيث لا تمايز بين مصالح الفرد ومصالح "المكوّن" وكأن الفرد هو هو "المكوّن" ولا يمكن أن تتناقض مصالح الفرد إلّا مع مصالح أبناء "المكوّن" الآخر، ومن ثمّ يجري استبدال الديمقراطية المباشرة بالتوافقيّة الممثّلة لـ "المكوّنات"، والكلام عن "التمثيل العادل" بين المكوّنات؛ دون تقديم تعريف محدد لـ "المكوّن" فهو تارة القبيلة - الشّباب - المرأة وهذا تعيين طبيعي غير خاضع لحريّة الاختيار أساسا، وتارة هو الطائفة -الديانة: وهذا هو الآخر شبه طبيعي ليس مطروحاً للتفاوض حوله وتحميه قيم من نحو "حريّة المعتقد- الضمير"!
في شرعيّة العقد: "تستمد الإدارة الذاتية الديمقراطية لشمال وشرق سوريا شرعيتها من إرادة الشعوب والمجموعات على أساس المشاركة الحرة المتساوية، ومن خلال الانتخابات الديمقراطية" فالعقد ليس لتمثيل الفرد ومصالحه وسلطته كما في المتوقّع؛ بل "الشّعوب- المكوّنات"، ولعدم تقديم تعريف واضح للمكوّن لا طريقة واضحة أيضاً في كيفيّة تمثيله أيضاً!
لم يجرِ تناول "الحريّة" بوصفها قيمة فرديّة؛ إنما مكوّناتيّة، ولا مساواة أو سعي إلى المساواة بين "المكوّنات" إنما تمايز بين حريّات "مباركة" وأخرى متوحّشة يلجمها العقد
في الموقف من الحريّة -المساواة: ومن المتوقّع الاستناد إلى معيار واحد: فيميل إلى قوننة الحريّة لصالح المساواة، أو إلى ترك فضاء الحريّة مشرعاً مع تأكيد المساواة.
لكن، وعلى النسق السّابق، لم يجرِ تناول "الحريّة" بوصفها قيمة فرديّة؛ إنما مكوّناتيّة، ولا مساواة أو سعي إلى المساواة بين "المكوّنات" إنما تمايز بين حريّات "مباركة" وأخرى متوحّشة يلجمها العقد، وإذا أفلتنا من مصيدة قبول ممارسة "صراع المكوّنات" هذه فلعلّنا نعثر على كوابح سلطويّة في وجه حريّة الأفراد بغض النظر عن "مكوّنهم" من مثل:
إمكانيّة تعارض حرية الفرد من المكوّن ذاته بما قد تعتبره جهة من المكوّن ذاته "مساساً بالمكوّن"، بل وتقييد مثل هذا بإخضاعه من الديمقراطية المباشرة التوافقيّة.
في الحقوق: ذكر "العقد" الالتزام بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان؛ وكان هذا ليكون جيداً لو تضمّن العقد تفسير "الإنسان الفرد الحر والمساوي" وعدالة حقوقه الطبيعيّة والمدنيّة والسياسيّة المنبعثة من المدنيّة، لكن الطّرح مبني على "المكوّنات" لا الأفراد، وتبدّت "اللا مساواة" كقاعدة عدالة في الأوراق المذكورة؛ فالمبالغة الشديدة في "حقوق المرأة" تركت "الرجل متّهماً ودون حقوق على مستوى الأفراد"، في حين ظهرت حقوق "مقدّسة وتاريخيّة" لمكوّنات بعينها، دون غيرها؛ والمقدّس ليس موضوع تعاقد!