(1) الشرق الأوسط وشمال إفريقيا
شكلت الأزمة الأوكرانية واحتمالات الغزو الروسي لأوكرانيا محور الاهتمام في التحليلات السياسية خلال الفترة الماضية، لما له من دور كبير في إعادة تشكيل النظام الدولي، ورسم إطار جديد في العلاقات الدولية من خلال استراتيجية جديدة يتبعها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تشكل استعادة أمجاد الاتحاد السوفييتي البائد هدفها الرئيسي، وقد بدأ بتطبيقها منذ عام 2007 باجتياح مناطق في جورجيا واقتطاع شبه جزيرة القرم ومن ثم التدخل العسكري في سوريا وليبيا.
ولأن كل شيء مباح في الحب والحرب كما يقول المثل البريطاني الشهير، فلن يتوانى الدب الروسي عن استخدام كل الأدوات بما فيها الأدوات الاقتصادية في هذه الأزمة، وخصوصا أنه إن نجح في فرض رؤيته على الغرب سيكون امتلك حق الفيتو على إمكانيات التوسع المستقبلية لحلف شمال الأطلسي من خلال منع انضمام أوكرانيا إليه.
تملك تداعيات الأزمة الأوكرانية تأثيرا كبيرا على أسواق الطاقة والغذاء في العالم وخصوصا أنها تأتي في وقت يعاني الاقتصاد العالمي من حالة عدم اليقين بين توقعات نمو مرتفعة بعد انحسار جائحة كورونا، وبين تضخم مفرط أصاب أكبر اقتصاديات العالم، فكبح النمو الاقتصادي وأصبح يهدد الاقتصاد العالمي بحالة من الركود التضخمي، وخصوصا أنه يتزامن مع أزمة في سلاسل التوريد العالمية وأزمة في أسواق الطاقة، خصوصا أن السبب الرئيس في التضخم في اقتصاد الولايات المتحدة ومنطقة اليورو وبريطانيا واليابان هو ارتفاع أسعار النفط والغاز.
في حال إقدام روسيا على غزو أوكرانيا سيفرض الغرب عقوبات قاسية على الاقتصاد الروسي، الأمر الذي سيستدعي رداً روسياً من خلال التأثير على إمدادات الغاز والنفط إلى الأسواق بهدف الضغط على أوروبا والولايات المتحدة. الرد الروسي المتوقع على العقوبات الغربية سيخلق فرصا اقتصادية وسياسية لبعض الدول وتهديدات سياسية واقتصادية لدول أخرى.
في هذه المقالة سنركز على أكبر الرابحين والخاسرين من الأزمة الأوكرانية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من وجهة نظر الاقتصاد السياسي من خلال تحليل الفرص المتاحة والتهديدات المتوقعة:
1- المملكة العربية السعودية:
تعتبر المملكة العربية السعودية من أكبر المستفيدين من الأزمة الأوكرانية وتأثيراتها على أسعار الطاقة، حيث من المتوقع أن يصل سعر برميل النفط في حال وقوع الغزو الروسي لأوكرانيا إلى حدود 150 دولاراً.
ووفقا لاتجاهات أسعار النفط الحالية فمن المتوقع أن تحقق السعودية مكاسب بقيمة 375 مليار دولار من بيع النفط في 2022 وهو يعادل أعلى إيراد نفطي في تاريخ المملكة، كما أنه سيساعدها في التخلص من أعباء جائحة كورونا حين انخفض سعر برميل النفط إلى نطاق سالب بالنسبة للاقتصاد السعودي.
ومن جهة أخرى تستخدم السعودية أسعار النفط المرتفعة بالإضافة إلى رفضها المتكرر للطلبات الأميركية لزيادة الانتاج لمعاقبة إدارة جو بايدن التي اعترفت بأن ميزانيات المواطنين الأميركيين أصبحت تعاني بشدة من وطأة التضخم المدفوع بارتفاع أسعار الطاقة عالميا، لكن هذا الأمر قد يدفع الإدارة الأميركية إلى توقيع اتفاق نووي ضعيف مع إيران بهدف الاستفادة من النفط الإيراني لتعويض النقص الحاصل في المعروض النفطي في الأسواق العالمية.
2- تركيا:
تشكل الأزمة الأوكرانية كابوسا شديدا للاقتصاد التركي الذي أصبح يعاني تضخما مفرطا بعد وصول الزيادة في أسعار المستهلكين إلى حدود 50 %.
تستورد تركيا 94% من احتياجاتها من الطاقة، الأمر الذي أدى إلى عجز مزمن في الحساب الجاري التركي، إن أي ارتفاع إضافي كبير في أسعار الغاز عالميا سيؤدي إلى مزيد من الارتفاع في التضخم ودخول الاقتصاد التركي في حالة من الركود التضخمي قد يؤدي إلى انكماش الناتج المحلي الإجمالي، كل هذا يأتي في ظل أجواء انتخابية رئاسية واستثمار المعارضة لتردي الأوضاع الاقتصادية سياسيا، هذا ما دفع الحكومة إلى تغيير أولوياتها من تحقيق الفائض في ميزان المدفوعات إلى محاربة التضخم، الأمر الذي يفسر التوقف عن سياسية التيسيير النقدي وخفض الفائدة التي تم تطبيقها نهاية العام الماضي.
3-قطر:
شكلت قطر الوجهة الأميركية الأولى من أجل تأمين مصدر بديل للغاز الروسي إلى أوروبا في حال تخفيض أو قطع روسيا لإمدادات الغاز، حيث تشير البيانات إلى أن أوروبا تستورد 40% من الغاز من روسيا، في حين يمر ثلث الغاز الأوروبي عبر أوكرانيا.
على الرغم من أن قطر أعربت عن عدم قدرتها على مساعدة الاتحاد الأوروبي كثيرا في حال وقوع الأزمة لأنها تنتج بكامل الطاقة الإنتاجية ومرتبطة بعقود توريد طويلة الأجل مع مستوردين آسيويين، إلا أن ارتفاع أسعار الغاز عالميا سيؤدي حكما إلى زيادة في الإيرادات المالية القطرية.
4- مصر:
يعتبر المسؤولون الأوروبيون أن مصر هي أحد أهم المصادر المهمة للقارة العجوز للتخلص من سيطرة الغاز الروسي، من خلال موانئها على البحر الأبيض المتوسط حيث سجلت مصر العام الماضي أعلى مستوى لها في 10 سنوات في مبيعات الغاز الطبيعي المسال، يأتي هذا المستوى من مبيعات الغاز من ضمن استراتيجية الحكومة المصرية لجعل مصر مركزاً إقليمياً لتجارة وتوزيع الغاز الطبيعي ولاعباً رئيسياً في سوق الغاز الطبيعي المسال.
ستفتح الأزمة الأوكرانية سوقاً جديداً لصادرات الغاز المصري في وقت مناسب، وخصوصا أن التوقعات تشير إلى أن الاقتصاد المصري سيعاني من أزمة مديونية شديدة بسبب ارتفاع كلفة الدين واعتماد الاقتصاد المصري بشكل كبير على الأموال الساخنة مع بدء الفيدرالي الأميركي رفع أسعار الفائدة المتوقع في مارس المقبل.
الخلاصة:
بالإضافة إلى العوائد الاقتصادية الإيجابية ستحاول السعودية الاستفادة من ارتفاع أسعار النفط الناجم عن الأزمة الأوكرانية سياسا للرد على الرئيس الأميركي جو بايدن الذي وعد في حملته الانتخابية بتحويل السعودية إلى دولة منبوذة من خلال عدم زيادة الإنتاج النفطي، الأمر الذي سيبقي التضخم مرتفعا في الولايات المتحدة وقد يؤثر على قرار الناخبين في انتخابات التجديد النصفي للكونغرس بعد أشهر.
أما تركيا فقد تضطر للتراجع عن نموذجها الاقتصادي الجديد وتعاود تشديد السياسة النقدية وترفع الفائدة في حال ارتفاع أسعار الغاز بشكل كبير وارتفاع التضخم وانكماش الاقتصاد التركي.
لكن يبقى السؤال هل ستشكل قطر ومصر فعلا البديل المفترض للغاز الروسي إلى أوروبا، وكيف سيؤثر ذلك على الاقتصاد العالمي والأهم كيف سيكون الرد الروسي على ذلك؟