نشأت على وهم قناعةٍ مفادها أن مقدار ثقافة المرء بمقدار مخزونه من المفردات، ولا سيما الغريبة أو غير المألوفة في الكلام اليومي، ولهذا كان يطيب لي أقدَم الشعر العربي الذي وصلنا، لأن فيه ما فيه من غرائب القول والتعبير والمفردات والدلالات.
لم أكن أميِّز بين الثقافة وبين الذاكرة والمحفوظات.
فتنتني لاميّة الشنفرى:
وَلِي دُونَكُمْ أَهْلُـون : سِيـدٌ عَمَلَّـسٌ وَأَرْقَطُ زُهْلُـولٌ وَعَرْفَـاءُ جَيْـأَلُ
هَتُـوفٌ مِنَ المُلْـسِ المُتُـونِ تَزِينُـها رَصَائِعُ قد نِيطَـتْ إليها وَمِحْمَـلُ
دَعَسْتُ على غَطْشٍ وَبَغْشٍ وَصُحْبَتـي سُعَـارٌ وإرْزِيـزٌ وَوَجْـرٌ وَأفَكَلُ
فكَّرتُ أن أكون واحداً من الصعاليك، بل إني كنت أعيش معهم في خيالي رغم حقيقة أن الأوان قد فات.
وكنتُ في طفولتي وشبابي الباكر أسمع بعض رجال منطقتنا يقولون، عمَّن يستخدم في حديثه كلمات غريبة أو معقدة، أنه "قارئ قاموس". ومع أن لا أحد في المنطقة سبق له أن اقتنى أو رأى قاموساً، إلا أنهم يعتقدون أن القاموس يتضمن أقصى ما تبلغه العلوم والمعارف.
قلت في نفسي: لا بدّ أن أُقَوْمِسَ الجميع، بما أستطيع وما لا أستطيع. كنت حينها كثير التردد إلى المركز الثقافي في مدينة حمص. هناك وجدتُ أكثر من نوع من القواميس، وأنا كنت مثل عطشان ألوى به القيظ، ثم وقع على جرّة رشحت تحت الشمس ما يكفي لجعل الماء بارداً ومنعشاً، فرحت أغبّ منها غبّاً.
في الواقع كنت مهجوساً بغريب الألفاظ في القواميس، وفي الشعر الجاهلي، وفي كل ما يقع تحت يدي من كنز مكتبة المركز الثقافي.
للأسف كان مسؤول المكتبة يتضايق من كثرة ما أطلب من دواوين الشعر قديمه وحديثه، وقد زدت في الطنبور نغماً بالقواميس ، إذ كنت في اليوم الواحد أقرأ كتاباً أو اثنين وأطلب أحد القواميس.
في تلك الفترة نظمت بيتاً شعرياً من وحشي الكلام وحوشيِّه، ولكنه ذو معنى، لكي أمزح به مع أصدقائي وأبهرهم، ونظمتُ بيتاً آخر مجلجل الوزن والإيقاع ولكن لا معاني لكلماته، مثله مثل شعر كثير وصلنا عن الأقدمين ولا أحد يستطيع تفكيك معانيه.
أيامها كان أحد المنشدين الشعبيين ممن يجيدون العتابا والمدائح النبوية، يمرّ بقريتنا بين حين وآخر تلبيةً لدعوة مأجورة بمناسبة اجتماعية كعرس أو عزاء، وأحياناً لإحياء المولد النبويّ. كان الرجل ممن يقول عنه أهل المنطقة بأنه "قارئ قاموس"، وذلك لسعة مخزونه من الكلمات ومعانيها.
ذات سهرة كان يحييها المنشد الشعبي قالوا له إنني شاعر، ولكن وفق "الموضة"، وبأنني أنشر قصائدي في الجرائد، فالتمعت عينا الرجل فرحاً بصيد ثمين، أو بهزيمة يلحقها بشاعر "عصري" مسكين.
كان مَن هُم من جيل أبي وجدي ينظرون إلى أبناء المدارس بنوع من الاستخفاف، إن لم نقل الانتقاص من الرجولة التي أكثر ما تظهر بالنسبة لهم وراء المحراث وفي العِتالة وسقاية الأرض، ولا سيما في الليل، أو عند مَسْكِ المنجل أو القظمة والمهدّة.
قال لي: "سأعطيك بيتاً من نشيد وأريدك أن تفسره لي يا ابن المدارس".
عبارة "أبناء المدارس" متداولة في منطقتنا كنوع من ازدراء من تركوا ديدن الآباء والأجداد. والغريب أن الأمّهات كُنَّ غالباً، على العكس من الآباء، يدفعن أبناءهن لمتابعة التعليم.
كانت كلمات البيت الذي ألقاه عليّ بسيطة باستثناء "الصلب والترائب" -وهي مقتبسة من إحدى آيات القرآن الكريم، فهما لفظتان صعبتان على من ثقافته اللغوية وقراءته للقرآن ضعيفة، إلا أنه كان امتحاناً سهلاً بالنسبة لواحد مثلي.
قلت: سأفسر لك كامل البيت إذا استطعت أن تفسر لي أحد بيتين من الشعر، كتبتُ أولهما للتسلية، وكتبت ثانيهما لاختبار البداهة والدهاء اللغويين. أقول في البيت الأول:
الحخدبُ السِّبَطْرُ والشمردلُ يا شجعماً لكنه قُذَعْمِلُ
تقوَّس حاجبا الرجل، وأخذ به الجريض زمناً، حتى قال:
هاتِ البيت الثاني.
قلت: إليكهُ
رشناءُ عَرمَضَها رِنداقُها خَززا فاستغشلتْ وَنَمَاً واستلغشت فَززَا
أسقط في يد الرجل ولم يحر جواباً، وانزعج أصحابه مني ولاموني كيف لا أحترم من هو أكبر مني عمراً وعلماً، فأحرجه أمام الملأ.
فيما بعد أخذت تتراجع سهرات العتابا والمدائح. وصول الكهرباء إلى المنطقة غيَّر اهتمامات الناس وأحوالهم وأحاديثهم وسيرهم. لم يعد الناس يعيرون بالاً لقصص الجن والضباع والأفاعي، ولكن كلما مر ذكر القاموس كان البعض يقول: عمّي شو بدَّك.. المدارس غير، وقارئ قاموس عن قارئ قاموس يفرق.