في فيلم سبوت لايت Spotlight للمخرج توماس مكارثي الصادر عام 2015، يشعر فريق التحقيق الاستقصائي الصحفي أنه حقق انتصاره المنشود، عندما أثبت قيام أحد رجال الدين المشتبه بهم بأفعال التحرش بالأطفال، ويقرر الأعضاء نشر القصة، لكن رئيس التحرير المشرف يرفض! وحين يحتد الجدال يرسم الأخير الفرق بين عقليتين؛ الأولى تركز على الأشخاص المحددين والظاهرين على السطح، فتحملهم المسؤولية، وتكتفي بالنصر عليها، بينما تستهدف الثانية النظام العميق بكامله، وتراكم الإثباتات الجزئية، حتى تكمل شد أنشوطة الحبل على النظام بكامله، فتسقطه، وتنتصر ليس على الأشخاص، بل على الخلفية الذهنية والمادية التي يستند إليها المجرمون فيكررون أفعالهم، مطمئنين إلى وجود حلفاء دائمين يحمونهم!
تبدو هذه الفكرة قاعدة تنفع دائماً في سياق العمل الصحفي، عندما تقوده الرؤى الاستراتيجية، وبحسب التفاصيل الإجرائية في كل حالة، يجب عدم التركيز على الأدوار الفردية، واعتبارها هي المقصد النهائي لعملية الكشف والتحري، بل لابد من النظر إلى ما وراء الأكمة كما يقال، وأن يتم استهداف الآلية الخفية التي تربط المصالح، وتحميها، وذلك من أجل ألا تتكرر الحوادث المشينة التي يرتكبها الأفراد.
لكنها أيضاً، يمكن أن تُسحب على سياق آخر، يتمثل في ممارسات يومية، قد يستشف منها ملامح تؤشر على عقلية تحكم الجماعة البشرية، ولا سيما حين تنطلق في ردود فعلها من واقعها المدمر، فتظهر من خلالها كشخصية محبطة، تعبر عن ذاتها من أرضية الحنق والغضب. ولعل واقعة موت وزير خارجية الولايات المتحدة السابق هنري كيسنجر، مثال واضح عما نقصده هنا، حيث جاءت ردود الفعل حول تاريخه متناقضة، بين من يمدحه بوصفه عقلاً سياسياً محنكاً، أدار حتى أيامه الأخيرة بوعي كامل، توجهات سياسية باقية منذ عشرات السنين. وبين من يهاجمه ويشنع في تاريخه وكذلك أصله الديني، وقبل هذا استراتيجيته التي خدمت أنظمة قمعية مستبدة، تحت شعار الحفاظ على مصالح الإدارة الأميركية.
هل توجب علينا شتم كيسنجر كفرد عملَ في الماكينة السياسية؟ أم أن نركز على دوره كأداة في نظام يحافظ على مصالح الشركات الكبرى ومراكز القوى؟
غير أن سؤالاً علينا ألا نغفل أهميته، ما برح يتكرر كلما مات شخص فاعل في التاريخ السياسي يقول: هل المشكلة في الشخص نفسه أم في النظام الذي يخدمه؟
هل توجب علينا شتم كيسنجر كفرد عملَ في الماكينة السياسية؟ أم أن نركز على دوره كأداة في نظام يحافظ على مصالح الشركات الكبرى ومراكز القوى؟
من يمدحون إرث كيسنجر يركزون على تفوقه في خدمة مصالح بلده، وينكشون أقوالاً صرح بها تظهر عدم تعصبه ليهوديته أو صهيونيته، ويعتبرون أن هذا الشيء يغبطه أمام التاريخ، لكنهم يتجاهلون أن القيمة المضافة التي أحدثها إنما هي كذلك وفق تقييمات المستفيدين منه، أي أولئك الذين يجعلون من الرضوخ عقلانية محبذة، ولا يفهمون السياسة إلا من زاوية كونها قدرة عالية على المناورة في سبيل النفاذ إلى مكاسب أكبر، دون الالتفات إلى من تطحنهم عجلاتها في طريقها، أو النظر إلى الكوارث التي تحدثها في تواريخ الشعوب!
وفي المقابل من يهجونه يركزون على مساهماته المشينة في إخضاع بلاد بكاملها لديكتاتوريات، قضت على أحلام الشعوب بالحرية والكرامة، وساهمت في جعل ديمقراطيتها وتمدنها سراباً، ومن بينها سوريا حيث ساهم في ترتيب شؤون نظام حافظ الأسد إقليمياً ودولياً بناء على علاقاته معه ومحادثاتهما الشهيرة، في بدايات عقد السبعينيات.
بالتأكيد لا يمكن دفع نُقاد كيسنجر الغاضبين بعيداً عن بؤر الصراع المحلية، وهي تضغط على عقولهم، وأرواحهم وحيواتهم، فينتج عن ذلك هذا الحنق الشديد.
تحليل المشهد السياسي المحلي في لحظة تأثير كيسنجر فيه، لن يكون مكتملاً إن لم ير القارئ خلفيات المصالح الدولية آنذاك
لكن يحتاج هؤلاء إن سمحوا لآذانهم أن تُفتح لسماع وجهات نظر أخرى، أن يدركوا حقيقة أن دور هذا "الكائن البغيض" لم يخرج عن توجهات عميقة للدولة الأميركية، مازالت، ورغم تبدل الأدوار بين الديمقراطيين والجمهوريين، وأيا كان أو يكن من يحكم البيت الأبيض، تتحكم بمصير العالم كله.
تحليل المشهد السياسي المحلي في لحظة تأثير كيسنجر فيه، لن يكون مكتملاً إن لم ير القارئ خلفيات المصالح الدولية آنذاك، وكيف تطابقت مع توجهات نخبة علمية وسياسية وجد أفرادها أن شرط نجاحهم إنما يتركز حول قدرتهم على توظيف ذكائهم في خدمة النخبة المتحكمة. وفي الوقت ذاته لابد من مقاربة صعود القوى المحلية لتولي زمان السلطة، في البلدان الخاضعة للهيمنة، واستخدامها أدوات قمعية للتحكم بمجتمعاتها، ما فرض عليها قبولاً مكشوفاً للإملاءات التي جلبها إليهم كيسنجر وأمثاله.
هذا ليس تبسيطاً للمسائل المعقدة التي شرّحها بعض من الأفذاذ في نقدهم للنظام المهيمن من مثل نعومي كلاين في كتابها المثير "عقيدة الصدمة" وغيرها طبعاً، لكنه إحالة توضيحية، تحاول المساهمة في تصويب الجهود لمعرفة إلى أين يجب أن ترمى السهام، خاصة وأن عملية تدمير الكيانات الوطنية والمجتمعات المحلية وفق "المذهب السياسي الكيسينجري"، خدمة للمشاريع "الإحلالية" التي نشهدها راهناً كشكل آخر للاستعمار، تفترض أن تتولى قوى محلية التعهد بكامله، وهذا ما تفعله الأنظمة المتوحشة المبعثرة حول العالم.