ربما لم تحترم السياسةُ القيمَ والأخلاقَ يوما كما يجب، لكن البشرية التي دفعت أثمانا باهظة في حروبها حاولت بعد الحرب العالمية الثانية أن تؤسس لمعايير أخلاقية وإنسانية، وأن تضع حداً لعبث ولا أخلاقية السياسة، فصاغت معاهدات واتفاقيات عدة تحمي البشر ظنا منها أنها تلجم بها وحشية السياسة، واندفاعها المسعور إلى المصالح مهما يكن الثمن.
اليوم تشهد البشرية أكثر فتراتها انحطاطا في علاقة السياسة بالأخلاق رغم كل الادعاءات بعكس ذلك، فليست الأمم المتحدة وكل المؤسسات التي تنبثق منها سوى ترسيخ لنظام سياسي عالمي غير عادل، تحكّم بالبشرية بعد الحرب العالمية الثانية، وعكس هيمنة القوى الكبرى على العالم، وليس أدلّ على لاعقلانية هذا النظام، ولا عدالته من امتلاك خمس دول لحق النقض "الفيتو"، لكن سيظل حلم البشرية بعالم أكثر عدلا واحتراما لكرامة الإنسان وحقوقه توقاً لا يمكن أن يتخلى عنه البشر.
في الدعوى التي رفعتها "جنوب إفريقيا" ضد "إسرائيل" متهمة إياها بجرائم إبادة جماعية بحق الشعب الفلسطيني يوجد وجهان، وجه سياسي قد يختلف كثيرون حول جدواه وأهميته، ووجه قيمي وأخلاقي أرى أنه بالغ الأهمية لجهة تأسيس وعي إنساني عام مناهض لبشاعة منطق القوة السائد، ورافض لهذه الهيمنة الفظة للمصالح المتوحشة على السياسة، ولهذا يمكن القول إن من يحاكم اليوم في لاهاي ليست إسرائيل، إنما يحاكم القانون الدولي المتهم بتخاذله وخضوعه لمنطق القوة ووقوفه إلى جانب التوحش.
لابد في البداية من الإشارة إلى أن محكمة العدل الدولية وهي المحكمة الوحيدة المعنية بفض النزاعات بين الدول، وهي تختلف عن محكمة الجنايات الدولية من حيث أنها لا تُعنى بالأفراد، وهي تصدر أحكامها بشكل مستقل لكنها لاتملك القدرة على إنفاذ قراراتها، وتعتمد في إنفاذها على مجلس الأمن، لكن يحق للأعضاء الخمسة الدائمين استعمال حق النقض ضد قرارتها، وهنا أيضا يتجلى أحد الوجوه البشعة لهذا النظام العالمي.
أول مرة في تاريخ الكيان الإسرائيلي تتم تعرية وفضح طبيعة هذا الكيان العنصرية المتوحشة أمام العالم وبهذا الوضوح، وتتناقل وسائل الإعلام العالمية جرائمه الفظيعة ونهجه العنصري
إذاً، حتى لو اتخذت محكمة العدل الدولية قرارا ما ضد إسرائيل فإن احتمال استعمال أميركا أو بريطانيا لحق النقض ضده سيكون مرجحا، وسيكون هذا النقض في حال حدوثه فضيحة سياسية وأخلاقية، لكن هل تبالي أميركا أو بريطانيا أو كل الدول القادرة على انتهاك الحقوق الدولية بهذا؟
بعيدا عن علاقة السياسة بالأخلاق، وبعيدا عن تخاذل القانون الدولي، فإن المحاكمة التي تجري في "لاهاي" مقر "محكمة العدل الدولية" هي محاكمة بالغة الأهمية، فلأول مرة في تاريخ الكيان الإسرائيلي تتم تعرية وفضح طبيعة هذا الكيان العنصرية المتوحشة أمام العالم وبهذا الوضوح، وتتناقل وسائل الإعلام العالمية جرائمه الفظيعة ونهجه العنصري وتصريحات قادته الخارجة عن أي منطق سياسي أو أخلاقي أو إنساني، ولأول مرة تطرح القضية الفلسطينية على حقيقتها بوصفها قضية شعب احتلت أرضه وشُرِّد ويباد ما تبقى منه على مرأى العالم كله.
وأنا أتابع جلسات محكمة العدل الدولية هذه، استوقفني خطاب سيدة من أعضاء الفريق القانوني لـ"جنوب إفريقيا"، بصفتها الدولة المدعية، لكنها في الحقيقة لا تمثل دولة فقط بل تمثل صرخة كل الباحثين عن الحق والحرية في هذا العالم، ليس في وجه إسرائيل فحسب، بل وفي وجه من يقف معها، في أثناء خطاب تلك السيدة كان الألم يرتسم عميقا في ملامحها وتعبيرات وجهها وهي تتحدث عن النكبة الفلسطينية الثانية، وفي صوتها لم يكن القهر الفلسطيني حاضرا فقط، بل كانت قصة القهر المريرة التي عاشها طويلا شعب جنوب إفريقيا في مرحلة الحكم العنصري حاضرة أيضاً.
يحاول شخص ما من المشاركين في المحكمة أن يمارس ذلك الابتزاز الذي يواجه كل من ينتقد إسرائيل، والمتجلي بتهمة مشروخة ملَّ العالم سماعها حول "معاداة السامية" أو إنكار "الهولوكوست" فيسألها: هل سمعتك بشكل صحيح، أنت تقولين أن المجازر التي تتحدث عن قطع رؤوس الأطفال (يقصد ما حاولت إسرائيل تسويقه عن قيام حماس في 7 أكتوبر بذبح الأطفال، وتبنته وسائل إعلام كبرى وتحدث به الرئيس الأميركي) هي أخبار زائفة وغير صحيحة، هل تعبرين بهذا عن موقف حكومة جنوب إفريقيا؟
كل الأدلة التي قدمت بهذا الخصوص قدمتها جهات غير حكومية، ونحن نعلم أن هناك كثيرا من الأخبار الزائفة التي تحاول إظهار الفلسطينيين بشكل سيئ
أتخيل أنها رغبت في تلك اللحظة أن تبصق في وجه من سألها ذلك السؤال، في نظرتها إليه قرأت قهر شعوب كثيرة من كذب الساسة، ومن عهرهم وهم يمارسون النفاق المعلن دون أي خجل، لكنها ترد عليه بنبرة صوتها الثابتة والواثقة:
كل الأدلة التي قدمت بهذا الخصوص قدمتها جهات غير حكومية، ونحن نعلم أن هناك كثيرا من الأخبار الزائفة التي تحاول إظهار الفلسطينيين بشكل سيئ، وقد اعترف حتى المتحدث باسم البيت الأبيض أن البيان الذي صدر عن أعلى مستوى كان في الواقع مبنيا على معلومات غير مؤكدة، هل يكفيك ردي هذا؟!
ثم واصلت: من المهم عندما نتحدث عن أمور كهذه أن نكون صادقين، وأن نستند إلى الحقيقة، والحقيقة هي أن الشعب الفلسطيني محروم من حقه في الوجود كبشر، محروم من حقه بالتمتع بالحريات والحقوق التي نحبها، وناضلنا نحن في جنوب إفريقيا من أجلها، واتحدنا كشعب متنوع عليها. وللأسف فإننا نرى اليوم في مجلسنا هذا من يعتقد أن هذه الحقوق هي حق للبعض فقط دون الآخرين، هذه ليست طريقتنا في جنوب إفريقيا، نحن نؤمن أن جميع البشر يتمتعون بحق الوجود بحرية، ويتمتعون بحق العدالة والإنسانية، وهذه هي الرسالة التي يجب أن تصدر عن مجلسنا هذا.
لم تستطع 153 دولة صوتت في الجمعية العامة للأمم المتحدة أن توقف جريمة الإبادة التي ترتكبها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني منذ 7 أكتوبر من السنة الماضية، والأرجح أن محكمة العدل الدولية لن تستطيع أيضا، لكن ما يجري اليوم يشبه إلى حد كبير ما جرى في جنوب إفريقيا قبل انهيار نظام الفصل العنصري فيها وكان حينذاك جزء كبير من العالم يتواطؤ معه، لكنه انهار، وها هم من انتصروا في معركتهم ضده يقودون العالم في مواجهة أخرى مع نظام لا يقل عنصرية وبشاعة.