icon
التغطية الحية

في فساد السلطة وإفسادها (في سوريا)

2024.08.01 | 05:31 دمشق

5675656
+A
حجم الخط
-A

خلال إقامتي، لمدّة ست سنواتٍ، في فرنسا وإنكلترا، لدراسة الماجستير والدكتوراه، أجريت زيارة وحيدة إلى سوريا، بعد ثلاثِ سنواتٍ من مغادرتي لها. وخلال تلك الزيارة، التقيتُ ببعض الأصدقاء والأصحاب وأدهشتني مواقفهم الإيجابية (جدًّا) من "حزب الله"، وأدهشهم موقفي السلبي والانتقادي منه.

في محاولةٍ لتفسير موقفي السلبي وغير المعقول، من وجهةِ نظره، رأى أحد الأصدقاء أنّني متأثرٌ بالإعلام الغربي/ الفرنسي، وأنّ موقفي ناتجٌ عن وجودي في الغرب/ فرنسا، وأنّ هناك أشخاصًا آخرين مقيمين في الغرب اتخذوا مواقف مشابهةً لموقفي، لهذا السبب. فسألته، حينها، بكلِّ جديةٍ: "إذا كنت تعتقد أنّ موقفي ناتجٌ عن التأثّر بالإعلام الفرنسي، ألّا يمكن أن يكون موقفك ناتجًا عن التأثّر بوجودك في سوريا وبإعلام جماعة المقاومة والممانعة"؟ بدا سؤالي له، وللآخرين الحاضرين آنذاك، جداليًّا، أو صداميًّا، وتمَّ تجنّب أخذه بجديةٍ.

عمومًا، لدى السلطات السياسية الحاكمة والقوى الاقتصادية والمؤسّسات الثقافية المهيمنة أدواتٌ ووسائل كثيرةٌ ومهمةٌ للتأثير في المجال العام، عن طريق الإعلام والتعليم/ التربية والقوانين والأجهزة الأمنية ...إلخ. ويمكن لتأثير هذه السلطات أن يزداد طردًا مع كونها مستبدةً وشموليةً، ومع مدى شدة هذا الاستبداد وتلك الشمولية، من ناحيةٍ أولى، ومع فترةِ استبدادها، من ناحيةٍ ثانيةٍ، ومع وجودِ مصلحةٍ وتوّجهٍ لديها في حصول مثل هذا التأثير، وقدرةٍ على القيام به، من جهةٍ ثالثةٍ. على أساس هذه المعايير، يمكن رؤية تفاوت التأثير السلبي للسلطات بين دولةٍ وأخرى. فوفقًا لتلك المعايير وعلاقتها بتأثيرِ السلطات، كان الوضع في سوريا أقل سوءًا (بكثيرٍ) من الوضع الحالي في تركمانستان وأوزبكستان وكوريا الشمالية، على سبيل المثال، حيث القمع ومحاولة هندسة المجتمع وفقًا لأيديولوجيا أحاديةٍ شموليةٍ بائسةٍ. في المقابل، الوضع السوري (كان)، من هذه الناحية وغيرها كثير، أسوأ بكثيرٍ من الوضع في فرنسا التي شدَّد الأشخاص المذكورون على تأثيرها السلبي في المقيمين فيها.

لم تسعَ السلطة الأسدية إلى تخريبِ العملية التعليمية ككلٍّ لتكون أداةً للتجهيل بدل أن تكون عمليةً لتزويد العلم والمعرفة وتلقيهما ولكن ممارساتها وسياساتها أفضت إلى هذه النتيجة

من المشاكل المهمة التي يواجهها الإنسان عمومًا، والموجود في الدول الاستبدادية خصوصًا، هو أنّه لا يدرك، غالبًا، ماهية الكثير من التأثيرات السلبية، والحدود المفروضة على وعيه، في هذا الخصوص، ولو أنّه كان مدركًا لها، لانحلّت المشكلة، على الأرجح، وزالت تلك التأثيرات، لدرجةٍ أو لأخرى. يمكن النظر إلى كلّ ذلك على أنّه سببٌ إضافيٌّ للقيام بمراجعةٍ نقديةٍ مستمرةٍ لذواتنا ومعارفنا وأفكارنا، وحتى ما نتبناه بوصفه مسلماتٍ وبديهياتٍ، مع الانفتاح على المختلف والمغاير والمنظورات الأخرى قدر المستطاع. قد تُفضي تلك المراجعات النقدية المستمرة إلى إضعافٍ جزئيٍّ ونسبيٍّ لوثوقيتنا، وحتى لثقتنا بذواتنا ومعارفنا وأحكامنا، لكنّها، في كلّ الأحوال، تفسح مجالًا أوسع لأن تكون تلك الثقة أكثر تسويغًا وتأسٌّسًا ومعقوليةً ومرونةً.

وليس نادرًا أن يفضي تمرّدنا على سلطةٍ ما إلى رفضٍ شاملٍ أو شموليٍّ لكلّ ما تتبناه تلك السلطة، أو نرى أنها ترتبط به (ارتباطًا وثيقًا). وجذرية هذا التمرّد أو الرفض الجذري قد تعني استمرار التأثير السلبي لتلك السلطة أكثر مما تعني تحرّرنا من ذلك التأثير. ويمكن اتخاذ موقف بعض "المعارضين السوريين" من إسرائيل والقضية الفلسطينية أنموذجًا لذلك. فقد أسهمتْ الرغبة في إظهارِ التمايز مع السلطة الأسدية والتمرّد عليها، في خصوصِ مسألةٍ تمثّل أحد أقانيم أيديولوجيته، في تبني "المعارضين المذكورين" لموقفٍ إيجابيٍّ من إسرائيل وسلبيٍّ من القضية الفلسطينية، ومن كلّ المواقف "المقاومة" و"الممانعة" والمناهضة للاحتلال الإسرائيلي. وهذه المواقف متأثرةٌ بالنظام، وناتجةٌ عنه، أكثر مما هي مختلفةٌ معه، أو متحرّرةٌ منه. فهي تفتقر إلى المبدئية الأخلاقية، والموضوعية المعرفية، وحتى إلى الحصافة أو الحكمة السياسية، ويصعب وصفها حتى بالفعل، لأنّها في ماهيتها مجرّد ردّ فعلٍ.

بالتأكيد، كان للسلطة الحاكمة في سوريا دورٌ سلبيٌّ كبيرٌ في العمليةِ التعليمية. ووفقًا لمقولةٍ لم يكن الدكتور إبراهيم رزوق، أحد رؤساء قسم الفلسفة في جامعة تشرين، "يخجل" من تكرارها: الأولوية عند هذه السلطة هي "للانتماء أو الولاء". وعلى هذا الأساس، كانت كفاءةُ العملية التعليمية، وجودةُ مستوى هذه العملية، تقعان في آخرِ سلّم الأولويات، أو خارج هذا السلّم، عمومًا. وقد طالت عمليات الإفساد كلّ مفاصل المؤسسات التعليمية، لدرجةٍ أو لأخرى. فقد كان لأمين فرع الحزب في الجامعة سلطةٌ كبيرةٌ أو الأكبر. ومن حيث المبدأ، أو بالفعل، كانت ممارسته للسلطة فاسدةً ومُفسدةً، عمومًا. وشُعب الحزب في الجامعة هي أوكارٌ للمخبرين وتقاريرهم؛ ومن أهم وظائفها زرع المخبرين بين الطلّاب وفي المحاضرات. وكذلك هو حال الهيئات الإدارية في الكلّيات الجامعية، التي كانت ذات مهامٍّ أمنيةٍ، بالدرجة الأولى، وتمارس سلطاتها التسلّطية والسلطوية على الطلاب أكثر بكثيرٍ من تعبيرها عن صوتِهم ومصالحهم، كما هو مفترض. والكلام ذاته يُقال في خصوصِ نقابة المعلمين التي تقف، غالبًا على الأقل، مع السلطاتِ الجامعية المهيمنة ضد المعلمين/ الأساتذة، بدلًا من الدفاع عنهم وتمثيل مصالحهم. وأنا أطلق هذه الأحكام استنادًا إلى عشرات أو مئات القصص التي حصلت معي، أو كنت شاهدًا عليها، في هذا الخصوص.

***

لم تسعَ السلطة الأسدية إلى تخريبِ العملية التعليمية ككلٍّ، لتكون أداةً للتجهيل، بدل أن تكون عمليةً لتزويد العلم والمعرفة وتلقيهما؛ لكن ممارساتها وسياساتها أفضت إلى هذه النتيجة. ففي خصوصِ المؤسـّسات التعليمية، الهدف الأساسي للسلطة هو ضبط تلك المؤسسات، بطلابها وأساتذتها والعاملين فيها ليكونوا خاضعين أو موالين لها، مع الاستئثارِ بقدرٍ كبيرٍ من خيرات هذه المؤسّسات وتوزيعها على حاشيتها. وعلى هذا الأساس، كانت التعيينات الإدارية، وجزءًا من التعيينات غير الإدارية، تتم، وفق منطق العصا والجزرة؛ فالجزرة للموالين، مع التهديدِ أو الضرب بالعصا لمن يُشكّ في ولائه أو لم يُظهر الولاء (الكامل) المطلوب. وبقيت بعض مسابقات تعيينات المدرسين في الجامعات نزيهةً على الأغلب، لكن كان هناك الكثير من الطرائق الموازية والالتفافية لتعيين المدعومين وتوزيع الخيرات عليهم. فإضافةً إلى وظيفة القائم بالأعمال، التي يهيمن عليها المدعومون غالبًا، هناك منحٌ وإيفاداتٌ خاصةٌ بالقيادة القطرية مثلًا، كما أنّ الترفيع والتعيين في المناصب المهمة (كعمادة الكلية والوكيل العلمي والإداري)، مرهونٌ بمدى الدعم الذي يحظى به الشخص أكثر بكثيرٍ من ارتباطه بمدى كفاءته لهذا المنصب. والحال ذاته في المدارس، وإنْ اختلفت شدّته بين سياقٍ وآخر. وإضافةً إلى الموافقةِ الأمنية الضرورية لتعيين أيّ أستاذٍ في المدارس، فإنّ حجم الواسطات العسكرية والأمنية في خصوص تعيين المدرّسين والمدرّسات كبيرٌ جدًا. وفي مساء أحد الأيام، سمحت لي الصدفة برؤية عددٍ كبيرٍ من الضباط أو العسكريين في مبنى وزارة التربية الذي لديهم مواعيد مع الوزير، للتوّسط عنده، لتعيين فلانٍ، ونقل علانٍ. طبعًا، هناك ضبّاطٌ لم يكونوا بحاجةٍ إلى الحضور، لتنفيذ طلباتهم، وقبول وساطتهم.

ما سبق لا ينفي وجود بعض بقع الضوء في هذا الجسم المؤسّساتي المُعتم. لكن تلك البقع كانت موجودةً، لعدم تعارضها مع غاياتِ السلطة المهيمنة أو لتقاطعها مع تلك الغايات، أو بالاستقلال الجزئي والنسبي عنها، وليس نتيجةً (مقصودةٍ) من ممارساتِ تلك السلطة. ومن تلك البقع المذكورة أذكر، على سبيل المثال، المؤتمرات الفلسفية السنوية، التي نظمها قسم الفلسفة لعدّة سنواتٍ، في جامعة دمشق، حين كان حامد خليل عميدًا لكلية الآداب في تلك الجامعة، وصادق جلال العظم رئيسًا لقسم الفلسفة فيها. وقد تمّ السماح بذلك التنظيم وقبول حضور شخصياتٍ عربيةٍ مهمةٍ لتلك المؤتمرات، بسبب صلات الشخصين المذكورين وغيرهما بشخصياتٍ أمنيةٍ نافذةٍ. وبعد غيابِ هذين الشخصين، بسبب وفاة حامد خليل، وهجرة صادق جلال العظم، تحوّلت تلك المؤتمرات، التي كانت المدرجات لا تتسع للراغبين في حضورها، إلى جلساتٍ يزيد، في بعض الأحيان، عدد منظميها عن عدد الحاضرين الآخرين فيها.

***

وفي المناصبِ التدريسية في الجامعة، هناك الدكتور الحاصل على شهادة الدكتوراه، والمعيد المتفوّق في مرحلة الإجازة، والذي يتم إيفاده للحصول على درجة الدكتوراه، والقائم بالأعمال الذي يمكن أن يترقى لاحقًا ليصل إلى ما يسمّى ﺑ "مشرف على الأعمال"، وتكون مهمته مساعدة الهيئة التدريسية والإدارية في القسم ببعضِ المهمات، كالإشرافِ على حلقاتِ البحث، أو تدريسِ قسم من مادة دراسية ما، مثلًا وخصوصًا. ويتم تعيين المعيد عادةً عن طريقِ مسابقةٍ تكون نزيهةً عمومًا، ويكون ترتيب الناجحين على أساسِ مجموع علاماتهم في مرحلةِ الإجازة. أمّا في مسابقةِ القائمين بالأعمال، فالتفوّق والحصول على معدَّل علامات عالٍ أو أعلى من بقية المتقدمين ليس ضروريًا أو كافيًا للنجاح في المسابقة، التي يمكن القول، باختصار، إنها مسابقة لمن لديهم "واسطات". وبعد تبخر حلم المعيدية، أصبحتُ مدرّسًا في ثانوياتِ حلب، لكن بقيت لديّ رغبةً في دراسة الماجستير والدكتوراه، والعمل في الجامعة وقسم الفلسفة خصوصًا. ولهذا، تقدّمت إلى مسابقة القائمين بالأعمال، في جامعة تشرين، وكانت لديّ، حينها، بعض الآمال بالنجاح، بناءً على كوني الخريج الأوّل على دفعتي، وصاحب أعلى معدلٍ في كلٍّ من الإجازة ودبلوم الدراسات العليا ودبلوم التأهيل التربوي. وقد كان ترتيبي الثاني بين المتقدّمين الناجحين في المسابقة. وقد علمت، لاحقًا، أنّه كان من المفترض تعيين قائمٍ واحدٍ بالأعمال، وكان الشخص المفترض تعيينه حزبيًّا مهمًا نسبيًّا، ولديه "واسطات" ثقيلة الوزن والدم. لكن حدث أن تدخلت واسطة مهمة (أمين الجامعة)، لصالح صديقٍ لي صاحب الترتيب الثالث بين المتقدّمين الناجحين في المسابقة. فتقرّر، حينها، تعيين الناجحين الثلاثة الأوائل قائمين بالأعمال في قسم الفلسفة. وهكذا شاءت الأقدار أن يتم تعييني قائمًا بالأعمال، بفضل وقوعي بين طرفين مدعومين.