في صعوبات فهم الانقسام المجتمعي السوري.. الانقسام السياسي مثالاً

2024.07.18 | 06:20 دمشق

54444444444444
+A
حجم الخط
-A

منذ أن انفجرت الثورة السورية في آذار 2011، وجد السوريون أنفسهم أمام أسئلة كثيرة ملحة كان ممنوعاً عليهم الخوض فيها، وكان مجرد الاقتراب منها كفيلاً بإدخال أي مقترب في متاهة تبدأ ولا تنتهي، وربما توصله إلى الموت. ولعل السؤال الأصعب في جملة هذه الأسئلة هو سؤال السياسة ودورها في الدولة والمجتمع.

في محاولة السوريين الإجابة عن سؤال السياسة الصعب تشابكت عوامل كثيرة، وكان من الصعب فك ترابطها بالمعنى النظري أو الفكري. فالسياسة، التي هي في جوهرها صيغة للعلاقة بين قوى المجتمع، وعلى الأخص علاقة "السلطة/الحاكم"، بـ"المجتمع/المحكوم"، وكيفية توزيع القوة والنفوذ داخل المجتمع، لم تكن في سوريا كذلك. اتخذت السياسة شكلاً مشوهاً تداخلت فيه عوامل كثيرة ربما جعلت من السياسة بمعناها الحقيقي مجرد واجهة هشة لعوامل أخرى شديدة الفعالية.

بتفصيل أكثر، إذا كان الانقسام المجتمعي الذي كشفته الثورة السورية متجلياً على نحو أشد في ثلاثة أوجه هي: الانقسام المجتمعي على خلفية طائفية، والانقسام المجتمعي على خلفية قومية، والانقسام المجتمعي على خلفية سياسية (هذا لا يعني عدم وجود انقسامات مجتمعية على خلفيات أخرى)، فإن قراءة الانقسام السياسي هي الأكثر تعقيداً فيما بينها. وهذا مرده لعوامل عدة، لعل أهمها هو انعكاس كل الانقسامات المجتمعية بقوة في الصيغة السياسية.

من البديهي أنه عندما نريد قراءة الانقسام السياسي في مجتمع ما، أن نبحث عن القوى السياسية التي تعكس مصالح قوى المجتمع، أي عن الأحزاب وبرامجها السياسية، وعن منظمات المجتمع المدني، وعن القوانين الناظمة للحياة السياسية، وشكل الدولة وما إلى ذلك. لكن ماذا سنفعل عندما تغيب كل هذه المحددات عن مجتمع ما، وعندما يحتكر حزب، ثم فرد، كل هذه المحددات فيصبح -الفرد- هو الأحزاب، وهو مصدر البرامج السياسية، وهو الناظم للحياة السياسية، وللحياة المدنية، وهو البرلمان، والقضاء، والحكومة؟ هذا ما حدث في سوريا بـ"صيغة الحزب" منذ أن وصل حزب "البعث" إلى السلطة بانقلابه العسكري 1963، ثم رسخ بـ"صيغة الفرد" بعد انقلاب حافظ الأسد العسكري وإحكام قبضته على مفاصل السلطة والمجتمع.

لا تموت السياسة في أي مجتمع مهما بلغت شدة القمع، ومهما اختزلت أو استبعدت، لكنها تتحول من صيغة إلى أخرى، وتنتقل حواملها وفق تركيبة المجتمع ومدى تطوره، وكيفية تمركز القوى فيه. ففي المجتمعات الحديثة، أزاحت السياسة مرجعية المرتكزات التي كانت قائمة ما قبل "الدولة"، واستبدلتها بمرتكزات جديدة حددت علاقة قوى المجتمع وتعبيراتها وصيغ صراعها أو تنافسها بنواظم وقوانين وعقد اجتماعي تضمنه الدولة الحديثة، وتضمن أيضاً علاقة أفراد المجتمع فيما بينهم من جهة، وفيما بينهم وبين السلطة من جهة أخرى. لكن في المجتمعات التي قُمعت بشدة ومُنعت فيها كل النواظم المحددة لعلاقة قوى المجتمع ببعضها، وغابت التعبيرات السياسية المعبرة عنها، فإن هذه المجتمعات لم تجد أمامها إلا الانتقال إلى صيغ أخرى ترتكز على مرجعيات كامنة في طبقات الثقافة الأقدم للمجتمع، كالطائفية أو القومية أو المناطقية أو العرقية وغير ذلك. وبالتالي يصبح أي حديث عن انقسام سياسي داخل هذه المجتمعات هو تعبير عن انقسامات أخرى.

وضع حكم عائلة الأسد السوريين جميعاً أمام سرديات ومظلوميات شديدة الحضور في حياتهم الراهنة

اليوم يتضح لكل المهتمين والباحثين والنخب السورية عموماً مدى عمق الأزمة التي تعيشها السياسة في سوريا، ليس لجهة فهمها أو غياب برامجها وقواها فحسب، بل لصعوبة تحديد منطلقاتها وعوامل قوتها أو ضعفها، ومدى استقرار محدداتها. فما يشكل في هذه اللحظة عاملاً رئيساً في توجهات أفراد المجتمع السوري قد يتراجع غداً، ويصبح ضعيف التأثير، وما يجمع السوريين اليوم قد يتحول غداً إلى عامل تفرقة. وما يتم تداوله بسهولة عن دوافع السوريين للقيام بثورتهم حول الحرية والكرامة ليس دقيقاً وإن كان يمثل مشتركاً عاماً. فالدوافع متعددة ومتناقضة أيضاً، وبالمقابل فإن من وقف محايداً أو معارضاً للثورة لا يمكن حصر دوافعه بالمتداول فقط. وهذا ما يضعنا جميعاً أمام معضلة حقيقية في دراسة وفهم أسباب الانقسام المجتمعي السوري.

ثمة صعوبة أخرى بالغة الأهمية تعترض البحث في أسباب الانقسام المجتمعي السوري سببها مسار الحدث السوري، وكيف تعاملت السلطة السورية ممثلة بعائلة الأسد مع السوريين خلال عقود حكمها، وعلى نحو أكثر تحديداً في السنوات التي أعقبت ولادة الثورة السورية. إذ وضع حكم عائلة الأسد السوريين جميعاً أمام سرديات ومظلوميات شديدة الحضور في حياتهم الراهنة، فحجم الدم والدمار والظلم، وما نتج عنه من تهجير وقتل ونهب، جعل من السياسة عند قسم ما مجرد واجهة للرغبة في الانتقام، أو استرداد الحق الضائع، وجعل منها بالمقابل عند قسم آخر مجرد واجهة للحماية، أو البحث عن أمان مهدد. كل هذا أخرج السياسة من حقلها الأهم الذي يبحث عن توافق مصالح قوى المجتمع وسبل تنظيمها من أجل مصلحة المجتمع ككل، ووضعها في متاريس الصراع الاجتماعي.

يمكن تلخيص هذه الصعوبة بعدم تطابق حدود الانقسام السياسي مع حدود انقسامات أخرى، هذا يضعف من حدة الانقسام ويجعله قابلاً للرتق أكثر.

وبالتالي فإن السياسة في هذه اللحظة السورية ليست أكثر من سلاح يستعمله السوريون من أجل سحق الآخر، والانتصار عليه، وليست منهجاً لنفي العنف، والعودة إلى البحث عن المصالح المشتركة، والاتفاق على ضوابط ونظم صراع القوى داخل المجتمع.

ثمة صعوبة أخرى تواجهنا في محاولة فهم الانقسام المجتمعي على خلفية الانقسام السياسي، وهي رغم أنها تشكل صعوبة في الفهم إلا إنها قد تحمل بعض الإيجابية مستقبلاً عندما يتجه السوريون لمحاولة اجتراح الحل السياسي. ويمكن تلخيص هذه الصعوبة بعدم تطابق حدود الانقسام السياسي مع حدود انقسامات أخرى، هذا يضعف من حدة الانقسام ويجعله قابلاً للرتق أكثر. لكن هذا لا يعني أن عدم تطابقه الحالي يعني انتفاء هذا التطابق دائماً، لا سيما أن جهات كثيرة داخلية وإقليمية ودولية قد ترى أن مصلحتها تتحقق في مطابقة حدود الانقسام السياسي مع حدود انقسامات أخرى كالطائفية مثلاً.

عموماً، في المجتمعات التي تغيب السياسة -بصفتها الناظم لعلاقة قوى المجتمع- عنها لفترات طويلة، وفي حال ترافق هذا الغياب مع انفجار مجتمعي عنفي، فإن الانقسام السياسي يصبح متبدلاً بتبدل ظروف ووقائع الصراع العنفي. وبالتالي تصبح قراءة أي من أوجه الانقسام المجتمعي بالغة الصعوبة. ومرة أخرى لا بد من القول إن غياب دور الأحزاب والنخب المجتمعية على تنوعها يفتح على احتمالات متنوعة جداً، ويضع أي مجتمع أمام احتمالات قد تكون بالغة السوء.