بداية لا بد من إشارةٍ إلى أن هذا المقال ليس توثيقاً لتاريخ الجيش السوري، وهو ما كنت قد قمت ببحث مطوّل وموثّق عنه، نُشر قبل 3 سنوات في منصة شقيقة بعنوان: (الجيش السوري.. من التأسيس إلى حافظ الأسد) يمكن العثور عليه بسهولة على محرك البحث، إنما تساؤلات وتقاطعات، في ذاكرةٍ سورية، عما آلت إليه أحوال جيش حمّله مؤسسوه الوطنيون أمانة حماية الديار، حالمين بوطن مستقل متطلع لأفق حضاري، لكن الانحرافات آلت به، وبتسارع وتقافزات غريبة الأطوار، وغير بعيدة عن رغبات كل ما يريده الضالعون في (لعبة الأمم)، إلى فواجع وكارثة كبرى للوطن، حين لم تكتف منظومته بما عاثت به من فساد وإفساد، بل أصرت بكل عناد الطغاة وغبائهم في اللحظات الفاصلة، ولعلها بحكم دور وظيفي، على التمترس خلف مصالحها منذ اثني عشر عاماً، حين اندلعت شرارة ثورة الشعب السوري إلى اليوم، غير عابئة بقتل وتنكيل وتدمير وإحراق، وتحويل وطن بكامله إلى ركام وخرائب.
تحلّ في الأول من شهر آب (أغسطس)، ذكرى تأسيس الجيش السوري الذي كان عند الرعيل الأول على الأقل، ذكرى مفخرة واعتزاز، قبل أن تتحول المسارات والأهداف، وهو ما يستوجب إلقاء نظرة على ذلك التاريخ وما سبقه لتشكيل صورة أوضح عن فوارق بين إرادات التأسيس وبين المآلات الوخيمة، وتساؤلات الذاكرة.
ضرورة إحداث جيش وطني في سوريا برز مع إحداث (المملكة السورية) التي أعلنها المؤتمر السوري العام في 8 آذار عام 1920، مملكة دستورية بصلاحيات محدودة للملك (فيصل الأول) وبحسب وعود الحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الأولى ورؤيتهم لتوازع غنيمتهم من الإمبراطورية العثمانية المنهارة، بستار رغبة العرب في الاستقلال وما أخفوه بداية عن العرب (باستثناء نخبة شاركتهم) من رغبات استعمارية جديدة اتخذت مسمى الانتداب وسواه من مسميات، وفرض إرادات، لا يعدمون سبيلها وهم القوة المنتصرة والراسمة.
بدأت محاولات تشكيل الجيش السوري مباشرة بعد إعلان الدولة (قبلها كانت هناك بعض القوات التي دخلت تحت مسمى الثورة العربية) ومن انضم إليها ممن لم يرحلوا مع الجيش العثماني. أوكلت مهمة تأسيس الجيش السوري الجديد وقيادته ووزارة الدفاع إلى الضابط الخبير (يوسف العظمة) الذي سارع إلى ردف نواته من المتطوعين بآلاف سيحتاج إليهم جيش الدولة الوليدة، عبر فرض التجنيد والخدمة الإلزامية المحددة زمنياً. ما تم لم ينل قبول فرنسا، وهي التي بموجب تفاهمات (سايكس - بيكو) ستفرض احتلالها الوصائي بتقطيع متفق على تقاسمه مع بريطانيا في رقعة المملكة السورية المعلنة من طرف واحد، فكان إنذار غورو الشهير باشتراطاته ومنها (حلّ الجيش)، ومن ثم ما استجره من تبعات انتهت باستشهاد (يوسف العظمة) وعديد ممن صمدوا في معركة ميسلون غرب دمشق، بعد معركة غير متكافئة سرّع نهايتها ما انطوت عليه من مخادعات بعضها يصنف في بنود (الخيانة)، كما تكشف روايات كانت مغيّبة ووثائق يتتالى ظهورها.
رضخت نخب سياسية لواقع الاحتلال بمبررات سوقتها، ورفضته نخب أيضاً سياسياً وعسكرياً بتآزر مع حركة مقاومة شعبية داخلية وثورات كان بعضها قد اشتعل في أكثر من بقعة، وهو ما أوصلها بعد سنوات من العمل المسلح المقاوم، خاصة بعد توحده في (الثورة السورية الكبرى) إلى استجابة من الفرنسيين، مقابل وقف الأعمال القتالية، لمطالب وطنية بقبول دستور جمهوري جديد، وإحداث كلية عسكرية وطنية لتخريج الضباط السوريين، اتخذت من مدينة حمص مقراً لها، وتم انتخاب (محمد علي العابد) ليكون أول رئيس للدولة السورية الجديدة، مع وعد باستقلال قريب، لم تلبث أن ماطلت فرنسا به مدعية أن نذر حرب عالمية جديدة تستدعي التريث، وفعلاً اندلعت الحرب لتغدو فرنسا ذاتها محتلة من القوات الألمانية، وتنشأ حركة مقاومة فرنسية (قوات فرنسا الحرة) التي اضطرت بعد حين، مع رغبتها في مساندة القوة العسكرية السورية الناشئة، وبنصح من حلفائها البريطانيين، إلى إعطاء وعد باستقلال فوري بمجرد إنهاء سيطرة الموالين لحكومة (فيشي) على الأرض السورية، وألقت طائراتها منشورات بهذا الوعد، فكانت الاستجابة الوطنية متسارعة ليتم طرد قوات فيشي لصالح الحلفاء، وأعلنت الحكومة الفرنسية إثر ذلك في اجتماع مع السياسيين السوريين ضمن جامعة دمشق، وبلسان مندوبها (الجنرال كاترو): (أن الوقت قد حان لوضع نهاية للانتداب والتفاوض حول شروط تحقيق سيادة تامة). استمرت المفاوضات حتى (أيلول/سبتمبر 1941) وأذيع بيان الاستقلال الذي جاء فيه (إن فرنسا تعترف بسوريا دولة حرة مستقلة ذات سيادة). اعترفت بريطانيا ودول أخرى بهذا الاستقلال مباشرة، والذي أعقبه إعادة العمل بالدستور وتولي (تاج الدين الحسيني) مهام رئاسة الجمهورية. استقلال سوريا إذن وإعلانه فرنسياً واعتراف بريطانيا به كان عام (1941)، لكن تطبيقه الواقعي على الأرض وجلاء آخر جندي فرنسي تأخر إلى ما بعد تحرير فرنسا ذاتها من الاحتلال الألماني ونهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945، حيث عادت المفاوضات لبحث إجراءات التنفيذ. طالبت فرنسا ببقاء القاعدتين الجويتين كما في معاهدة (1936) وبإشراف على تشكيل الجيش الوطني، وهو ما يرفضه الساسة السوريون لأن فرنسا نكثت بعهودها وسلمت لواء إسكندرون لتركيا (1939) وضمت مزيداً من الأقضية إلى جبل لبنان. ما يسجل هنا بحروف ناصعة لساسة الاستقلال، خاصة الرئيس شكري القوتلي ورئيس الوزراء وزير الدفاع سعد الله الجابري، الموقف الصلب في رفض أي وجود فرنسي أو تدخل على الرغم من التهديد باعتقالهما وقيام الطيران الفرنسي بقصف مبنى البرلمان وحاميته ( 29 أيار/مايو 1945) وما تبع ذلك من إصرار الرئيسين الذي كاد يودي بحياتهما، ما أدى وتحت ضغوط أطراف دولية أن اضطرت فرنسا للاستجابة خاصة مع اندلاع حركة مقاومة جديدة، فسارع الرئيسان لإصدار مرسوم وقعاه معاً، كل بصفته، يقضي بتأسيس الجيش السوري، الوطني كامل الاستقلال، في الأول من آب عام 1945. وسرعان ما صدر خلال الشهر ذاته الأمر الإداري (55/3) عن قيادة الأركان الحربية متضمناً كل التفاصيل الناظمة لتشكيلات الجيش السوري بفرقه وألويته وأفواجه وشعبه وما يتعلق بشؤونه واعتبارها واجبة التنفيذ من الأول من أيلول / سبتمبر 1945.
وعندما تم الجلاء كاملاً (17 نيسان 1946) كان الجيش السوري فعلياً، وحده القوة العسكرية الموجودة في الدولة المعترف بسيادتها، من دون وجودٍ لأي جندي محتل.
الحكومة برئاسة سعد الله الجابري، المحتفظ للأهمية بحقيبة الدفاع، أولت أهمية خاصة لما جاء في التقرير المتكامل الذي رفعه رئيس الأركان الزعيم (عبد الله عطفة) وشكلت على الفور لجاناً لشراء ما تستطيع من أسلحة ثقيلة من مخلفات جيوش الحلفاء في البلدان المجاورة والقريبة ومحاولات تنويع مصادر السلاح الجديد سواء بشكل مباشر أو عن طريق وسطاء فنجحت في بعض وفشلت في آخر، ما أبقى التسليح دون المستوى المأمول على أعتاب حرب تلوح نذرها في فلسطين. أما على صعيد التدريب فأرسل كثير من الضباط في بعثات للتدرب على أحدث التقنيات في مختلف التخصصات العسكرية ومنها دورات طيران، ولم يمض عامان حتى ارتفع مستوى الكفاءة في بعض التخصصات إلى درجة جيدة نسبياً لعل من شواهدها مطار المزة العسكري الذي ضاق بحركة طيرانه اليومية من طلعات تدريبية واستطلاعية على الطائرات البالغ عددها (24) معظمها هارفارد أميركية الصنع مخصصة للتدريب، ما استدعى فتح ثانية للطيران والتدريب في مطار النيرب العسكري في حلب. تزامن ذلك مع كثير من القوانين والمراسيم الناظمة والمنظمة للشأن العسكري مستفيدة من تجارب الجيوش المتطورة والأهم مرسوم الخدمة العسكرية الإلزامية الذي طبق لأول مرة نهاية عام 1947، بعد أشهر من وفاة الرئيس الجابري الذي سعى جاهداً لإصداره وإنفاذه. تجاوزت دفعة السوق الأولى عشرين ألفاً من الأفراد المجندين مع فتح باب التطوع للأطباء والمهندسين من خريجي الجامعة السورية بحسب الحاجة والاختصاص لتعيينهم ضباطاً عاملين برتبة ملازم أول بعد اتباعهم دورة عسكرية.
وثائق تلك المرحلة التي باتت متوفرة بكثرة وتفصيل، تشهد أن الجيش السوري كان وطنياً بحق، ولم يشهد أي تمييز بين أبناء الوطن الواحد المتطلع لدولة حضارية وبحماسة منقطعة النظير للذود عن حياضها في مرحلة تلوح فيها المخاطر والتهديدات. لوائح أسماء الضباط تعطي فكرة واضحة عن شمولية مختلف أطياف المجتمع السوري بطوائفه وأعراقه (من بين أسماء الضباط أكثر من ضابط أرمني وبمواقع قيادية) وهو ما أصرت عليه القيادة السياسية منذ استجابة فرنسا لإحداث الكلية العسكرية عام 1932، حيث تم رفض المتبع فرنسياً في تشكيل (قوات الشرق الخاصة) التي حرصت فيها فرنسا، وبخبراء استجلبتهم، على قبول نسب مضاعفة من الأقليات الدينية والعرقية، على حساب الأكثرية وأبناء الحواضر الكبرى فتم وقتذاك تعديل تلك النسب. جدير بالملاحظة أيضاً أن الضباط من الطائفة العلوية لم يكن لهم وجود بارز بين رتب الضباط القادة، مع عدد قليل في رتب الضباط حديثي الانتساب، ولعل مردَّ ذلك، إلى أن التعليم المؤهل لدخول الكلية العسكرية لم يكن متوفراً في مناطقهم الجبلية آنذاك، لكن تلك القلة الملحوظة ذلك الوقت سرعان ما ستنقلب عكساً لتغدو ظاهرة طاغية في مرحلة لاحقة.
المرحلة اللاحقة بضرباتها الموجعة المتتالية والمتسارعة أتت إثر حرب فلسطين بعد إعلان (قيام إسرائيل 1948) والحرب العربية الخاسرة للجيوش العربية التي لم يكن بينها جيش كامل الاستقلال غير الجيش السوري. انتهت الحرب بهزيمة على الرغم مما شهدته من بطولات، وما نتج عنها على امتداد الساحة الشعبية العربية، والسورية على وجه الخصوص، من غضب شعبي عارم، هزّ السلطات وسياسييها فتخبطت قراراتها، لتكون ذريعة لبعض القيادات العسكرية ذات النزعة المحبة للتزعم وطاعة أوامرهم بحسب تركيبتها النفسية وتربيتها العسكرية، وفي وسط عالمي خارج من الحرب بشعبية عارمة لشخصيات (زعامية كارزمية) منها قيادات عسكرية وصلت للحكم في بلدانها، ومع معرفة الضالعين في (لعبة الأمم) بقابلية أصحاب تلك النزعات من العسكريين للعب أدوار وظيفية، كان أول الانحرافات عبر انقلاب (حسني الزعيم) الذي كان بدوافع أميركية لتمرير صفقة خط أنابيب (التابلاين) وتوقيع اتفاقية الهدنة، لتكرّ بعدها سبحة الانقلابات، ليس في سوريا فحسب، بل في عديد من الدول العربية، حيث لا يعدم كل ضابط قيادي طامح للحكم، ومنفذ لأجندة دولة كبرى، اختراع أي سبب يدّعي تخليص الشعب من فساد الساسة وخصوماتهم، واعداً أن يصحح المسار كواجب على أن يعود بعدها لممارسة دوره جندياً في جيش بلاده، لكنه ما إن يمسك بكرسي الحكم حتى يلتصق به، ولا تتم إزاحته إلا بانقلاب جديد لأشباهه.
مرحلة الانقلابات المتتالية الأولى ستغدو في السياق التاريخي بعد أقلَّ من عقدين، صورة تكاد تكون مستوعبة أمام التداعيات اللاحقة في مرحلة ستينيات القرن الماضي بعد انقلاب البعث، ثم انقلابات البعثيين على بعضهم بعضاً، بواقعها المخيف والمفجع ونتائجها الكارثية التي بدأت بتحويل الجيش من جيش وطني إلى عقائدي أولاً (عقيدة الحزب كما في كل الأنظمة الشمولية)، ثم إلى طائفي تقوده أقليات (نواتها اللجنة العسكرية) لتتبعها تصفية ثالثة بإقصاء الشركاء واستفراد طائفة، ومن ثم لتنتهي في عام 1970 بحكم مطلق لآخر الانقلابيين (حافظ الأسد) الذي ختم المطاف بتحويل الجيش وبشكل معلن تتباهى به الشعارات المرفوعة والمخطوطة بأناقة بأنه (جيش أسدي). لا شكّ أن الحكم الديكتاتوري بعد مراحل من انقلابات مستمرة، قد يحقق نوعاً من استقرار مرحلي يشبه مرحلة الهدنة وسط الحروب، لكن مآلاته لا بد أن تعطي في النهاية حصاد نبتها الأشرّ. مراحل الانقلابات وما شهدته من إقصاءات مستمرة لقيادات وضباط يتم تعويضهم بقفزات غير معهودة في التراتبية العسكرية، بل ومنح رتب ضباط لمدنيين بعد دورة عسكرية لأيام كما حدث مع بدايات حكم البعث، ولصالح طائفة القياديين، تجاوزها الجيش الأسدي باستقرار حكمه لسنين طويلة، لكن فساداً جديداً (مسكوتاً عنه) برز في صفوف القيادات الجديدة لضمان ولائها، أدناه ما يعرف بـ (التفييش)، والمسمى بالمناسبة فصيح اصطلاحاً، أما أعلاه فكان سرقات واستلاباً وبناءَ قصور وشراكات تجارية ومالية دخلتها تلك القيادات العسكرية النافذة، تحت نظر المنظومة الأمنية المتحكمة بخيوط اللعبة، وبما يبقي ملف فساد أي قائد عسكري جاهزاً للتلويح به كل لحظة، وهو الذي سمن بعد جوع وصار له مقامه، فيما حال المواطن محكوم بالقمع ودفع الضرائب.
لم ينته المآل الكارثي لـ (حكم العسكر).. ولا لكل تلك الخصوصية السورية التي استعرضنا بعض تحولاتها المتسارعة في الجيش بتحويله القسري والإجرامي إلى العقائدية فالطائفية فالعصبوية، الجريمة الكبرى التي قل نظيرها عبر التاريخ كانت بعد أن ثار الشعب السوري على ذلك الواقع متطلعاً إلى حياة حرة كريمة، كما في محيطه العالمي، وبما يليق بالمشهود له من دور في صنع الحضارات منذ فجر التاريخ، فكان إصرار من بقي في ذلك الجيش بما تم العمل عليه عبر عقود، من تدجين وفساد وإفساد، وترغيب يفوقه الترهيب، على تدمير بنيان الوطن ببشره وحجره وشجره، بل ومحاولات محو ذاكرته بقديمها وحديثها، كما كل طغيان من همج التاريخ، غير مبالٍ لا بأفعاله التي فاقت كل حدود الإجرام الحربي والإنساني، بل وبلا مبالاة بالمخاطر القادمة لكل من استجلبهم وهو ينهار للإبقاء عليه، متظاهراً بالتماسك فوق الخراب، ومتجاهلاً ما تحته من نخر، بل ومشاركاً فيه عبر ضلوع كبار قادته في التحول بالدولة إلى وكر عصابة للمخدرات وكل الآفات. ذلك ما يعلمه، أكثر منّا، كل ضابط خدم في ذلك الجيش وآثر بعدها ألا يشارك في أبشع جريمة ضد وطنه وشعبه، ويعلمه أكثر من بقي في صفوفه.