خلال عملي في عددٍ من الجامعات الألمانية، في السنوات الأخيرة، كانت تصلني، أسبوعيًّا على الأقل، إيميلاتٌ من عدد من الجهات الإيرانية والتركية، الاكاديمية أو الثقافية أو المرتبطة بدور نشرٍ، للتعريف بنشاطاتها ومطبوعاتها، والدعوة إلى التعاون معها. ولا أذكر، على مر هذه السنين، أنه وصلني، إلى بريدي الإلكتروني الجامعي، أي إيميلٍ من أي جهة عربيةٍ، أكاديميةٍ أو غير أكاديميةٍ، لهذا الغرض، مع وجود استثناءاتٍ نادرةٍ جدًّا، من بينها استثناءٌ متمثلٌ في إيميلٍ من معهد الدوحة أو "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، لإعلامي بوجود مؤتمرٍ في الدوحة، لطلبة الدكتوراه العرب في الجامعات الأوروبية. وقد لاحظت الأمر ذاته خلال دراستي وإقامتي في فرنسا وبريطانيا. وقد أخبرني أحد الأصدقاء أن هذا هو الحال نفسه، تقريبًا، في أمريكا، أيضًا، وأن تعاون الأكاديميين الأتراك، على سبيل المثال، وحصولهم على دعم مؤسساتٍ تركيةٍ مكنهم من زيادة فرص حضورهم في الأكاديميات الأمريكية، وأسهم في نجاحهم في إنشاء أكثر من كرسي مخصص للدراسات العثمانية/ التركية في أكثر من جامعةٍ أمريكيةٍ (على حساب الدراسات العربية أحيانًا).
العمل الثقافي العربي في الشتات أو خارج "العالم العربي" فرديٌّ غالبًا و/ أو لا يتمتع بصلاتٍ قويةٍ مع مؤسسات ذلك العالم وسلطاته، وهذا ما يجعله، غالبًا، مجموع جهودٍ مبعثرةٍ تكون، أحيانًا، على الأقل، "خبط عشواءٍ من تصب تحييه، ومن تخطئ يموت ولا يهرم". أما اهتمام السلطات/ المؤسسات العربية بتعليم اللغة العربية للعرب أو الأجانب في أوروبا على سبيل المثال، فهو معدومٌ كليةً تقريبًا؛ ولهذا يعاني العرب المغتربون كثيرًا في تعليم أولادهم اللغة العربية. ولولا دعم الدول والمؤسسات في أوروبا، لكان الأمر أقرب إلى المستحيل، ولاقتصر على زوايا المساجد وبعض المدارس الخاصة المبعثرة هنا وهناك.
العلاقة مع اللغة الأم علاقة حميمةٌ عمومًا ويصعب على الإنسان قطع حبل السرة معها، ولهذا يحرص كثيرون على الحفاظ على صلة الرحم اللغوية ويرون فيها شريانًا حيويًّا لحياتهم
في كتابه الرائد "الفكر العربي في عصر النهضة"، كتب ألبرت حوراني: "العرب أشد شعوب الأرض إحساسًا بلغتهم، فهي ليست، في نظرهم، أعظم فنونهم وحسب، بل وخيرهم المشترك. ولو سألت معظمهم تعريف ما يعنونه "بالأمة العربية"، لبادروك إلى القول إنها تشمل جميع الناطقين بالضاد". ومع نفوري من الحديث عن الخصوصيات، وعما يشبه الماهيات، أشعر بميلٍ للقول بوجود خصوصيةٍ ما في علاقة العرب مع لغتهم. وثمة من يشعر بما يشبه الاغتراب واليتم بعيدًا عن اللغة العربية، ويشير إلى أن إحساسه باللغة العربية ليس موجودًا مع أي لغةٍ أخرى اضطرته الأقدار إلى تعلمها وممارستها. ويبلغ الشعور بالاغتراب واليتم ذروته، ويبلغ فقدان الإحساس باللغة الأجنبية أقصى مداه، عند الاضطرار إلى الكتابة الفكرية أو الأدبية بتلك اللغة الأجنبية.
والعلاقة مع اللغة الأم علاقة حميمةٌ، عمومًا، ويصعب على الإنسان قطع حبل السرة معها، ولهذا يحرص كثيرون على الحفاظ على صلة الرحم اللغوية، ويرون فيها شريانًا حيويًّا لحياتهم (الفكرية والاجتماعية). ومع حالة الشتات التي يعيشها السوريون منذ سنواتٍ، للأسباب المعروفة، أصبح هناك ملايين من السوريين المضطرين إلى تعلم لغات البلدان التي يقيمون فيها: التركية، أو الألمانية، أو الفرنسية، او الإنكليزية ... إلخ. وعلى الرغم من هذا الاضطرار، وبسببه، بقيت اللغة العربية هي اللغة الأولى والمفضلة لدى كثيرين، من الناحية الاجتماعية والفكرية على الأقل. لكن هذا التفضيل خضع لضغوطاتٍ كبيرةٍ وكثيرةٍ، نتيجة المحيط اللغوي المختلف. في المقابل، انطلقت بعض المبادرات لتأسيس مؤسساتٍ تساعد على استمرار التواصل والتفكير والاستمتاع باللغة العربية وتعليمها أو تعلمها. ومن بين المبادرات الحديثة، في هذا الخصوص، يمكن الإشارة إلى مبادرتين ظهرتا، (مؤخرًا)، في ألمانيا: "منتدى تفاكر للحوار والثقافة" ومجلة "مريومة". وفي الحالتين، برزت المسائل المتعلقة بتجديد اللغة العربية ومعاصرتها (عند المهاجرين).
***
منتدى "تفاكُر" جمعيةٌ مدنيةٌ يعمل عددٌ من السوريين (وغير السوريين) المقيمين في ألمانيا على تأسيسها، لإقامة نشاطاتٍ فكريةٍ باللغة العربية، بالإضافة إلى نشاطاتٍ فكريةٍ باللغتين الألمانية والإنكليزية. وربما كان للمناقشات الحامية التي درات في خصوص اسمها دلالةٌ مهمةٌ في هذا الخصوص. فبالإضافة إلى اسم "تفاكُر"، كان هناك أسماءٌ أخرى فُكِّر في إطلاقها على الجمعية الوليدة. ومن بين هذه الأسماء مقابسات أو تقابس، وحوار، وجسور. وفي حين أن الاعتراضات على الاسمين الأخيرين قد تمحورت حول كونهما مكررين إلى حد الابتذال، فقد اعترض "كثيرون" على اسمي "تفاكُر" و"مقابسات/ تقابس"، بدعوى أنهما غريبين وغير مألوفين، ورأوا أن الاسم ينبغي ان يكون مألوفًا، من حيث المبنى، ويؤدي وظيفة التعريف بالجمعية، من حيث المعنى. وعلى هذا الأساس، في المقابل، رأوا متبنو اسم "تفاكر/ مقابسات" أن مصطلحي أو مفهومي "تفاكُر" و"تقابُس" يحيلان على معنيين مناسبين جدًّا حيث يشيران إلى تفاعلٍ فكريٍّ بين طرفين يحدث فيه إفادةٌ واستفادةٌ، او أخذٌ وعطاءٌ، بين طرفين أو أكثر. وينبغي ألا يكون عدم ألفتنا بهذه الكلمة او تلك سببًا في استبعادها، لأن الابتعاد عن استخدام مثل هذه الكلمات العربية "الغريبة، والاقتصار على ما هو مألوفٌ ومكررٌ أو مستخدمٌ على نطاقٍ واسعٍ، يحرمنا ويحرِم لغتنا من الكثير من المباني والمعاني المهمة، ويزيد من حالة الفقر والإفقار التي تتعرض لها اللغة العربية المتداولة.
ثمة استراتيجيتان أو فلسفتان في تجديد اللغة العربية وتطويرها. وإذا عدنا إلى عصر النهضة العربية الحديثة، نجد أن بعض أعلام هذه النهضة أسهموا إسهامًا كبيرًا في تحديث أو تجديد اللغة العربية وتطويرها ومسايرتها للتطور المعرفي والتاريخي. فإضافةً إلى ناصيف اليازجي الذي كان عاشقًا متيَّمًا باللغة العربية، إلى درجة رفضه "الإشراك بها"، أو امتناعه عن تعلم اللغة العربية، يبرز اسما أحمد فارس الشدياق، صاحب كتاب "الساق على الساق في ما هو الفارياق"، و(المعلم) بطرس البستاني صاحب أول قاموسٍ عصريٍّ في اللغة العربية، وأول موسوعةٍ عربيةٍ سماها "دائرة المعارف: قاموسٌ عامٌّ لكل فنٍّ ومطلبٍ". وفي حين أن استراتيجية الشدياق قد ركَّزت بالدرجة الأولى على استعادة الكلمات العربية المهجورة، وإحيائها ووضعها في التداول، بعد أن "أصبحت عظامها رميمًا"، أعطت استراتيجية البستاني أولويةً لنحت كلماتٍ جديدةٍ أو لاستخدام الكلمات القديمة بمعانٍ جديدةٍ، مستحدثةٍ، لمواكبة مستجدات العصر. وبعيدًا عن النزعة التلفيقية، أرى إمكانية وضرورة الاستفادة من كلتا الاستراتيجيتين، في تجديد اللغة العربية وتطويرها.
***
مجلة “مريومة” للأطفال باللغة العربية انطلقت من ألمانيا، عام 2017، وأصدرت أربعة أعدادٍ، ثم اضطرت إلى التوقف بسبب "تعقيدات الحياة الجديدة وتحدياتها"، كما جاء في موقع المجلة. لكنها عادت، مؤخرًا، بدعمٍ من شبكة "الناجون، وأصدرت، في ديسمبر/ كانون الأول من عام 2023، أول أعدادها في حلتها الجديدة. وفي جلسةٍ نقاشيةٍ حول هذه المجلة، طُرحت فكرة مدى (عدم) فائدة تعلم أطفال المهاجرين اللغة العربية، وأن هذه اللغة قد أصبحت متقادمةً وغير متناغمةٍ، مبنىً ومعنىً، مع العصر الراهن عمومًا. وانطلاقًا من هذه الرؤية السلبية للغة العربية، ثمة من يرى أنه قد لا يكون ضروريًّا لأطفال المهاجرين العرب أن يتعلموا تلك اللغة، لأنها لن تكون مفيدةً (جدًّا) لهم، في حياتهم، نظرًا إلى أنهم يقيمون في دول غير ناطقةٍ باللغة العربية.
في مناقشة هذه الرؤية، أرى ضرورة التشديد على أن الدراسات النظرية والخبرات العملية تبينان قدرة الطفل على تعلم أكثر من لغةٍ (أربع لغات على الأقل) بيسرٍ كبيرٍ، مقارنة بقدرة الشخص الراشد. وتعلم لغةٍ إضافيةٍ أمرٌ مفيدٌ، من حيث المبدأ ويفتح له آفاقًا معرفيةً وثقافيةً ومهنيةً متنوعةً. ومن ناحيةٍ أخرى، تعلُّم أطفال المهاجرين الناطقين باللغة العربية لغة آبائهم وأمهاتهم أمرٌ مفيدٌ في التواصل الاجتماعي مع الأسرة الصغيرة والكبيرة لهؤلاء الأطفال. وثمة الكثير من الشواهد على أن عدم تعلم هؤلاء الأطفال لغة أهلهم الأم يسهم في إضعاف روابطهم مع أهاليهم وأقاربهم ومعارفهم.
أما في خصوص التخلف، المزعوم أو الفعلي، للغة العربية، فينبغي التشديد على أنه ليس ناتجًا عن بنيتها أو ماهيتها أو طبيعتها، بالدرجة الأولى، وإنما هو انعكاسٌ لمشكلات واقع الناطقين بها. ومن البديهي والمؤكد أن التخلف على صعيد إنتاج المعرفة وتداولها، والجمود على صعيد الأخلاق ونقدها، والتقديس (الأعمى) على صعيد تنظيرات الديانة الإسلامية وتوظيفاتها وممارسات شيوخها، والاستبداد والعنف على صعيد السياسة وممارستها، كل ذلك وغيره يتعكس سلبًا، نظريًّا وعمليًّا، معرفيًّا وقيميًّا، على اللغة التي نتداولها. وإنقاذ اللغة العربية يتطلب الاشتغال بها وفيها بالتأكيد، ويتطلب، بالدرجة الأولى تغيراتٌ أو تغييراتٌ في واقع الناطقين بها. وفي كل الأحوال، ينبغي العمل على المسارين، بطريقةٍ تكامليةٍ قدر المستطاع.
قد يختار بعض المهاجرين الناطقين بالعربية مغادرة البناء المتهاوي، وهجران السفينة الغارقة ببطءٍ، أو التشجيع على هذه المغادرة وهذا الهجران. ومن وجهة نظري، لا يحق لأحد لومهم على ذلك. لكنَّ آخرين يعتقدون بارتباطهم، ارتباطًا خاصًّا وحميميًّا، بهذه اللغة، وبأنه ليس لهم غير هذه اللغة، وليس لهذه اللغة غيرهم، وأنه على عاتقهم، خصوصًا أو تحديدًا، تقع مسؤولية إنقاذ هذه اللغة من التخلف المركَّب المشار إليه آنفًا. وبالتأكيد، لا يحق لأحد لوم هؤلاء، أيضًا، على ارتباطهم المعرفي والاجتماعي والنفسي العاطفي بلغةٍ يعتبرونها ليس أمًّا فحسب، بل وأبًا، أيضًا.