لا يفرحني جوع سوري في أي مكان على هذه البسيطة، ولا تشرده في أي مدينة كانت، ولا برد أطفال المخيمات، ولا حريق خيامهم، ولا حريق سوق قديم في دمشق، ولا إعصار يضرب ساحل اللاذقية وجبلة، ولا هزة أرضية في القرداحة، ولا غرق طفل في بحيرة مزيريب، ولا أي حدث مأساوي يصيب سورياً داخل البلاد وخارجها.. لا يفرحني كل هذا ليس لأنني ملاك ولا أحمل عقدة الرحيل القسري واللجوء، وليس لأنني سوري سويّ النشأة والتفكير لكنه الهروب من أمراض جديدة سورية بامتياز سببتها الحرب، وآلة القتل المتوحشة، والظلم والاستبداد، وأقساها أمراض نفسية تستفحل في ذواتنا التي تشوهت على مدى عشر سنوات.. منها على سبيل المثال لا الحصر.. داء الشماتة.
ليس مطلوباً من أحد أن ينسى وجعه وفقده ومظلوميته، ولا أن يسامح في دمٍ ومال وعرض، ولا أن يحتضن القاتل كما لو أن الأمس لم يكن بويله ودموعه، وعليه دائماً أن يدعو للقصاص وعودة الحق لأصحابه، وأن لا يترك وسيلة لاستعادة ما سلب منه، وهذا يجب أن لا يكون فردياً بل على المؤسسات الحقوقية والإنسانية أن تطالب بمحاكمة مجرمي الحرب والشبيحة والعفيشة واللصوص أياً كانت انتماءاتهم وولائهم، ومهما كانت راياتهم وشعاراتهم، ولكن كل هذا لا يعني أبداً أن تفرح للفقر والجوع والبرد الذي ينال من السوريين في وطنهم وخارجه.
لطوابير المكررة والتي تتسع يوماً بعد آخر هي للبسطاء من أبناء سوريا الذين يعانون الويلات والقهر، وهم هكذا ليس لأنهم صمتوا بل لأنهم أعجز من أن يسافروا ويهربوا ويصرخوا
قد يخرج أحد ليقول هامساً أو ساخطاً: إن أول الشامتين كانوا هم.. وهم المؤيدون الذين دعوا إلى إبادة الشجر والحجر في المناطق الخارجة عن السيطرة الأسدية، وهم من يرفعون مع ميليشيات الموت شعارات القتل والذبح، وهم من شمتوا بموت أطفال الغوطة، وسخروا من حصارات المدن المتتالية، وهم من قصفوا الأفران والمدارس والمشافي، وداسوا على الجثث، وكذلك فعلت بعض الميليشيات التي تحمل طابعاً قومياً انفصالياً، وفعل أيضاً متشددوا الثورة أو من كانوا تحت راياتها المتعددة.. كل هذا حصل وبمستويات مختلفة من الموت والحصار والتجويع.. ولكنك لست مثلهم.. ألم تخرج عليهم ومنهم لأنهم مستبدون وقتلة وشبيحة؟.
ثم ألست معي في أن الطوابير المكررة والتي تتسع يوماً بعد آخر هي للبسطاء من أبناء سوريا الذين يعانون الويلات والقهر، وهم هكذا ليس لأنهم صمتوا بل لأنهم أعجز من أن يسافروا ويهربوا ويصرخوا، وبعضهم متقاعس وبائس وخائف وجبان، ومنهم من لا عذر له، وبينهم أيضاً من اختار البقاء صامتاً لأنه رأى ذلك صواباً ولم يشارك في قتل وفساد.
ألسنا متفقين على هوية القاتل والمسبب؟ ألسنا متفقين على أن الطهرانية الكاملة لا يملكها أي طرف في هذا الصراع المديد؟ ألسنا متفقين على أن هذه الحرب خرجت منذ زمن بعيد من أيدي الجميع وبات معظم المشاركين فيها مجرد أدوات مأجورة؟
لذلك لم يعد لائقاً أن يشمت سوريو السويد بسوريي دمشق وطوابيرهم، وليس من حق المؤيدين الشماتة بالسوريين في خيام عرسال التي تغطيها الثلوج، واعتبارها غضباً ربانياً لخروجهم عن سلطة الأسد، وليس من حق سوريي إسطنبول أن يروا أنفسهم فوق وجع موظفي وزارة التعليم العالي، وأن يدعوا بالتعافي لليرة التركية ويشمتون بانهيارات الليرة السورية وفق ما نشره الصحفي والسيناريست المعارض فؤاد حميرة في منشور على صفحته اليوم: (أقرأ منشورات غريبة عجيبة والأغرب أنها صادرة عن شخصيات تعتبر نفسها مثقفة ووطنية لأقصى حد من مثال (الله يحمي الليرة التركية) و(حما الله الاقتصاد التركي) وحين يأتون على ذكر الليرة السورية تراهم يشمتون ويشتمون).
الحالة الصحية الوحيدة التي لم يقيض لها أن تكتمل، أو تثمر عن لغة جديدة بين السوريين هي وفاة حاتم علي التي اتفق الجميع فيها على أنه حالة وطنية سورية تمثل الجميع باستثناءات بسيطة.. البعض يرى أننا أصبحنا - من دون أن ندري أو ندري- جيلاً شامتاً شاتماً قد يذهب بنا إلى مصير أسوأ مما نحن فيه.