صدر مؤخراً في باريس كتابٌ جديدٌ للباحثة والأستاذة في العلاقات الدولية مانون نور طنوس، بعنوان "سوريا، بعيداً عن الحرب: تاريخ، سياسة ومجتمع". وسبق للباحثة الشابة أن أصدرت كتاباً مرجعياً هاماً آخر منذ سنوات بعنوان "شيراك والأسد والآخرون ـ العلاقات الفرنسية / السورية منذ 1946". ومن خلال مراجعة ما قامت طنوس بنشره في مرحلة الدراسة، التي ترافقت نهاياتها مع انفجار الحركات الاحتجاجية في الدول العربية، وبعد تحصّلها على أعلى الشهادات، يتضّح أنها سخّرت بحثها العلمي للشأن السوري تحديداً.
كتابٌ جديدٌ عن سوريا يتوقف عند "الأساطير" و"المسلمات" التي تمتلئ بها سرديات الأحداث الواقعة في هذا البلد الجريح. وفي رغبة من مؤلفة الكتاب بأنْ تفكك الأفكار المسبقة عن المسألة السورية وأن تحلّل المعالجات التبسيطية والمتسرّعة للعناوين الرئيسية في تطور البلاد، فقد وضعت قائمة منتقاة وليست شاملة لأهم ما تتناوله الكتابات السياسية وبعض المقالات العلمية فيما يخص توصيف المشهد.
كان التوقف عند قول البعض بأن "سوريا هي قلب العروبة النابض" فرصة للمؤلفة لكي تعرض للمسألة القومية العربية عموماً في حقبة انهيار الإمبراطورية العثمانية
ومن خلال تقسيم الكتاب إلى أربعة أقسام، بدأت المؤلفة باستعراض أهم العناوين التي لطالما تلقفها كتاب وباحثون عرب خصوصاً كما أوروبيين عموماً، على أنها مسلمات وحقائق مثبتة دون السعي إلى تعميق أبحاثهم التاريخية ولا إلى استخدام النسبية والابتعاد عن القطع والحسم فيها. فمن التوقف مثلاً عند الخلاف التقليدي المستدام حول التنافس في القِدَم بين مدينتي دمشق وحلب، استطاع النص الوارد أن يحمل القارئ باللغة الفرنسية على استعراض تاريخي مبسّط وشيّق لتطور الحاضرتين مع الإشارة إلى أهم التفاصيل التي يمكن أن تُفسَّر لصالح رجحان هذا الرأي أو ذاك. وسياسياً، كان التوقف عند قول البعض بأن "سوريا هي قلب العروبة النابض" فرصة للمؤلفة لكي تعرض للمسألة القومية العربية عموماً في حقبة انهيار الإمبراطورية العثمانية مع الإشارة إلى مختلف التيارات التي تنازعت الأولوية في البلدان العربية. وسعياً لتفكيك ما تكرر استخدامه بوعي ومن دونه والمستند إلى مسلمّة تشكيل الخريطة السورية من خلال التقسيم الذي خطّه كلٌ من الدبلوماسي الفرنسي جورج بيكو والنائب البريطاني مارك سايكس سنة 1916، تشير المؤلفة إلى توافق ضمني على استخدام هذه الإحالة في الخطاب السياسي بين نظام دمشق وبين داعش في بداياتها. وتعتمد على استعراض مختلف العناوين والمراجع العلمية التي تُبيّن عدم تطبيق هذه الاتفاقية أبداً ومشيرة بالتالي إلى عدد آخر من الاجتماعات والمعاهدات التي طُبّق جزء منها وأغفلت أجزاء.
بالانتقال إلى المجتمع والدولة، يتم اختيار عنوان هام ومتكرر في الإعلام الغربي يتعلق بـ "علمانية" الدولة السورية. خطابٌ تُبيّن أسطر الكتاب على عدم دقة تعميمه وتوضّح مدى إفادة التمسك به لصالح التسويق غرباً لسياسات غير ديمقراطية تمارس بحق الشعب السوري. كما تتم الإشارة إلى الاستخدام السياسي للمسألة الدينية تشجيعاً أم قمعاً بما يتنافى مع أسس العلمانية. وكذا الأمر فيما يتعلق بأسطورة حماية الأقليات التي ما فتئت مؤسسات الدولة كما الأجهزة الغربية من التوقف عندها مهملة البعد الاستخدامي والتوظيفي للملف. كما يتناول هذا القسم الإجابة على أسطورة التحديث والتطوير التي رافقت وصول بشار الأسد إلى الحكم وبيّنت نقاط ضعفها البنيوية كما وصلت لنفيها بشكل قاطع، خصوصاً فيما يتعلق بالفائدة العامة.
في القسم الثالث، تلجأ المؤلفة إلى اختصاصها الأم المرتبط بالعلاقات الدولية لتستعرض وتفكك أيضاً مسلمات رافقت توصيف علاقات دمشق الإقليمية والدولية. فمن شعب واحد في بلدين بين سوريا ولبنان، مروراً بالدور السوري في "مقاومة" العدوان الإسرائيلي وتصدر النظام لقوى "الصمود والممانعة"، وصولاً إلى توصيف علاقات دمشق وموسكو بالاستراتيجية بشكل سائد وإهمال المكون الرئيسي لها المرتبط، خصوصاً في المراحل الأخيرة، بالتبعية.
توقفت المؤلفة أمام أرقام هذا اللجوء ونوعيته وتوزيعه، مفندة المخاوف المصطنعة والتي تتزايد باطراد مع تفاقم الأزمات السياسية والاقتصادية في البلدان المضيفة
وبالتأكيد، لم يهمل الكتاب مرحلة الانتفاضة الشعبية، وتحولاتها، وتقلباتها، وقمعها. وذلك لتفنيد السردية البافلوفية السائدة لدى بعض القوميين واليساريين العرب كما اليساريين واليمينيين المتطرفين الأوروبيين حول وجود مؤامرة تقضي بزعزعة نظامٍ يختلط في خيالهم المتناقض عناصر متناقصة لوصفه كأن يكون "اشتراكي، علماني، يواجه إسرائيل، متحرر وليبرالي... الخ". وفي هذا القسم، تستعرض المؤلفة قضية محورية لعبت دوراً أساساً في تغيير مواقف عدد من المجموعات السياسية كما الدول بحيث وُضِعَت أمام الاختيار بين النظام وبين إرهابيي داعش. وصولاً إلى لجوء الملايين من السوريين إلى دول الجوار وإلى أوروبا، توقفت المؤلفة أمام أرقام هذا اللجوء ونوعيته وتوزيعه، مفندة المخاوف المصطنعة والتي تتزايد باطراد مع تفاقم الأزمات السياسية والاقتصادية في البلدان المضيفة.
في اطلاعي الأول والسريع على عناوين الكتاب، أخطأت في التقدير معتبراً أنه مخصص للقارئ غير المطلع على ثنايا الملف السوري. وبعد الخوض في فقراته، تبين لي بأنه هام للغاية ليس فقط لغير الملمين بالقضية، ولكن أيضاً لمن لهم بها صلة. وهذا يدعو إلى أن تقوم المراكز البحثية السورية المهتمة بالسعي إلى ترجمته ونشره على أوسع نطاق لقارئيها العرب والسوريين لأنه يُجيب على تساؤلات هامة يمكن للبعض أن يمتلك جزءاً مبعثراً من إجاباتها، ولكن الإجابة الشاملة والعلمية والمدققة، تكمن في صفحات كتاب مانون نور طنوس.