icon
التغطية الحية

في البدء كانت الطاسة... ثم ضاعت

2023.12.17 | 12:10 دمشق

طاسة
+A
حجم الخط
-A

في عام 2014، فجَّر تنظيم داعش الإرهابي مقامَ أويس القَرَني عند مدخل مدينة الرقة الشرقي، وكان المقام يضم مسجد عمار بن ياسر وقبره وقبرَي أُوَيس القَرَني وأُبَي بن كعب، وهؤلاء جميعًا من شهداء معركة صِفِّين التي دارت بين جيشي معاوية بن أبي سفيان وعلي بن أبي طالب على ضفة الفرات الجنوبية سنة 657 ميلادية، غيرَ بعيدٍ عن مدينة الرقة. وكانت إيران قد بنت هذا المقام في أواخر القرن العشرين، فصار مزارًا لشيعة العراق ولبنان وإيران.

وقبل استيلاء إيران عمليًا على المقام الأصلي المتواضع جدًا في عهد حافظ الأسد، كانت تحيط به مقبرة يدفن فيها أهل الرقة أمواتهم. ولما رضخ نظامُ الأسد لإملاءات إيران، كان أمام أهل المدينة خياران: إما إخراج موتاهم من قبورهم ونقل ما تبقى من رُفاتهم إلى مقبرة تل البيعة في الشمال الشرقي للمدينة وإما أن يتركوها تحت رحمة جَرّافات آيات الله في طهران! بَنَتْ إيران مقامًا فاخرًا على الطراز الإيراني على رُفات "النواصب" من أهل الرقة، ولم تُبْق إلا قبور "شيعة" آل البيت، ولم يشفع لبعض هؤلاء النواصب الأموات شِركُهم بالله حين كانوا في حياتهم يُقْسِمون "بطاسة ويس" (وهو من أغلظ الأيمان عندهم) ولا التجاؤهم إلى تلك الأضرحة للتبرُّك وطلب المدد وتزويج العانس البائرة وتخصيب رحم العاقر، تمامًا كما يفعل عوامُّ الشيعة.

وبعد أن استولت عصابة داعش على المدينة حطَّمت كل تلك "الأصنام" وأحالتها أثرًا بعد عين. أتذكر أنه خطر لي حينها أنه على المدى الطويل سيكون من بين ضحايا هذا التفجير ضحيةٌ لُغَويةٌ: القَسَمُ بطاسة ويس (أي، قُبَّة مقام أُوَيْس)، وهو قَسَمٌ يُقْسِم به العَوامُّ في الرقة. قلت في نفسي حينها: سيموت هذا القَسَم لا بسبب انتشار الوعي التوحيدي فحسب، وإنما أيضًا لأنه إذا اندثر الأثر الدال عليه، فلا بد أن يموت اللفظ المصاحب له (وإن كان ببطء وبالتدريج)، وستأتي أجيالٌ من بعدنا لا تعرف سبب هذا القَسَم الغريب، وسيكون موقفها من هذا اللفظ مثل موقفنا الحائر إزاءَ ألفاظ نتداولها لكنَّ قليلاً منا مَنْ يدرك أصلها. فكثيرًا ما نردد أو نسمع كلمة أو عبارة، ونحن نعرف معناها السياقي لكننا لا ندرك معناها الدقيق ولا أصلها. لذلك سأحاول فيما يلي أن أسلط الضوء على أصل بضع كلمات أو عبارات لعل القارئ العادي يجد في ذلك شيئًا من الفائدة والمتعة.

الإيغار

كثيرًا ما كنا نسمع في صغرنا جملةً مثل: "قال له كلماتٍ أوغرت صدره" (أي، أشعلتْ صدره غيظًا وحقدًا) ولم يشرح لنا مُدرِّسونا معنى الإيغار. بل كانوا يكتفون بشرح المُراد، أي، بمعنى العبارة المجازي. ومن ذلك قول الربيع بن زياد العبسي، وهو يُعاتب قومًا كان بينه وبينهم وصلٌ ومودةٌ:

وكان أبي، ابنُ عَمِّكُمُ زيادٌ، *** صَفِيَّ أبيكم بَدْرِ بن عَمْروِ

فَألجأتُمْ أخا الغَدَرات قيسًا *** فقد أَفْعَمْتُمُ إيغارَ صدري

لكن المعنى الحرفي للإيغار (أي، التسخين أو الإحراق) نجده في قول مَسروح بن أدهم الكلبي وهو يصف أعداءه:

ولقد رأيتَ مكانَهمْ فَكَرهتَهُمْ *** ككراهةِ الخِنزيرِ للإيغارِ

تكمن طرافةُ الإيغار (بمعنى التسخين) في طريقة التسخين البدائية نفسها، إذ كان العرب قبل اكتشافهم القدورَ المعدنيةَ يلجؤون إلى تسخين الماء بإشعال نارٍ ووضع حجر فيها إلى أن يُحْمى، ثم يُرفع الحجرُ الساخن ويوضع في وعاء خشبي فيه ماء لتسخينه بحرارة الحجر. ومن هنا جاء المعنى المجازي: "قال له كلماتٍ أوغرت صدره." أي، نزلت كلمات القائل على صدر السامع كنزول الحجر الحامي في الماء البارد!

الميت يدخل البورصة

ومن عجائب ما نسمع أيضًا أن فلانًا يُمنّي نفسه ببيع سلعة أو سيارة أو عقار بمبلغ كذا من المال... "بالميِّت" (أي، بالحد الأدنى). وقد قرأتُ قبل سنواتٍ شرحًا طريفًا لهذا التعبير وأصله. وإليكم ملخصًا لما قرأتُ هنالك: يُحكى أن أثرياء المصريين كانوا في سالف الأيام يدفنون موتاهم لا في المقابر كسائر الناس وإنما في أحواش منازلهم. وبما أن هذه الدار لا تُبقي على أحدٍ "ولا يدوم على حالٍ لها شانُ" (كما يقول أبو البقاء الرُّنْدي)، فإن مُوسِرَ الأمسِ بات مُضطرًا إلى بيع داره لمُوسِرِ اليوم. وهنا يدخل الميتُ البورصةَ: أَيبيعُ البائعُ الدارَ بالميت المدفون في أرضها أم من دونه؟ فإن باعها بالميت، فهو مضطر إلى بيعها بسعر أقل بكثير مما لو باعها من دونه. وإن باعها من دون الميت، فعليه أن ينبش رفات أبيه أو أمه أو أيٍّ كان من الأحبَّة الراحلين ويعيد دفنها في مكان آخر. ولكن من نَكَدِ الدنيا على البائع أن يفرض عليه الشاري نقل رفات أحِبَّتِهِ، حتى وإن كان مستعدًا لبيعه الدارَ بسعر أقل. ولعل هذا ما يفسر التعبير المصري الشائع: "فلان طَلَّع مَيِّتين أهلِنا" (أي، اضطرنا إلى نبش عظام موتانا لدفنها في مكان آخر)، وتلك قمة اللؤم والخِسَّة. هكذا، إذن، توسعت دلالة عبارة "بالميت" لتشمل المبيعات الأخرى غير الدور والمنازل، التي كانت تقتصر عليها في الأصل، وصارت مرادفةً لعبارة "بالحد الأدنى" بعد أن نُسِيَ سياقُها الأصلي.

"المسافر" الذي حفظه التُّركُ وضيَّعه العربُ؟

كلمة "مِسْافِر" (misafir) باللغة التركية تعني "ضيفًا" بالعربية، ولا شك أن اللغة التركية استعارت هذا اللفظ (المُحرَّف قليلاً) من العربية. لكن ما علاقة المُسافر بالضيف؟ هل أخطأ التُّرك في فهم مدلول كلمة "مسافر" فجعلوها مرادفًا لكلمة "ضيف"؟ هذا الاحتمال واردٌ في عمليات الاقتراض بين اللغات.

الأمر مُلْتَبَس بشأن عبارة "ضاعت الطاسة" فهناك من يقول إن رجال الحِسْبة العثمانيين قد فرضوا طاسةً بحجم معين لتكون المِكيال المعتمد لوزن الحبوب ولكن التجار الغشاشين بعد مدةٍ استبدلوها بطاسة أصغر حجمًا، وحين علمت السلطاتُ بهذا الأمر سألت التجار عن الطاسة المعتمدة، فقالوا: "لقد ضاعت الطاسة!"

لكني أُرجِّح أن التُّرْك استعاروا اللفظة العربية في زمنٍ لم يكُن فيه الضيفُ إلا مسافراً. ولعل التلازم بين معنيي "المسافر" و"الضيف" ما زال قائمًا في كلمة "الخُطَّار" (الضيوف أو عابري السبيل) الشائعة في العاميات العربية إلى يومنا هذا. وهنا تكمن المفارقة: احتفظت لنا اللغة المستعيرة (التركية) بمعنىً ماتَ في اللغة المُعيرة (العربية)! ومع ذلك، فهي مفارقة طبيعية إذا ما قيست بمنطق الاقتراض اللغوي. فاللغة المستعيرة لا تلتزم بالضرورة بالمسار الدلالي الذي تسير فيه اللفظة ذاتها في اللغة المُعيرة. على سبيل المثال، في اللغة الفرنسية كلمة chef تعني "القائد" أو "الزعيم،" ولما استعارت الإنجليزية هذه اللفظة من الفرنسية، ضربتْ صَفْحًا عن معناها الأصلي وحصرته في رئيس المطبخ في مطعم: أي، الطاهي!

عَوْدًا على الطاسة... الضائعة!

ومن المفارقات اللافتة أنه لا يوجد إجماع على معنى "طاسة ويس" التي يُقسِم بها العَوامُّ في الرقة. أهو معنى حرفي أم مجازي؟ فهناك من يقول إنها تشير إلى قُبَّة مَقام أُوَيس القَرَني (لأنها تشبه الطاسة المقلوبة)، وهناك من يقول إنها تشير إلى طاسة حقيقية كانت توضع بجانب بئر الماء القريبة من قبر أُوَيس، وكان طالبو البركة والشفاء يشربون بها. بل إن هناك شخصًا اسمه أويس أبو طاسة يرجع نَسَبُهُ إلى الحسين بن علي بن أبي طالب (وهو مدفون في حلب)، لكن يبدو أنه لا علاقة له بأويس القرني، ولا علاقة لطاسته بطاسة نزيل الرَّقَّة. كذلك الأمر مُلْتَبَس بشأن عبارة "ضاعت الطاسة". فهناك من يقول إن رجال الحِسْبة العثمانيين قد فرضوا طاسةً بحجم معين لتكون المِكيال المعتمد لوزن الحبوب، وذلك منعًا للتطفيف في الميزان. ولكن التجار الغشاشين بعد مدةٍ استبدلوا بهذه طاسةً أصغرَ حجمًا، وحين علمت السلطاتُ بهذا الأمر سألت التجار عن الطاسة المعتمدة، فقالوا: "لقد ضاعت الطاسة!" وهناك قول آخر: في إحدى ممالك العالم القديم، كانت لدى قابلةٍ طاسةٌ كبيرةٌ تضع فيها المولود الجديد، ثم تضع الاثنين في حوض ماء. فإذا غطست الطاسة فالمولود ابن حلال، وإن ظلت طافيةً فالمولود ابن حرام. ولما ولدت الملكة مولودها، جاء الوزير متلهفًا لنقل نتائج الاختبار "الطاسيِّ" من القابلة إلى سيده، لكن هذه قالت له بكل شجاعة: "المولود ابن حرام، وطاستي لا تكذب!" حاول الوزيرُ ثنيها عن رأيها فلم تتزحزح، فطلب منها أن تُرِيَه الطاسة، ولما فعلتْ، رماها في النهر، ثم ذهب إلى سيده وقال له: "يا مولاي، لقد ضاعت الطاسة!"

وختامًا، في الإنجليزية، إذا أرادوا التعبير عن مطلبٍ لا يُدْرَك شبَّهوه بالكأس المقدسة (holy grail) في أساطير الملك آرثر وفرسان المائدة المستديرة (وهذه أساطير شاعت في القرون الوسطى). والكأس المقدسة هذه، بحسب تلك الأساطير، هي الكأس التي شرب بها المسيح، عليه السلام، في عَشائه الأخير مع حوارييه. وهكذا يبدو لي أن بحثنا عن معنى "الطاسة الضائعة" يشبه بحث المسيحيين في القرون الوسطى عن الكأس المقدسة!

تُرى، أيُظِلُّنا زمانٌ أبقعُ من زماننا هذا تُرفَع فيه راياتٌ سودٌ مكتوبٌ عليها: لن تضيعَ الطاسةُ مرتين؟