ما أشبه اليوم بالأمس. سياسات العنصرية والإقصاء والإبادة التي مورست بحق كثير من الشعوب والثقافات الأصلية في القرنين المنصرمين، لا نزال نرى تردداتها في عالمنا المعاصر، ترافقا مع تزايد منسوب الكراهية والعنصرية والاستبعاد.
ولأن التاريخ عصّي على الدفن والطي؛ تقدم المخرجة الكندية "ماري كليمنت" Marie Clements، في شريطها السينمائي "عظام الغربان" Bones of Crows "2022"، سردية مفعمة بالقسوة حول الإبادة الثقافية التي مورست بحق السكان الأصليين في كندا.
يشّرح الفيلم، عبر مفاصل زمنية تغطي أكثر من ثمانين عاما، حياة عائلة من قبيلة "كري" الكندية، عبر تجربة الفتاة الكبرى "ألين"، كاختزال لتجربة القضاء على السكان الأصليين في البلاد.
يعتمد الفيلم في السيناريو "للمخرجة أيضا" على "المرأة" كعنصر هش لرصد عجز "الثقافة الأصلية" على مواجهة السلطات البيضاء الجديدة، في مخططاتها للقضاء على التاريخ ومحوه واستبداله بنمط التاج البريطاني، في أسلوبه المعهود في حكم الثقافات الأخرى، عن طريق مندوبي رجال السياسة والدين؛ الفاسدين في غالب الأحيان.
دون مقدمات، ندخل مع "كليمنت"، في مقاطعة "مانيتويا" حيث طفولة "ألين" في عشرينيات القرن الماضي، مع مشهد افتتاحي لن يُنسى؛ حين "يمازح" مستعمر إنكليزي أهالي القبيلة، المترنحين من شدة الجوع بفعل العمل، مشيرا لهم "عبر مترجم" أن هذا يسمى "كذبة أبريل".
لكن تلك الكذبة، أنتجت رصاصة أردت المستعمر "مالك الأرض" قتيلا؛ لينشغل الفيلم حتى نهايته بسرد حكاية "ألين" وعائلتها، عبر محطات زمنية متداخلة بشكل غير تراتبي، لنعيد تركيب الأحداث في كل مرة تعود بنا فيها المخرجة إلى تفاصيل أكثر دقة في كل زمن، منذ الطفولة حتى نهاية الحكاية.
في ثلاثينيات القرن العشرين، يتم أخذ "الين" وإخوتها من والديهم بالقوة، ويوضعون مع غيرهم من أطفال القبائل في المدارس الداخلية الدينية التابعة للكنيسة الكاثوليكية، وسط قسوة وعنف وتحرش جنسي من قبل المسؤولين عن تلك المدارس، الذين يعلنون أنهم يتعاملون مع أشخاص أدنى من مرتبتهم.
هنالك مشهد يختزل فكر المستعمر وسلوكه، قدمته "كليمنت" بإبداع مفارق. تعزف "ألين" على البيانو مقطوعة لباخ؛ في الوقت الذي ينظّر فيه "الأب جاكوب" ذو الشخصية السلطوية العنيفة، عن ضرورة السيطرة على الشعوب الأصلية بتجويعهم قسريا وفق خطة غذائية محكمة.
تنجو "ألين" من سجن المدرسة الداخلية؛ لتقرر أمها أن التجنيد في الجيش هو الوسيلة الأضمن لعدم عودتها هناك. ووسط دوامة الحرب العالمية الثانية "1942 تحديدا"، تُرسل إلى إنكلترا لتعمل كمتحدثة في شيفرة حربية، تستلهمها من لغتها الأم "الكري".
تتزوج ألين من ناجٍ من المدارس الداخلية أيضا "آدم"؛ الذي يعتقد أن الخدمة في الجيش سوف تسمح له "بإثبات قيمته" ومنحه حياة مستقبلية مستقرة. لكن تجربة الحرب تعيد إليه تاريخ الاضطهاد والقمع الذي تعرّض له، وفي مشهد "أقل ما يوصف بالمرعب"، يلتقي "آدم" المنهك من الحرب بالناجين اليهود من الهولوكوست في إسطبل معزول، كدلالة على تشابه الضحايا، بمعزل عن مواقعهم في تك الحرب. فهو أيضا ناجٍ من الإبادة الجماعية.
ولأن ذكريات الطفولة العنيفة المرتبطة بالإبادة، لا يمكن أن ينجو منها "آدم" بسهولة؛ نراه يدمن الكحول بعد انتهاء الحرب، كردة فعل على خيبة أمله في أحلامه بمستقبل أفضل، مع عدم تعويضه كمواطن خدم بلاه بشكل يتناسب مع تضحياته؛ ما أدى إلى قراره بالانتحار بعد إصابته بالشلل.
جميع الشخصيات التي تشكّل عالم "ألين" هي شخصيات متأزمة عانت من شتى أنواع الفقد والعنف. يموت شقيقها الأصغر وسط الثلج في إحدى محاولات الهروب من المدرسة مبكرا، وتقتل الأخت "بيرسيفيرانس" التي دخلت في دوامة الإدمان في مرحلة ما بعد خروجها من المدارس، غير قادرة على التخلص من عبء الطفولة، وذكريات العنف، والقسوة، والاضطهاد.
"ألين" هنا هي رمز واضح للسكان الأصليين ولثقافتهم، ومحاولتهم البقاء على قيد الحياة، ريثما تأتي الفرصة السانحة لقول الحقيقة وسرد مرثية الإبادة.
ولن يمحى الفيلم من الذاكرة، دون أن نستذكر العديد من المشاهد ذات المعنى المباشر لما تريد المخرجة والمؤلفة قوله: عنف الراهبة المسؤولة عن الأطفال، حين تجبرهم على السير في خط مستقيم برؤوس محنية. حوار "ألين" مع ابنة المسنّ الذي تهتم به، وخطاب العنصرية المستمر تجاه الهنود "السكان الأصليين". لقاء "ألين" مع "بابا الفاتيكان"، ومواجهتها للكاردينال "توماس" الذي اغتصبها حين كانت في المدرسة الداخلية.
أحداث الفيلم جزئيات ستكملها "كليمنت" كلما عادت بنا إلى الأزمان والأماكن التي شكّلت حكاية "ألين" وشعب “كري"، بشكل محكم دون إرباك أو فقدان التفاصيل الدقيقة للحكاية؛ مع استخدام كوادر غلبت عليها القتامة اللونية والألوان الشاحبة للوجوه.
شريط الفيلم المليء بتفاصيل حياتية مؤلمة ومرعبة، قد لا يشكل إلا جزءا يسيرا مما تحملته كثير من الشعوب لعقود، وربما لقرون مضت. وهو فيلم يصلح لسرديات الشعوب التي قُهرت واستعبدت، والتي لا تزال تعاني من سياسات العنصرية والكراهية والإقصاء لكثير من الأسباب، كاللون والعرق والدين، وغيرها من المسوغات التي تشرعن تهميش و"دفن" الثقافات استنادا إلى معايير يضعها من هو في موقع أقوى.