icon
التغطية الحية

فيلم "سابقاً، الآن ولاحقاً".. مصير النساء في ظل الديكتاتوريات

2023.08.18 | 15:16 دمشق

فيلم
+A
حجم الخط
-A

يقدم الفيلم الإندونيسي "سابقا، الآن ولاحقا" Before, Now & Then، للمخرجة "كاميلا أنديني" Kamila Andini، سردية مؤلمة لتأثير عهود الديكتاتوريات على البشر، وتحكّمها في تغيير مسارات حياتهم بشكل غير متوقع، مؤثرة على خياراتهم في حال كانت متاحة.

سردية "كاميلا" تلك، تنتمي إلى روح "السينما الآسيوية" بكامل فرادتها وخصوصيتها، في معالجة القضايا اليومية الصغيرة أو تلك الحقب الزمنية بتنويعاتها السياسية والاجتماعية؛ مضافا إليها الشكل الفني من أداء الممثلين والرؤية الإخراجية بما يتوافق مع بنية الشخصيات وردود أفعالها ومحاكماتها، كفعل ثقافي اجتماعي، لا يشابه ولا يحاكي الأساليب المتبعة والمُكرّسة في سينما هوليوود أو غيرها.

يفتتح الفيلم بمشهد من خمسينيات القرن العشرين. فعلى أطراف إحدى الغابات الإندونيسية، سوف نرى شقيقتين (نانا ونينسينغ) تحاولان الهرب من ملاحقة "متمردين" يسعيان للقبض عليهما بهدف تزويج واحدة منهن لزعيم فصيل متمرد. تلك المرحلة كانت أثناء الكفاح من أجل استقلال البلاد، حيث يقتل والد الأختين ويختفى زوج نانا الأول "رادين" ويُعد لاحقا في حكم الميت.

بوستر
بوستر الفيلم

يختزل مشهد الافتتاح من خلال حوار الأختين، مرحلة "قبل/ سابقا"؛ ويبدو أن المخرجة/ المؤلفة قد آثرت عدم التوقف عند تلك المرحلة "الاستقلال" وإشكاليتها، ربما لأن ما سيحدث في البلاد بعد ذلك سيوضح عنف الأيديولوجيات والنزاع الأهلي في البلاد.

"الآن" هي مرحلة الستينيات في إندونيسيا. نرى نانا "بعد 15 عاما" وقد تزوجت مرة أخرى من مالك مزرعة ثري يكبرها عمرا "دارجا"، ولديها أربعة أطفال. أما الطفل الذي نراه بين يديها "من زوجها الأول" في المشهد الافتتاحي فقد توفي، في إشارة "ربما" من المخرجة إلى الإمعان في كابوس مرحلة التمرد "مرحلة قبل".

وسوف تنشغل المخرجة في المشاهد المتتالية بالحديث عن "الآن" مع الاحتفاظ بـ "قبل/ سابقا" لدى نانا على شكل كوابيس وأحلام، تربكها "وتربكنا أيضا" في تمييزنا لتلك الهواجس، هل هي حقيقة أم محاولة من نانا لتفسير ما حدث سابقا، لاسيما أنها هربت دون معرفة يقينية بمصير والدها وزوجها. إذ تختزن تلك الصور، التي تراها نانا، الكثير من الأسئلة التي لم تجد لها إجابات.

"حلم اليقظة" وكوابيس نانا تشير إلى أن النسيان عصيّ عليها، طالما لم تجد الإجابات الشافية عما حدث في الماضي "قبل". وفي أداء مميز من الممثلة "هابي سلمى" Happy Salma، سوف نرى واقع المرأة في إندونيسيا تلك الحقبة. امرأة مسكونة بالماضي، شبه منفصلة عن حاضرها، تردد الكثير من الأشعار كناية عن تسرّب الزمن الماضي إلى الحاضر.

لا نستطيع تصنيف الفيلم على أنه فيلم سياسي فقد كانت الحياة السياسية في خلفية الأحداث الرئيسية ولكن تأثيراتها الأكبر كانت على نساء الفيلم

يحدث هذا كله، ونحن نستمع إلى البيانات والأخبار السياسية مع مرتادي المقاهي أو العمال، ونكتشف حال البلاد التي تدخل في العنف وعمليات الإبادة، والتطهير السياسي، الإيديولوجي، والعرقي (تلك التي قام بها "سوهارتو" فترة حكم "سوكارنو" وراح ضحيتها بين 500 ألف إلى مليون شخص).

قبل ذلك، تكتشف نانا خيانة زوجها مع "إينو" الجزارة في سوق المدينة، والشيوعية الانتماء. لكن الفيلم لا يدخلنا في نمطية العلاقة الثلاثية المعهودة "الزوج، الزوجة، العشيقة". بل على العكس، سوف تفاجئنا المخرجة باقتراب الشخصيتين من بعضهما وتصبحان صديقتين حميمتين، وسط رعاية خاصة للابنة المميزة لنانا "دايس".  وربما تقصدت المخرجة إظهار انبهار نانا بإينو "المتحررة"، في الوقت الذي تدور فيه هي حول مشاعر الندم والذكريات ولعنة الاحتمالات لما حدث سابقا.

ثم تأخذنا حبكة الفيلم لاحقا، إلى مساحات ميلودرامية "لا نعتقد أنها قللت من شأن الفيلم"، لا سيما مع ظهور زوج نانا السابق، وهو مفصل درامي سوف تستخدمه المخرجة للدفع بنانا نحو الشفاء من كوابيسها وتحقيق ذاتها، واتخاذ قرار الرحيل مع زوجها السابق؛ مترافقا مع تأثير كبير لفلسفة "إينو" التحررية، والتي ظهرت برمز أنثوي حول إطالة الشعر وموديل "الكعكة" الذي ترى نانا أن أسرار النساء تخبأ فيها، كاستعارة عن "التقوقع الأنثوي" في المجتمع الذكوري. ولهذا نرى نانا في نهاية الفيلم وهي تسدل شعرها كما فعلت سابقا أوقات وجودها مع إينو.

لا نستطيع تصنيف الفيلم على أنه فيلم سياسي، فقد كانت الحياة السياسية في خلفية الأحداث الرئيسية، لكن تأثيراتها الأكبر كانت على نساء الفيلم. إنه فيلم عن خيارات المرأة الحياتية والعاطفية والأسرية في ظل حكم الديكتاتورية وفي خضم صخب العنف الذي يحيط بها، في مجتمعات عانت من ورثة الاستعمار أقسى صنوف الاستبعاد والقهر.

لقد اختارت المخرجة "كاميلا أنديني" الابتعاد عن "كليشيهات" تحرر المرأة، وقدمت شريطا سينمائيا مفعما بالجدل الإنساني والوجودي حول حال النساء بالعلاقة مع السلطة الذكورية الضيقة في الأسرة، وسلطة العنف الذكورية في البلاد. ويتضح ذلك من امتنان "نانا" لزوجها الذي وفّر لها حياة مستقرة، لكن دون أن تؤدي خياناته لها أو تذمره من كوابيسها وأحلامها إلى فعل تحرر "فكري/ نسوي". ما حدث هو مراقبة نانا لكل التفاصيل والاحتمالات وحساب "ردّ الدين" لما فعله زوجها، واتخاذ قرار تحرير نفسها من كل ذلك، ومتابعة حياتها كما تريد لها أن تكون. وقد ظهر ذلك في المشهد الأخير، حين تلتقي بابنتها "دايس" وقد أصبحت شابة، لكن دون أن نلحظ مشاعر الندم أو الحسرة على قرارها بالرحيل.

يزاوج الفيلم بين إندونيسيا كبلد وبين النساء كحلقات مهمشة، ليقول لنا إن ارتباط مصائر النساء بالرجال و"عنفهم"، هو حال البلاد أيضا التي يتحدد مصيرها بإرادة الرجال.

كلمات مفتاحية