قبل أن يصل فيلم "الحد الأخضر" إلى دور السينما، أثار هذا الفيلم عاصفة كبرى في بولندا، بما أنه يناقش المصير الأسود الذي ينتظر المهاجرين العالقين على الحدود البولندية-البيلاروسية، في وقت تتحضر فيه البلاد للانتخابات العامة.
حمل الفيلم توقيع المخرجة أنيسكا هولندا، وفاز بجائزة التحكيم الخاصة في مهرجان البندقية السينمائي في مطلع هذا الشهر، وأثنى عليه نقاد من مختلف دول العالم إثر عرضه في مهرجان تورنتو السينمائي.
غير أن ذلك لم يعجب المسؤولين في الحكومة البولندية والذين وصفوه بأنه معاد لبولندا، ثم خصصت محطة تلفزيونية تابعة للحكومة فقرة إخبارية في وقت الذروة لانتقاد مخرجة الفيلم، كما شبه بعض حرس الحدود من شاهدوا الفيلم بالبولنديين الذين شاهدوا أفلام الدعاية النازية خلال الحرب العالمية الثانية.
فيلم يضع إصبعه على الوجع
أثار هذا الفيلم الروائي الذي بدأ عرضه في بولندا يوم الجمعة الماضي، حالة من السخط في بلد يحمل عبء تاريخه المؤلم على ظهره، بعدما بلغت معه الأمور حدها بسبب الحرب الدائرة في أوكرانيا المجاورة. ومن المتوقع أن يواجه حزب القانون والعدالة الحاكم معركة طاحنة في الانتخابات التي ستجري في 15 من تشرين الأول المقبل، وأن يزيد من تأييده للصورة التي عززها حول البلد الذي بات المهاجرون يهددون أمنه إلى جانب الحرب المستعرة في الجوار.
يصور فيلم "الحد الأخضر" أزمة الهجرة التي بدأت في أواخر عام 2021 على أعتاب أوروبا، أي على الحدود التي تمتد فيها الغابات بين بولندا، وهي دولة عضو في الاتحاد الأوروبي، وبيلاروسيا، تلك الدولة الديكتاتورية التي لم تنضم للاتحاد. في تلك الأثناء، اتهمت السلطات البولندية والأوروبية رئيس بيلاروسيا، ألكساندر لوكاشينكو، ببيع تأشيرات سياحية للمهاجرين القادمين من الشرق الأوسط وأفريقيا والباحثين عن طريق للوصول إلى الاتحاد الأوروبي، ومن ثم نقلهم بالحافلات إلى بولندا بغية زعزعة استقرار الاتحاد.
ورداً على ذلك، أقامت الحكومة البولندية منطقة حظر عرضها ثلاثة كيلومترات حول الحدود، ثم نصبت أسلاكاً شائكة بطول خمسة أمتار على مسافة 186 كيلومتراً، كما نشرت الآلاف من الجنود وحرس الحدود لصد المهاجرين وإبعادهم عن الحدود البولندية وإعادتهم إلى بيلاروسيا. إلا أن السلطات البيلاروسية أصدرت هي أيضاً أوامرها لشرطة الحدود حتى تقوم بإجبار المهاجرين على العودة إلى المناطق البولندية. وهكذا بقي أغلب المهاجرين يتعرضون للطرد والصد بين الدولتين طوال أسابيع، بل أشهر في بعض الأحيان.
عملت مجموعة من الناشطين والأهالي على تزويد من تقطعت بهم السبل من المهاجرين بالأغذية والألبسة والأدوية، والمأوى في بعض الأحيان، إلا أن ذلك لم يمنع من وفاة 50 شخصاً على الأقل، وفقدان مئتي شخص آخرين بين الغابات منذ أن بدأت أزمة الهجرة في أواخر عام 2021، وذلك بحسب ما ذكرته الناشطة آنا آلبوث من منظمة غروبا غرانيكا وهي منظمة إغاثية شعبية.
الكل في الأزمة سواء
تسرد قصة فيلم: "الحد الأخضر" حكاية من علقوا في خضم هذه الأزمة، أي حرس الحدود والناشطين والمهاجرين، ومن بينهم أسرة سورية حاولت أن تصل إلى قريب لها يعيش في السويد، إلى جانب أفغانية كانت تفكر بالاستقرار في بولندا.
في مقابلة مع المخرجة البولندية هولندا، ذكرت بأنها لم تعد تتحمل الإحساس باليأس وهي تفكر بمآسي المهاجرين، إذ عندما وصلت الأزمة إلى أعتاب بولندا، شعرت بأن عليها أن تنقل للناس صوت ضحايا الأزمة، وأضافت بأن هؤلاء الضحايا، ومنهم حرس الحدود، أجبروا على أن يعيشوا وضعاً مستحيلاً على حد تعبيرها، فأهم شخصية في الفيلم هي شخصية حارس شاب، والتي جسدها توماسز فلوسوك، والذي شعر بالذنب بعد مشاركته في عملية صد وحشية، ثم صار يغض الطرف عن المهاجرين الذين اختبؤوا في صندوق سيارة يقودها أحد المهربين.
مخرجة الفيلم أنيسكا هولندا
التطرف في الانتقاد
إلا أن المسؤولين في الحكومة البولندية الذين برروا قسوة سياسة الحدود التي فرضوها بسعيهم لحماية أمن البلد، اتهموا المخرجة بتقديم صورة مشوهة عن الأزمة، إذ أعلن ياروسلاف كاتشينسكي رئيس حزب القانون والعدالة صاحب الحظوظ الأكبر في الوصول إلى منصب الرئاسة، بأن الفيلم يمثل دليلاً قاطعاً على كراهية المخرجة لبولندا، ووصف الفيلم بأنه مخز وكريه ومقرف.
أما رئيس الوزراء البولندي، ماتيوز موراوسكي، فقد وصف الفيلم بأنه عبارة عن مجموعة من الأكاذيب الصفيقة التي تهدف لتشويه سمعة بولندا في نظر الغرب، وصرف الانتباه عن الدور الأساسي المجيد الذي تلعبه بولندا في دعم القتال الدائر في أوكرانيا.
غير أن وزير العدل، زبيغنيو زيوبرو، كان أكثر من تطرف في انتقاده للفيلم، وذلك عندما شبه مخرجته بجوزيف غوبلز، زعيم الدعاية النازية، وقارنها بالسوفييت والنازيين الذين استعانوا بأفلام الدعاية لتشويه صورة بولندا والشعب البولندي.
ورداً على ذلك قالت المخرجة: "توقعت أن أتعرض لهجوم إلى حد ما، إلا أني لم أتوقع كل هذه الشراسة"، وأضافت بأن المئات من رسائل التهديد بالقتل قد وصلتها، ولهذا ترافقها الآن حراسة أمنية دائمة.
هذا ولقد تقدمت المخرجة بشكوى ضد وزير العدل، لتمنعه محكمة في وارسو في مطلع هذا الأسبوع من تقديم أي تصريحات أخرى عن المخرجة وعملها، كما منعته من إجراء أي مقارنة بين المخرجة هولندا والأنظمة الإجرامية بحسب وصف المحكمة. غير أن وزير العدل ندد بقرار المحكمة ووصفه بأنه تهجم على حرية التعبير.
سرديات متناقضة
عندما قامت الأزمة على الحدود في عام 2021، شبه كثير من البولنديين ما يحدث بما حدث للمنطقة خلال الحرب العالمية الثانية، عندما خضعت للاحتلال السوفييتي أولاً، ومن ثم النازي. وفي ظل الاحتلال النازي، كان كل من يضبط متلبساً وهو يساعد أي يهودي أو يؤويه مهدد بعقوبة الإعدام التي يمكن أن تصدر بحقه وبحق أهله أيضاً. ولهذا شارك بعض البولنديين بالجرائم النازية، وفي ذلك ما يناقض السردية البطولية الوطنية التي تفضل الحكومة البولندية أن تتكئ عليها.
تقول المخرجة، وهي من أصول يهودية، وسبق أن أخرجت ثلاثة أفلام رائعة عن الهولوكوست، إن أزمة الحدود نكأت الصدمة التي تعرضت لها البلاد، إذ على الرغم من أن البولنديين الذين يساعدون المهاجرين اليوم قد يتعرضون للملاحقة القضائية لا الإعدام، إلا أن السلوك هو نفسه برأي المخرجة، بما أن غالبية الشعب البولندي غير مكترث بما يجري، في حين أن قلة من الأفراد هم من يمدون يد العون.
صور فيلم "الحد الأخضر" خلال ثلاثين يوماً في العام الماضي، في وقت كانت روسيا فيه قد شنت غزوها الشامل على أوكرانيا، فأدهش البولنديون العالم بكرمهم وحسن استقبالهم لملايين اللاجئين الأوكرانيين، ولهذا يشيد المشهد الختامي للفيلم بحالة التضامن العفوية والجياشة الذي أبداها هذا الشعب، إذ نرى فيه البولنديين وهم يحتشدون أمام المعابر الحدودية بانتظار الأوكرانيين حتى يستقبلوهم في بيوتهم. كما نشاهد حرس الحدود أنفسهم الذين نشرتهم السلطات ليقوموا بصد العائلات القادمة من الشرق الأوسط وأفريقيا عبر الأسلاك الشائكة وهم يساعدون الأطفال الأوكرانيين اليوم على ركوب الحافلات.
تخبرنا المخرجة هولندا بأنها لم تكن تهدف لمهاجمة الحكومة عبر فيلم "الحد الأخضر"، بل كل ما أرادته هو أن تشجع المشاهدين على التفكير بطريقة أكثر إنسانية. بيد أن الحملة الانتخابية أصبحت أشد ضراوة، ودخلت فيها كل الأحزاب، وبينها أحزاب معارضة، ولهذا تبنى الجميع سردية تجرد المهاجرين من إنسانيتهم، فردت عليهم المخرجة بالقول: "علينا أن نرفع صوتنا، حتى لو بقي صوتنا وحيداً في بكائه وعويله وسط الغابات"
المصدر: The New York Times