في فيلمها السابق (على كف عفريت، 2017)، سردت المخرجة (كوثر بن هنية) حكاية واقعية عن طالبة جامعية تتعرض للاعتداء الجنسي من قبل عناصر من الشرطة التونسية. يأخذنا الفيلم في ليلة واحدة محاولتها للادعاء عليهم قضائياً والإخبار عما حدث معها، لكن بما أن قسم الشرطة يتضامن مع العناصر المعتدية، تصبح الحكاية عن مواجهة طالبة مغتصبة لمنظومة الفساد والبطريركية في نظام الشرطة التونسية، وفي هذه المغامرة يرافقها صديق تعرفت إليه للمرة الأولى ليلة الاغتصاب، تمثل شخصيته الشباب التونسي الأخلاقي الثوري بعد 2011.
اقرأ أيضاً: "الرجل الذي باع جلده": فيلم عن لاجئ سوري مستوحى من وشم
ورغم التوتر واللحظات القاسية التي يقودنا فيها فيلم (على كف عفريت) يتلمس المشاهد العنصرية تجاه المرأة والنظرة الدونية لجسدها، لينتهي الفيلم بطريقة عادلة، حيث يخبر أحد الشرفاء من عناصر الشرطة المعلومات الصحيحة، وتظهر جريمة الاغتصاب إلى العلن، والتي أدت في الحقيقة إلى إقالة 14 عنصراً من عناصر الشرطة التونسية ذلك العام.
لينك تريلر (ع كف عفريت)
الجسد المختزل إلى أوراقه الإدارية:
فيلم المخرجة الحالي، والمرشح للأوسكار، يحمل عنوان (الرجل الذي باع جلده)، يروي حكاية (سام، أداء يحيى المهايني) الشاب الذي تعرض للاعتقال في سوريا، ليكتشف حين خروجه أن حبيبته قد تزوجت وانتقلت إلى بلجيكا. بعد هروبه إلى بيروت، وعمله في مدجنة، يتردد إلى صالات المعارض الفنية للحصول على الطعام والشراب مجاناً، وتقوده المصادفة إلى التعرف على الفنان البلجيكي (جيفري كودفرا، أداء كوين ديبوا)، الذي يعرض عليه المال والفيزا مقابل موافقة أن يوقع برسم على ظهره عملاً فنياً، سنكتشف أنه صورة مطابقة تماماً للفيزا، تأشيرة السفر.
يقوم الفيلم على حبكة مميزة ولماحة لمعالجة سؤال أخلاقي: هل يمكن أن يتحول الجسد الإنساني إلى عمل فني، قابل للعرض؟ قابل للتذوق؟ قابل للتملك والاقتناء؟، وصحيح أن الموضوع مطروحة في الفكر الأخلاقي والفني باستمرار إلا أنه نادر المعالجة، ومنها فيلم كوميدي للمخرج الفرنسي جان غامبين.
اقرأ أيضا: من بطولة مونيكا بيلوتشي فيلم تونسي يروي معاناة اللاجئين السوريين
كما يذكر الفيلم إحالات إلى حكاية (فاوست) في العقد مع الشيطان وفي إحالة إلى بيع الجسد للشهرة والثروة، حكاية (بجماليون، جورج برنارد شو) حيث النحات الذي يقع في غرام عمله الفني، تمثاله لحضور أنثوي. والحكاية الواقعية (تيم شتاينر) الذي قدم جسده موديلاً حياً لوشم فني للفنان البلجيكي (فيم ديلفوي) وهي الحكاية الأساسية التي استلهم عنها الفيلم، تقول المخرجة: "هي فكرة غريبة ومثيرة تنطوي على قدر من الكوميديا السوداء، فليس هناك أكثر من أن يبيع الإنسان جِلده، فكانت هي نقطة البداية لفيلمي وغلّفتها بشكل أساسي بأزمة اللاجئين السوريين الذين التقيت بأعداد كبيرة منهم، وكان التحدي بالنسبة إلي هو الربط بين عالمين مختلفين، عالم الفن المعاصر بكل ترفه، وعالم اللاجئين بكل فقره ومعاناته".
إن إحلال الجسد السوري ضمن هذه المعادلة السينمائية-الحكائية-التاريخية يحمل أبعاداً متعددة، لدراستها يمكن الانطلاق بالسؤال من اللحظة الإبداعية لصناعة الفيلم: "سنصنع فيلماً عالمياً يعالج موضوع الجسد السلعة والفن"، ليتلوه مباشرةً سؤال: "أليس من الأنسب أن يكون هذا الجسد سورياً؟".
الحكاية عكست الرأي والرأي المعارض:
الرأي النقدي الأول يرى أنه ليس هناك من ضرورة أن يكون الجسد المختار لمعالجة هذا الموضوع هو الجسد السوري، فيمكن أن يكون الجسد تونسياً (وهي جنسية المخرجة)، أفغانياً، عراقياً، أو أفريقياً أو لاتينياً، رغم أن بيانات الأمم المتحدة تبين أن أكبر نسبة للجوء في العالم تتعلق بالسوريين، ويتابع هذا الرأي النقدي أن هذا الاختيار للجسد السوري هو امتهان له، وهو زيادة في تصويره بالدونية النمطية الناتجة عن الحرب والنزوح والهجرة القسرية التي عانى منها. ويجب أن نذكر أن هذا الرأي النقدي، لم يغفله صناع الفيلم بل هو موجود وحاضر في السيناريو حيث نتابع حكاية مؤسسة للدفاع عن حقوق اللاجئين السوريين، تحاول التواصل مع الشخصية الرئيسية (سام) لتقنعه بالعدول عن فكرته وتعرض المساعدة عليه، ويأتي على لسان رئيس الجمعية في الفيلم: "هي مهانة لكل السوريين"، كما أن هذه المؤسسة تنظم حملات اعتراضية في المتاحف والغاليريهات التي يعرض فيها العمل الفني: الجسد السوري والفيزا على ظهره.
اقرأ أيضاً: فيلم "بوردينغ" لغطفان غنوم.. عن تلك اللعنة التي تلاحق السوريين
الرأي النقدي الثاني، بالعكس، يثمن خيارات المخرجة وصانعي الفيلم بالإضاءة على أزمة اللجوء السوري، وأن الحكاية الرمزية للفيلم تبين مقدار المأساة التي وصل إليها الجسد السوري، وتعبر عن استلابه إلى الأوراق الرسمية التي تسمح بمرور الحياة والموت بين الحدود الدولية والتي يعبر فيها عن اختزال الجسد إلى الفيزا، واختزال الإنسان إلى أوراقه الإدارية، ويبين قوة هذه الأوراق الإدارية، فتصبح الفيزا الموشومة على ظهر (سام) هي مفتاحه للتنقل والسفر بحرية. وخصوصاً أن الفيلم أشار في مجرياته إلى وجود الرأي النقدي المعارض. فيخلص هذا الرأي النقدي إلى القول: "إنه لشرف أن يمثل الجسد السوري جسد اللاجئين في العالم أجمع، ويجسد قضاياهم وحكايتهم".
يذكر أن موضوع الجسد حضر في الإنتاجات الثقافية البحثية والفنية السورية منذ عام 2011، أبحث مثل: (الجسد في الرواية السورية، د. حسان عباس)، (الجسد في الفنون التشكيلية، نبراس شجيد وعلاء رشيدي)، (صورة الجسد المعذب في الفنون التشكيلية، محمد عمران)، (المعالم الجمالية لحضور وغياب الجسد في النص السوري، د. عمار المأمون).
من الجسد الرومانسي إلى الجسد المعتقل:
في المشد الثاني من الفيلم يظهر الجسد السوري للمرة الأولى مستلقياً على سرير، عار يَ الظهر، جميلا، يافعا، مصوّرا بشاعرية وبمسحة إيروتيكية، تحوم حوله قطة منزلية بكل رموزها. نسمع أصوات أقدام وطرقات على باب البيت، ندرك حضور الأمن، لتظهر التنويعة الثانية للجسد السوري في الفيلم، إنه جسد الاعتقال. تمشي الكاميرا في أقبية الزنازين لترافق جسد (سام) العاري الصدر في نزوله إلى السجن. المعتقل في الفيلم يصوّر بطريقة جمالية، فالمعتقلون عراة الصدور أيضاً، لكن اللقطة بالأساس تحمل إدانة لهذا الاكتظاظ والتراص للأجساد المتروكة في العتمة والعزلة والبرد. لقد انتقل الجسد السوري من شاعرية الثورة الجذابة الحالمة، إلى ممارسات الاعتقال الممتهنة للجسد. ونعم، يتبنى الفيلم مقولة الثورة، فالمشهد العاطفي الأساسي في الفيلم بين (سام) وحبيبته (عبير) يحدث في القطار، يقول فيها العاشق: "يا جماعة نحنا بثورة، وبدي أعلن عن حبي لهي البنت"، يربط المشهد بين مفهوم الثورة والقدرة على التعبير عن الحب في الفضاء العام، إشهار الحب إلى الجماعة السورية الموجودة في القطار. ومع انتقال الشخصية الرئيسية إلى بيروت يعمل في مدجنة، فيحضر الجسد السوري العامل، المنتج، ولكن الميكانيكي بالوقت عينه، ومن المعروف دور العمال السوريين، أي الجسد السوري في الاقتصاد والإعمار اللبناني.
بين الجسد العامل والجسد الفني:
في لبنان يحاول الجسد السوري التسلل إلى العالم الفني للحصول على الأطعمة والأشربة من احتفالات المعارض والغاليريهات مجاناً، ومن هنا نجده مراقباً عند دخوله من بين كل الأجساد الحاضرة الأخرى، يظهر أنه جسد متسلل إلى العالم الفني المبالغ في تقديمه في الفيلم كعالم أنيق، ثري، منمق، وهذا ما قصدته المخرجة في تصريحها عن عالمين متناقضين عالم اللجوء وعالم الفن المترف منه تحديداً. فالفيلم يرصد عالما فنيا حيث أسعار اللوحات والمنحوتات بالملايين، فن المزادات العلنية، فن الطبقة الفاحشة الثراء يمثله الحضور المثالي لجسد شخصية (ثريا، أداء مونيكا بيلوتشي)، الذي لا يحضر عارياً، لكنه يحضر كالجسد المثالي النموذجي في المخيلة الجمعية، الجسد الذي يرمز للكمال، للأناقة. في أحد المشاهد، وحين يكذب (سام) بأنه بجانب (ثريا)، يكون بجانبه تمثال من الأعمال النحتية الإغريقية، والنحت اليوناني القديم هو أكثر ما كرس مفهوم الجسد المثالي في التاريخ الإنساني الفني، لكن شخصية (ثريا) أيضاً هي شخصية مسوقة الأعمال الفنية، الأكثر إمعاناً في الانتهازية، في الرغبة المستمرة في الربح المادي، والأكثر ارتباطاً في الشر من بين شخصيات الفيلم.
من الجسد الفني إلى الجسد الجنسي:
منذ أن يقدم الفنان (جيفري) عرضه على (سام) بأن يحول جسده لعمل فني، يخبره بأن واحداً من أسمائه هو (مفيستوفيليس)، وهو اسم الشيطان الشهير في حكاية (فاوست، غوته). وخلال عملية رسم الوشم على الظهر، يبرز الجسد الجنسي، فتركز اللقطة على رسم عملية الرسم على الظهر بإحالة إلى الفعل الجنسي؛ إفرازات الألوان، الملمس، تعابير الوجه التي تدمج بين الألم وتعابير النشوة، وضعية العلاقة بين جسد الفنان وجسد-العمل الفني، تحمل تصوير كل هذه المشاهد إيحاءات جنسية واضحة. وفي واحدة من جلسات التصوير، يطلب من (سام) أن يخفض رأسه، يخفي حضوره، ليحل محله في إحدى الصور رأس الفنان (جيفيري)، بإشارة إلى امتلاك الفنان لجسد العمل الفني، بالحلول مكان رأسه وجهه، بإخضاعه، رغم تمرد (سام) المستمر.
الجسد الموسوم، جسد العيب:
من البدهي أن تفتح حكاية الفيلم على الجسد الموسوم من الوسم، فـ(سام) يواجه معارضة اجتماعية كبيرة، نظرة دونية متنمرة تعيب على الجسد خضوعه لرغبات وتصاميم الفنان، كذلك تعيره والدته بجسده، تخبره عن حديث الأقارب والجيران في الرقة-سوريا، عما فعل بنفسه وجسده. إنها النظرة المعيارية، الدونية إلى جسد رهن نفسه إلى العمل الفني، نظرة بأحكام ومعايير أخلاقية تعتبر هذه التجربة إهانة للجسد الإنساني، الجسد الموسوم، الموشوم، المعيب. وتقودنا حكاية الفيلم لاحقاً، إلى تطورات تتعلق بالجسد الاستهلاكي، فجسد (سام) يحمل باركودا يجعله كسلعة مسجلة قانونياً بملكية الفنان، لتنتقل تالياً إلى ملكية جامع أعمال فنية ثري. و(سام) مقيد الحرية في التصرف بجسده وفقاً للعقود القانونية الموقعة، وهو جسد عبودي حيث يتوجب عليه المثول لساعات طويلة في صالات العرض وأمام كاميرات زوار المعارض. هذه القراءة الرأسمالية الاستهلاكية للجسد تستمر حتى إلى ما بعد موت سام المزعوم، فيتم سلخ جلده عن الجثة وعرضها في لوحة في المتحف بعد مماته، ومن هنا يأتي عنوان الفيلم: (الرجل الذي باع جلده).
جسد العشق الحالم، جسد الزواج الرتيب:
يحضر الجسد الأنثوي السوري عبر شخصية (عبير، أداء ليا ديان)، هي التي تفضل أن تمنح جسدها لموظف في السفارة السورية في بلجيكا لتحصل على تأشيرة سفر للهروب من الدمار الذي يأكل سوريا باستمرار، وكذلك تقدم جسدها لمساعدة زوجها في مأزق قضائي يقع فيه في بلجيكا. لكنه بالأساس هو الجسد العاشق، كما واحدة من أهم تجليات الجسد السوري في الفيلم، فالفيلم في النهاية هو قصة حب. وكما يطلب (فاوست) من (مفيستوفيليس) جسد مارغريت، فإن كل ما يقوم به (سام) هو لاستعادة حبيبته، إن الجسد الطامح إلى اللقاء مع معشوقه، الجسد المغامر بتهور لوصال الحبيب. ويركز الفيلم على تصوير مشاهد اللقاءات العاطفية، تصوير اللمسات بين الأيدي، الحضن بين الأذرع، تلامس رأسي الحبيبين، فيقدم الفيلم صورا عاطفية دقيقة عن علاقة النفور، الصراع، الشوق والتلاقي بين الجسدين العاشقين. ومن خلال التجاور بين علاقة (عبير) و(سام)، وعلاقة (عبير) وزوجها يضع الفيلم الجسد العاشق في مقابل جسد الزواج الرتيب.
الجسد الحيوي والجسد البلاستيكي:
تظهر الحرب أيضاً من خلال جسد (والدة سام، أداء دارينا الجندي)، التي يتوصل معها (سام) عبر السكايب، فيكتشف أنها فقدت أطرافها السفلية، بسبب انفجار أدى لتضرر منزلها، جسد الكارثة، جسد العنف، الجسد المبتور من جراء الأسلحة، ونشهد بجانبها في تلك اللقطة أطرافاً سفلية صناعية، جسداً بلاستيكياً يدخل ليرمم نواقص وأضرار وأعطاب الجسد الحيوي. كذلك يحضر الجسد السوري المهذب، الخاضع للقواعد والأصول، المدجن ببدلة رسمية عبر شخصية (زياد، أداء سعد لوستان)، هو الزوج الصارم، المتسلط على حياة الزوجة، جسد هجومي في أكثر من مشهد، بطريركي فارض للتملك في العلاقة مع الشريك. وفي بلجيكا، في واحدة من صالات المعارض، يتعارك الجسدان السوريان، نموذج سام المعتقل ونموذج زياد السلطة، يتعارك الزوج المتسلط مع العاشق المنفعل، يؤدي العراك إلى تحطيم الأعمال الفنية في المعرض. نقل الجسد السوري في هذا المشهد خلافاته إلى العالم الأوروبي، وينقل صراعاته إلى فضاءات التذوق الفني.
الجسد الحامل للجريمة:
وعند الحديث عن حضور الجسد السوري في الفضاء الأوروبي-البلجيكي، فإننا لابد من التوقف عند مشهد أساسي وشديد الحساسية في الفيلم، حيث (سام) يجلس كموديل وعمل فني في المزاد العلني، على أذنيه هيتفون سماعات للأذن يسمع منها الموسيقا، وهو موارب الظهر يسمع أرقام المزايدات المقدمة لامتلاكه، تتالى الأرقام بالملايين، وفي لحظة ينهض (سام) يتحرك باتجاه الجمهور، يهبط من منصة العرض للسير بين جمهور المزاد العلني، يرفع سماعة الموسيقا التي يحملها ويحملها وكأنها حزام ناسف قابل للتفجير، ويهدد الجمع حوله بالكبس على سماعة الموسيقا التي يوحي للجمهور بأنها شريط حزام ناسف، فيهرب الجميع بهلع من الصالة، بينما يستلقي (سام) على الأرض ضحكاً عليهم، انتقاماً، استرداداً لقيمته.
كل ذلك محتمل. لكن السؤال المطروح لكاتبة الفيلم ألا يكرس هذا المشهد ارتباط الجسد السوري في المخيلة الجمعية الأوروبية بالجسد المُهَدد بالتفجير؟ بالجسد القابل للجريمة؟ بالجسد الخطر على الأجساد الأوروبية القابل لنسفها بالأسلحة المتفجرة ؟، علماً أن أكثر الهجمات العنفية التي وقعت في المدن الأوروبية لم يقم بها لاجئون أو مهاجرون، بل أصحاب الجنسية الفرنسية، البلجيكية، والإسبانية. ويمكن أن يأتي الجواب بأن هذا المشهد يتعلق بالجسد الأوروبي الذي ينظر إلى جسد اللاجئ إما كعمل فني للتملك والاستعراض، وإما جسد خطير على الأمن والسلم يهدد المجتمع الأوروبي.
الجسد المذبوح، الجسد المُعدم:
لا يسهو الفيلم أيضاً عن الإضاءة على تجربة قاسية ووحشية عاشها الجسد السوري، فيحضر الجسد السوري المذبوح، المقتول برصاصة (داعشية) في الرأس، الجثة المتروكة في العراء بعد تنفيذ حكم الإعدام، يقع المشهد حين يتحرر (سام) ويتمرد على العقد القانوني، على رغبته والعيش في أوروبا، ليعود إلى سوريا الرقة، وهناك تتم عملية إعدامه، تصور بالفيديو كما رأينا فيديوهات إعدامات تنظيم داعش، حيث يرتدي الضحايا اللون الأرجواني وينفذ فيهم حكم الموت إما ذبحاً أو بالرصاص في الرأس. كأن الجسد السوري محكوم بثنائية إما الذبح والإعدامات العبثية أو بيع الجسد وتملكه من قبل الأوروبيين، محكوم بثنائية الجسد أو السلعة.
الجسد الضحية، الجسد الساعي للحرية:
أخيراً، من بين تجليات الجسد السوري في الفيلم، جسد الضحية، وذلك حين يكون الموديل (سام) معروضا في الكنيسة، هناك تدور الكاميرا حول التماثيل المتعلقة بجسد المسيح، وكأنها تربط بين جسد المسيح-الضحية-الفادي للبشرية، وبين جسد (سام) ضحية النظام العالمي، الصراعات الدولية، وتراجع القيم الأخلاقية الإنسانية في التعامل مع الهاربين من الموت، من الحرب، ومن الكارثة إلى أمكنة وبلدان أخرى ترفض استقبالهم. بمقابل جسد الضحية، ينتهي الفيلم بالجسد السوري الطامح إلى الحرية، يتحرر (سام) من التزاماته القانونية، يعود إلى مدينته الرقة ومعه حبيبته، ويدعي الموت على يد عناصر تنظيم داعش، فالجسد السوري مجبور على التحايل وعلى التخفي للاستمرار على قيد الحياة ضمن الشروط السياسية، الاجتماعية، والعالمية التي يعيشها.
من الجسد الضحية إلى الجسد العاشق أو الباحث عن الحرية، ومن الجسد المتضرر من الحرب إلى الجسد المهدد بالعنف، ومن جسد الثائر إلى الجسد المنمق ضمن أطر السلطة، هذه هي تنويعات مختلفة يقدمها الفيلم ضمن إطار تجليات الجسد السوري. تروي مسرحية (الفوضى والعبقرية، جان بول سارتر) حكاية ممثل في علاقته مع ذاته ومع الجمهور من الآخرين، فيقول: "أنا أمثل لكم عواطفكم، أجسد لكم كل مساء شخصيات مستلهمة من شخصياتكم، أقدم لكم كل ليلة عرضاً ترون فيه أنفسكم في حالات لا ترغبون الخوض فيها"، وكذلك الجسد السوري في هذا الفيلم، يمكن سماع الجسد السوري يكرر هذه العبارة إلى كل أجساد المعتقلين، أجساد اللاجئين، كل أجساد المتضررين من الحرب، كل أجساد العشاق، وأجساد الطامحين إلى الحرية في العالم.
* قدمت الترجمة العربية لعنوان الفيلم (الرجل الذي باع ظهره)، لكن الترجمة الدقيقة للعنوان الإنكليزي (The Man Who Sold His Skin)، وكذلك مضمون حكاية الفيلم تدفعنا إلى تفضيل عنوان (الرجل الذي باع جلده).