غلبت أحداث الحرب في غزة وأوكرانيا على عناوين الأخبار خلال الأعوام الماضية، فأصبحت الحرب السورية لا تحظى اليوم سوى بقدر ضئيل نسبياً من التغطية، على الرغم من أنها ما تزال متواصلة، لكنها وصلت لطريق مسدود يشوبه قلق كبير. إذ على مدار عقد من القتال، ارتكبت جرائم حرب وجرائم مريعة ضد الإنسانية معظمها على يد النظام السوري وحلفائه، كما نزح 13 مليون سوري من بيوتهم، وتشتتوا كلاجئين في دول أجنبية، لكنهم ظلوا يبحثون عن إجابات لتساؤلاتهم، ولعلهم ما يزالون يسعون وراء المحاسبة والانتقام.
يغوص فيلم "أثر الأشباح" وهو الفيلم الروائي الطويل الأول للمخرج جوناثان ميليت، عميقاً في نفس أحد الناجين من الحرب السورية، فيعري الكلفة التي تسبب بها النزاع، والتي يبدو أن العالم قد تجاوزها الآن.
القصة..
في ستراسبورغ الفرنسية، يمارس طالب اللجوء حميد (الذي يؤدي دوره الفنان آدم بيسا) وهو شاب يتمتع بحس أخلاقي عادي، مهناً غريبة، فيتنقل في أوساط المنفيين السوريين، بحثاً عن ابن عمه الذي فُقد في الحرب، ويستأجر بين الفينة والأخرى جناحاً لرجال الأعمال يتحدث إلى أمه العجوز عبر تطبيق زووم، بما أن أمه تقيم في مخيم للاجئين بلبنان، بينما يتظاهر هو بأنه يدير عملاً ناجحاً ببرلين. وبالتدريج، يكشف ميليت بأن حميد جزء من سر خطير، إذ هنالك منظمة افتتحت في أوروبا بحثاً عن مجرمي الحرب السوريين الذين تخفوا وغيروا أسماءهم وذابوا ضمن المجتمع الأوروبي. فيطارد حميد المدعو حرفاز، وهو مجرم حرب سيئ الصيت، بما أن الأخير قد عذب حميد أثناء فترة اعتقاله في سجون النظام السوري.
يصر حميد على البحث عن حرفاز على الرغم من عدم وجود أي شيء بين يديه يدله عليه سوى صورة غير واضحة له، بما أن رأس حميد كان مغطى بكيس أثناء تعذيب حرفاز له، ما يعني بأن كلاً من الجلاد والضحية لا يعرفان شكل بعضهما، لكن حميد يتذكر صوت حرفاز، ورائحة أنفاسه وعرقه، وصوت وقع أقدامه، وقوة ضرباته وصفعاته.
الصنعة..
بكل ما أوتي من ذكاء، يتجنب ميليت العودة بالذكريات إلى التعذيب، ويقاوم الدافع لتصوير العنف المجاني، لنجد بأن تلك الأحداث تُسرد بلسان حميد في شهادته التي يقدمها عما جرى له، فيخلف ذلك وقعاً أشد رعباً وقوة بكثير، وذلك لأن إبقاء التعذيب بعيداً عن المشهد المصور يبقي هوية حرفاز في الظل، ويزيد من حالة التشويق.
الحبكة..
تتعقب خلية حميد الجاسوسية رجلاً في ألمانيا اعتقاداً منها أنه حرفاز، لكن حميد يقبض على حسان بدلاً منه (والذي يؤدي دوره الممثل توفيق برهوم) ليصبح المشتبه به الرئيسي في القضية. وبكل يأس، يراقب حميد الرجل الذي يعتقد أنه جلاده وهو يحيا حياة حرمه منها، وذلك لأن حسان طالب جامعي يرتدي ملابس أنيقة، ويمارس الرياضة، وقد اندمج في المجتمع الفرنسي، لدرجة تمكن معها من إقامة علاقة عاطفية مع فتاة فرنسية. بينما بقي حميد يعاني من كسور في جسمه ومن اضطراب كرب ما بعد الصدمة الذي عطل حياته كثيراً حزناً على مقتل زوجته وابنته. ويؤكد ميليت لنا بأن هؤلاء الجواسيس أشخاص عاديون لم يمتهنوا التجسس بحياتهم، ولذلك نجد بينهم محامين ومدرسين نذروا حياتهم لقضية العدالة وهي قضية نبيلة كلها بطولة واستقامة، لكنها تعزل المرء بشكل كبير عن محيطه، كما تصيبه برضوض نفسية أعمق من تلك الصدمات التي يحاول أن يتخلص منها.
العطب..
وهذا بالضبط ما جرى لحميد الذي أصابته شكوكه وغموضه بحالة من الشلل دفعته لصد محاولات يارا (التي تلعب دورها حلا رجب) للتقرب منه، ويارا هذه لاجئة سورية بقيت تساعد حميد وتسعى للتقرب منه. كما يتجسد حجم الخسارة التي خلفتها الحرب السورية في هذا الفيلم من خلال شخصية نينا (التي تلعب دورها جوليا فرانز ريختر) وتمثل العنصر النسائي الألماني في مجموعة حميد، والتي تسعى للأخذ بثأر زوجها السوري الذي قتل في الحرب. إذ في وجه الجرائم الفظيعة التي ارتكبها مجرمو الحرب، والأمل الضعيف بإجراء محاكمات لهم لإدانتهم بتلك الجرائم، يجبرنا ميليت على التفكير في الجانب الأخلاقي للاغتيالات الميدانية التي تعتبر وسيلة من بين الوسائل القليلة المتاحة أمام الناجين للقضاء على هؤلاء المجرمين.
نجما العمل..
يمضي بيسا عميقاً في تجسيد شخصية حميد المعذب بالمعنى الحرفي والمجازي، فيقدم لنا صورة آسرة لرجولة جريحة وروح مقيدة، إذ في المشاهد القليلة التي يحظى فيها بلقطة عن قرب، تعبر نظراته الثاقبة القلقة عن مشاعر كثيرة. أما أداء برهوم فقد كان جذاباً بطريقة استثنائية، إذ في مشهد يدور فيه حوار طويل أداه هذا الممثل، نحس بجاذبية فريدة من نوعها على الشاشة. ومما رفع قيمة العمل وجود الممثلين برهوم وبيسا فيه، إذ إن برهوم كان بطل عملين من إخراج طارق صالح هما من السماء، ومؤامرة القاهرة والذي فاز بجائزة في مهرجان كان قبل عامين، أما بيسا فقد فاز بجائزة أفضل ممثل في فيلم نظرة محددة عام 2022 للمخرج لطفي ناثان، عن فيلم "حرقة" الذي عرض على منصة نتفليكس.
النقد..
يتمتع ميليت بخبرة في مجال صناعة الأفلام الوثائقية، وهذا ما ساعده على البدء بإخراج الأفلام الروائية، ولهذا نجده يصور فرنسا في زمننا الحالي ومخيمات اللاجئين في لبنان بكل واقعية، أما مشاهد التعقب السري للمشتبه بهم وتصويرهم فتبدو سهلة التنفيذ جداً، بما أن المجتمع الحديث جعل عملية المراقبة تتم من دون أدنى جهد. في حين لا نجد أياً من السقطات التي تظهر في أول تجارب إخراج أفلام طويلة، على الرغم من أن بعض الحوارات في اجتماعات خلية التجسس بالغت في تفسير الأمور، فبدت كعمليات تهجم يشنها المتكلم في بعض الأحيان. وقد كان من الممكن قص المقدمة التي تدور أحداثها في سوريا والتي جرت قبل عامين من بداية أحداث الفيلم.
بيد أن فيلم "أثر الأشباح" يخلف انطباعاً لا يمحى، لاسيما بالنسبة لنهايته القائمة على فكرة التعويض والتي تتخذ فيها قرارات لمكافأة الجمهور على ما استثمره في الفيلم من عواطف وأخلاق، كما أن الفيلم ينقل لنا إحساساً بالأمل بالنسبة للنازحين، ويقدم خارطة طريق للمستقبل، مع إمكانية الغفران.
عُرض هذا الفيلم لأول مرة خلال أسبوع النقاد ضمن فعاليات مهرجان كان السينمائي لهذا العام.
المصدر: The Film Stage