خلال شهر آذار، وقبل أيام من بدء شهر رمضان المعظم، امتد طابور طويل عند أحد الأبنية في منطقة أكسراي التي أصبحت تعرف باسم "سوريا الصغرى"، وذلك لأن جالية كبيرة من المهاجرين تقطن فيها. هناك انتظر الزبائن الجياع بنفاد صبر حتى يأكلوا في مطعم افتتح حديثاً اسمه: الشيف عمر، والذي أصبح يعرف بأنه أفضل مكان تقدم فيه الشاورما بمدينة إسطنبول. ويعتبر هذا المطعم الذي افتتح حديثاً أحدث مشروع للشيف عمر أبو لبدة الدمشقي المولد والمشهور عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والذي توسعت شعبيته بشكل كبير منذ جائحة كوفيد-19.
ولكن على الرغم من تلك الشهرة والمشاهدات الكثيرة، أقسم بعض السوريين على عدم تناول أي وجبة في مطعم الشيف عمر، بعدما أصبح هذا الطاهي محط جدل كبير، وصار منتقدوه يزعمون بأنه بات بعيداً عن الأزمة الإنسانية التي طال أمدها في سوريا، كما ادعوا بأنه موال لرئيس النظام بشار الأسد.
حتى أنت أيها "الأكل"!
على الرغم من أن الأسد بقي منبوذاً على الصعيد الدولي، وبقيت العقوبات تخنقه، قامت حكومته خلال العام الفائت بتطبيع العلاقات مع عدد من الدول العربية التي تنظر إلى حكمه على أنه حقيقة مؤسفة، وفي محاولة لإعادة الاستثمارات الاقتصادية واستقطابها، وجهت اتهامات لحكومة النظام بتجنيد المشاهير والمؤثرين على يوتيوب وأصحاب مدونات الرحلات وذلك حتى يقوموا بتبييض جرائم الحرب التي ارتكبها النظام ولتصدير الفكرة القائلة بإن البلد عاد ليقف على قدميه من جديد.
يزعم مناهضو الشيف عمر بأن لديهم أدلة تثبت بأن لديه ميولاً لموالاة النظام، لكنه أنكر ارتباطه بنظام الأسد. وبصرف النظر عن الموضع الذي تكمن فيه الحقيقة، فإن صعوده الصاروخي خير دليل على أنه حتى الأكل الذي يحظى باحترام كبير في الثقافة السورية لم يعد بمعزل عن الانقسامات السياسية العميقة التي قسمت البلد والسوريين في الشتات منذ بداية الحرب السورية قبل ثلاثة عشر عاماً.
صعود صاروخي
في البداية، فر الشيف عمر من سوريا هرباً من الحرب الدائرة فيها عام 2012، وانتقل للعيش في السودان الذي تحول إلى ملجأ آمن لم يتوقعه أحد بما أنه كان بوسع السوريين السفر إليه والعمل فيه من دون تأشيرة. ثم في عام 2014، وصل الشيف عمر على متن الطائرة إلى إسطنبول، حيث تدرب ليصبح طباخاً في أكاديمية للطهي هناك. وفي عام 2020، وعند بداية تفشي كوفيد-19، حصد وبسرعة ملايين المتابعات الحقيقية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، إذ صار يدعو السوريين الهاربين بسبب الحرب والمعزولين بسبب حالة الإغلاق لمناقشة وصفات الطعام وطهيها معه عن بعد. واليوم، يفخر الشيف عمر بوجود 7.4 ملايين متابع لديه عبر فيس بوك و3.5 ملايين آخرين عبر يوتيوب.
سفير المطبخ الدمشقي
في معظم فيديوهاته، يقلد الشيف عمر شخصية من شخصيات مسلسل باب الحارة الذي عرض للمرة الأولى عام 2006، وهذا المسلسل يصور الحياة الدمشقية في ثلاثينيات القرن الماضي، بعد فترة قصيرة من خضوع سوريا لحكم الاستعمار الفرنسي بعد خروج الحكم العثماني منها. ويعتبر هذا المسلسل المسلسل الأكثر شعبية في العالم العربي، ولذلك يظهر الشيف عمر بلباس دمشقي تقليدي، وهو عبارة عن صدرية وشروال مع ملعقة خشبية وضعها ضمن وشاح مزهر مكان المسدس أو الخنجر الذي كان الرجال يتباهون بوضعه وفقاً للتقاليد في ذلك الزمان. ينظر الشيف عمر مباشرة إلى الكاميرا وهو يبتسم بمودة، ويستعين بلهجته الدمشقية ليصل إلى جمهوره ويشده إليه.
يستقطب الشيف عمر ملاييناً من النازحين السوريين في مختلف بقاع العالم ممن يختبرون لغات جديدة، ومشاعر جديدة، ونكهات جديدة، ليعلمهم كيف يعيدون تكوين المطبخ السوري الكلاسيكي عبر الاستعانة بمكونات مختلفة ضمن وصفات تعتمد على سعة الحيلة وسهولة التطبيق، ويشمل ذلك طريقة مبتكرة لصنع الكبة المقلية باستخدام الخبز المقطع، وطريقة لتحضير فطيرة على الموقد. وفي إحدى المرات أعد الشيف عمر طبق المحشي الذي يحتاج إلى جهد جبار داخل غرفة في فندق، كما وافق على خوض التحدي المتمثل بتحضير إفطار رمضاني كامل خلال ساعة عبر بث مباشر على يوتيوب.
وكغيره من الطهاة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، يعتبر الشيف عمر سفيراً للمطبخ السوري، إذ خلال إحدى الحلقات، أخذ يفتن أحد ضيوفه القادمين من أستونيا بأشكال وأنواع عديدة للكبة، إذ منها المقلية والمشوية والمغلية، بما أن السوريين يعشقون هذا الطبق. كما يعتبره متابعوه السوريون وسيلتهم للعودة إلى وطن يفتقدونه، وعلى الرغم من أن نكهاته تعيد مشاهديه إلى أيام طفولتهم، لا يخشى الشيف عمر من كسر قواعد المطبخ السوري ومحرماته عبر تقديم وصفات بعيدة عن التقاليد السورية، ناهيك عن تقديمه لمتابعيه نصائح بالنسبة لشراء اللحم المناسب لصنع البرغر في بلد جديد فضلاً عن تعليمه للمتابعين طريقة تحضير بيتزا في المقلاة.
يمثل افتتاح مطعم الشيف عمر المبني على طريقة البيوت العربية في سوريا خلال شهر آذار أقصى طموحاته الكثيرة، إذ يقوم مطعمه على الجمع بين الإبداع في الطهي والبراعة في الإعلان. ولهذا، وفي ليلة قص الشريط، حجزت كل طاولات المطعم، وعرضت العملات التي قدمها زبائن زاروا المطعم من قبل بعد أن قدموا من لبنان والأردن والعراق ودول الخليج. كما عرض المطعم صور الشيف عمر وهو يحمل بكل زهو أرغفة الخبز ضمن موقع يحاكي طبق الأصل مطبخه الذي يظهر منه عبر قناة الطهي الخاصة به، وذلك حتى يستمتع المعجبون الجوعى بالتقاط الصور هناك.
تناول فريق فورين بوليسي الشاورما هناك والتي رافقها خبز التنور وصلصة حارة مع قليل من الليمون (وقد كانت تلك الوجبة لذيذة، لكنها ليست الأجود بالتأكيد في تلك المدينة). كما قدموا لنا معها مشروباً غازياً وهو مندرين إكستريم، بما أن هذا المطعم كغيره كثير من المطاعم في تركيا يقاطع منتجات الكولا الأميركية بسبب الدعم المستمر الذي تقدمه الولايات المتحدة لإسرائيل. وقد اشتملت وجبة أخرى مميزة من الوجبات السريعة الموجودة ضمن قائمة طعام ذلك المطعم على قطع دجاج خالية من العظم والتي تقدم مع صلصة السوشي، وأصابع الموزاريلا، ووجبة برغر تاكو بالبصل.
بيد أن ما لم يعلن مطعم الشيف عمر الجديد عنه هو تعرض هذا المؤثر السوري في مجال الطبخ لسلسلة من الانتقادات طوال العامين الماضيين، بل حتى الشاورما التي يقدسها لم تسلم من النقد الحاد هي أيضاً.
من الأكل إلى السياسة
في عام 2022، اتهم نشطاء المعارضة الشيف عمر بالمجاهرة بالإعلان عن حملة تبرعات لصالح النازحين السوريين في إدلب الواقعة شمال غربي سوريا، التي تعتبر المعقل الأخير للمعارضين السوريين المناهضين للأسد، لكنه في الوقت ذاته ظهر في مقابلة عبر أثير إذاعة موالية للنظام. هذا ويعيش أكثر من 90% من سكان إدلب البالغ عددهم 4.5 ملايين تحت خط الفقر، و1.9 منهم يعيشون في مخيمات. ويبدو أن الشيف عمر شكك في فعالية التعامل مع الجمعيات الخيرية مقارنة بتقديم الدعم بشكل مباشر، وهذا ما أثار غضب السوريين الذين صبوا جام سخطهم عليه عبر الإنترنت.
لا يختلف الجدل حول الشيف عمر عن المزالق التي يتعرض لها أغلب المشاهير والمؤثرين بطريقة أو بأخرى. إذ لا وجود لأي تصرف أو موقف يعجب الجميع عبر الإنترنت، فمثلاً استاء بعض متابعي الشيف عمر المحافظين اجتماعياً عندما عرفوا بأن زوجته لا ترتدي الحجاب. وفي نواح أخرى تصبح مشكلات الشيف عمر سورية بحتة، إذ ينتقده بعض السوريين ويصفونه بالرمادي لأنه لم يحدد موقفه السياسي تجاه النزاع بشكل علني.
بدأ النزوح السوري إلى تركيا منذ بداية الانتفاضة السورية في عام 2011، ولكن الغالبية الساحقة من السوريين وصلت إلى تركيا براً خلال الفترة ما بين 2015 و2016، بعد أن شنت حكومة النظام السوري عمليات عسكرية لا ترحم لاستعادة المناطق التي كانت بيد المعارضة. وتشير استطلاعات الرأي بأن أغلب اللاجئين السوريين في تركيا لا يرغبون بالعودة إلى بلدهم تحت أي ظرف. ومع ذلك ما يزال الشتات السوري في تركيا بعيداً كل البعد عن التجانس، إذ هنالك نسبة ضئيلة منهم وصلت إلى تركيا جواً، وهؤلاء أتوا بحثاً عن فرص اقتصادية لا بسبب عوامل الطرد السياسية.
في الوقت الذي يقول الشيف عمر بأنه يهدف لفصل الطبخ عن السياسة، يحكم عليه غالبية السوريين في الشتات، وخاصة من يعارضون النظام، بأنه لا يستخدم منصته لتوجيه أي شيء ضد الأسد.
ثم إن أغلب الصحفيين والناشطين المعارضين في الشتات يصفون الشيف عمر بأنه داعم صريح لنظام الأسد بسبب صمته هذا، بل حتى أمه التي أعلنت حربها عليه عبر وسائل التواصل الاجتماعي عندما انضمت لقناة منافسة مخصصة للطهي برفقة ابنها الأصغر، صرحت عبر الإنترنت بأن الشيف عمر مرتبط بضباط مخابرات من أصحاب الرتب الرفيعة ضمن حكومة النظام، وبأنها تحتقره لعدم مساعدته لأخيه عندما فرضت عليه الخدمة العسكرية الإجبارية. فرد الشيف عمر على تلك المزاعم عبر فيديو نشره على يوتيوب قال فيه: "كلا، إنها أمي! فكيف لي أن أدخل في حرب مع أمي؟!"
منذ الافتتاح الكبير للمطعم، انتشرت عبر الشابكة دعوات لمقاطعته أطلقها ناشطون ومؤثرون، وأتى ذلك رداً على مزاعم حول رفع الشيف عمر لعلم النظام السوري (لكن في أثناء زيارة فورين بوليسي للمطعم لم يكن هذا العلم موجوداً)، بما أن المعارضة السورية تستخدم راية مختلفة وهي عبارة عن نسخة معدلة عن علم البلد الذي رفع للمرة الأولى في عام 1932. وبالنسبة لغالبية السوريين الذين يعيشون في تركيا، فإن رؤية علم النظام في بلد يشهدون فيه حالة كره متصاعدة تجاههم كأجانب مع تصاعد حملات المداهمة والاعتقالات والترحيل تزيد طين حياتهم بلة.
أثارت قصة العلم، سواء أكانت مفبركة أم لا، نفور بعض السوريين الذين كانوا يحبون الشيف عمر وأكلاته، وهذا ما دفعه للقول عبر إنستغرام بأن تلك المزاعم ما هي إلا "حملة تشهير".
لم تكن تلك المرة الأولى التي يُستهدف بها الشيف عمر ظلماً كما قال، إذ لديه كثير من الخصوم ومنذ أمد بعيد، وهؤلاء يزعمون بأنه يفتتح كل تلك المشاريع فقط من أجل الشهرة. وعقب الزلزالين المدمرين اللذين ضربا سوريا وتركيا في 6 شباط 2023، سعى الشيف عمر للتصدي لكل من انتقدوه عبر دخول الشمال السوري لتوزيع السلل الغذائية.
وعن ذلك يقول: "أي شخص في مكاني بوسعه أن يعيش في دبي" بما أن هذه المدينة رمز للترف والرفاهية في الشرق الأوسط، ويتابع بالقول: "لكن هذه مسؤوليتي، فأنا لا أنام الليل بسببها كما أنها لا تمنحني أي إحساس بالراحة"، وفي الوقت ذاته، يواصل الشيف عمر همزه ولمزه لمن ينتقده فيصفهم بأنهم يستعينون: "بالقنوات الرخيصة، ومجموعات نقل الأخبار" ضده، وهذا ما يثير تساؤلات حول ما إذا كان بوسع السوريين على انقساماتهم أن يجتمعوا حول شيء واحد يوحدهم كما الطعام.
وعلى الرغم من ذلك يعتقد بعض المعارضين السوريين بأن المحاولات الساعية لإلغاء الشيف عمر لن تخلف أي أثر سوى تعقيد مسألة توحد السوريين، وإعادتهم لبناء بلدهم، وهذا ما دفع الصحفي السوري المعارض نضال معلوف للقول في أحد فيديوهاته التي ينشرها عبر يوتيوب: "إننا بحاجة أشخاص مثل الشيف عمر والذين يعتبرون أمثلة ناجحة يحتذى بها، لأن نجاحه يعتبر نجاحاً لنا".
المصدر: Foreign Policy