في صباح يوم ربيعي وبالقرب من منطقة عراب اللويزة في جنوبي لبنان، ارتدت زينب هاشم، 39 عاماً، زياً غير تقليدي، يتألف من سترة سميكة، وقناع التصق بوجهها في هذا الجو الحار، وأخذت تلوح بجهاز كشف معدني على بعد بضع خطوات من التراب أمامها قبل أن تعلن عن سلامة البقعة. أخذ جهاز الكشف عن الألغام الذي حملته يصدر صوت قرقعة، لكنه يحمي أرواح الناس من الألغام الأرضية، ويفكك العبوات الناسفة التي خلفها النزاعان المحلي والإقليمي قبل عقود من الزمان.
ما بين عامي 1975-1990، عاش لبنان حرباً أهلية احتلت فيها إسرائيل أجزاء شاسعة من الجنوب اللبناني وخلفت الآلاف من الألغام المضادة للأفراد والدبابات ضمن الأراضي اللبنانية على طول الحدود المشتركة بين لبنان وإسرائيل. وفي عام 2006، دفعت الحرب التي امتدت شهراً بين ميليشيا حزب الله اللبنانية وإسرائيل الأخيرة إلى قصف لبنان بأربعة ملايين قنبلة عنقودية، 90% منها تقريباً أسقطت خلال الأيام الثلاثة الأخيرة من القتال، وعند سقوطها على الأرض، تحرر القنابل العنقودية الكثير من القطع المتفجرة الصغيرة ضمن نطاق منطقة واسعة، وهناك من يقدر وجود مليون قطعة غير منفجرة منها حتى اليوم، وحجم تلك العبوات المعدنية القاتلة بحجم علبة كولا وبوسعها أن تبقى في الأرض لسنوات وسنوات.
منذ مدة قريبة، دفعت الآثار الجانبية للنزاع في سوريا مقاتلي تنظيم الدولة وجبهة النصرة للسيطرة على أجزاء من شمال شرقي لبنان بصورة مؤقتة، وهناك خلفوا عبوات ناسفة متفجرة في المناطق التي سيطروا عليها براس بعلبك وعرسال.
انسحب الإسرائيليون من الجنوب اللبناني عام 2000، والآن تشرف قوات حفظ السلام الأممية على المنطقة العازلة الصغيرة، والتي تعادل مساحتها مساحة طريق ترابي صغير بين لبنان وإسرائيل، وقد تم تحديد هذا الطريق على أنه الخط الفاصل لانسحاب القوات الإسرائيلية، فصار يعرف باسم الخط الأزرق. بيد أن رقعة الأرض التي تعمل فيها زينب تشرف عليها نقطة عسكرية إسرائيلية تقع على بعد بضع مئات من الأمتار.
للألغام ضحايا كثر
عندما بدأ العمل بتفكيك الألغام في لبنان عام 2000، قدر عدد الأراضي التي انتشرت فيها الألغام الأرضية والذخائر غير المنفجرة بـ37 ألف فدان تقريباً، وكان الجيش هو من يقوم بتلك المهمة في بداية الأمر، ثم بدأت عملية إزالة الألغام لأغراض إنسانية بعد عام على ذلك، وذلك عندما بدأ الفريق الاستشاري المعني بالألغام، وهو منظمة بريطانية غير حكومية، بالعمل في لبنان، وعلى الرغم من إزالة الألغام مما يربو عن 80% من الأراضي التي انتشرت فيها، لا يمكن للعمل أن يسير بوتيرة سريعة بما فيه الكفاية.
واليوم، في الوقت الذي يتعرض فيه لبنان لأزمة اقتصادية خانقة، لم يعد بوسع الجهود الساعية لنزع الألغام أن تحمي أرواح الناس وكذلك الأمر بالنسبة لضمان الأمن الغذائي لهم، والتنمية الاقتصادية. ولذلك صار ملاك الأراضي يرغبون بزراعة أراضيهم التي تنتشر فيها الألغام، فيما يخاطر آخرون بعبور تلك المناطق المليئة بالألغام من أجل جمع الحطب أو العثور على خردة المعادن.
غير أن القيام بكل ذلك أمر محفوف بالمخاطر، إذ منذ بداية الأزمة المالية بلبنان في عام 2019، تضاعف عدد من قتلوا أو أصيبوا بسبب لغم أو ذخيرة غير منفجرة كل عام، وفي عام 2021، وقع 21 شخصاً ضحية لانفجار لغم أرضي، وتوفي ستة منهم، وخلال العام الفائت، وقعت 22 حادثة تسببت بإصابات عديدة وحالة وفاة واحدة. وفي شهر شباط من هذا العام، قتل علي حسين أطرش، 12 عاماً، برفقة شقيقته فاطمة، 10 سنوات، بانفجار لغم أرضي في شمال شرقي لبنان في أثناء جمعهما لخردة المعادن بهدف بيعها.
منذ عام 2019، فقدت الليرة اللبنانية أكثر من 98% من قيمتها أمام الدولار، وبحسب ما أوردته هيئة الأمم المتحدة، فإن معدلات الفقر قد تضاعفت، فأصبح أكثر من 80% من الشعب اللبناني اليوم يعيش ما دون خط الفقر، كما حرم انهيار القطاع المصرفي معظم اللبنانيين من مدخراتهم، في حين أصبح البرلمان المعطل عاجزاً عن التوافق على رئيس جديد للدولة منذ أشهر.
العمل بإزالة الألغام مايزال مستمراً
ولكن حتى في الوقت الذي تنهار فيه دولة لبنان بعدما أصيبت بالعجز والشلل، مايزال العمل على إزالة الألغام حتى الآن يسير على قدم وساق، وذلك بفضل الجيش اللبناني الذي التزم بهذه المهمة، وبفضل المنظمات الإنسانية الأجنبية المعنية بإزالة الألغام، إلى جانب المئات من مفككي الألغام اللبنانيين، إذ وسطياً يحصل مفكك الألغام على راتب يعادل ألف دولار بالشهر، وذلك بحسب أقدميته في المهنة، ويعتبر هذا الراتب جيداً في ظل الظروف الاقتصادية الحالية للبلد.
قبل أن تبدأ بإزالة الألغام، درست هاشم العلوم السياسية بالجامعة اللبنانية، وعندما حان الوقت لتفتش عن عمل لها بعد تخرجها، رأت إعلان التوظيف الذي نشره الفريق الاستشاري المعني بالألغام، وعنهم تقول: "كانوا يبحثون عن مفكك للألغام، فبدا لي هذا العمل مختلفاً وممتعاً".
معظم كوادر الفريق الاستشاري المعني بالألغام من اللبنانيين من أمثال هاشم، وبالإضافة إلى عمل هذا الفريق في الجنوب اللبناني، تمارس هذه المنظمة عملها في سهل البقاع بشمال شرقي لبنان، أي في عرسال وراس بعلبك.
بعد عملها في هذا المجال طوال ثماني سنوات، لم يعد ابن زينب هاشم البالغ من العمر 15 عاماً، ولا ابنتها وعمرها 12 عاماً يخافان على رزق أمهما، بيد أن والدتها ما تزال تخاف عليها دوماً، وذلك لأن العمل يتسم بالصعوبة غالباً، كما يمكن للحرارة، خاصة في الصيف أن تتحول إلى عامل من عوامل الصعوبة عندما يرتدي مفكك الألغام هذه البزة السميكة. ثم إن بعض الأراضي التي تنتشر فيها الألغام في لبنان تتميز بوعورتها وصعوبة البحث فيها، وهنالك دوماً خطر قائم ألا وهو انفجار اللغم قبل السيطرة عليه.
ولكن لهذا العمل مزاياه أيضاً، إذ تقول هاشم: "أدرك بأن كل لغم أو ذخيرة أفككها يعني أن عدد الانفجارات التي قد تضر بأحد من الناس قد نقص واحداً".
طلائع المستفيدين
كان أبو غسان، 67 عاماً، أحد من استفادوا من استمرار العمل بنزع الألغام في جنوبي لبنان، إذ بعد فترة قصيرة من تنظيف أول جزء من قطعة الأرض التي يملكها والتي تقع بالقرب من الخط الأزرق في عام 2020، بدأ هذا الرجل بزراعة بستانه، أما زوجته التي جلست في أثناء لقاء فورين بوليسي معه في مكان قريب فقد أخذت توزع الخوخ على علب بمساعدة ثلة من النسوة اللواتي هربن من الحرب في سوريا.
يزرع أبو غسان حالياً خمسة فدادين من الأرض التي يعمل فيها ما بين 15-20 مزارعا سوريا، وتطرح الأرض 25 طنا من الخوخ والجوز كل عام، إلى جانب كميات الدراق والخضراوات التي يزرعها. وينتظر اليوم أن يتم إخلاء الألغام من مساحة قدرها خمسة فدادين في أرضه القريبة من هذه الأرض قبل أن يتمكن من توسيع إنتاجه.
يعتبر الفريق الاستشاري المعني بالألغام أحد الفرق القليلة التي تعمل على إزالة الألغام في لبنان، وكلها تعمل تحت مظلة المركز اللبناني لمكافحة الألغام التابع للقوات المسلحة اللبنانية، ويشرف الجيش على العمليات الإنسانية لإزالة الألغام ويقوم بتنسيقها، إذ يعطي الأولوية للأراضي الواجب إخلاؤها من الألغام، ويوزع المهام على المنظمات التي تعمل بنزع الألغام، ثم يجري تقييماً نهائياً عقب الإعلان عن المنطقة منطقة آمنة.
مع تراجع رواتب الجيش في لبنان بالإضافة إلى انهيار الليرة اللبنانية، دفعت الأجور الضعيفة الجنود إلى ترك الجيش، ولكن بالحكم على منطقتين تم العمل فيهما على نزع الألغام، تبين بأن عمليات المغادرة لم تؤثر على المركز اللبناني لمكافحة الألغام أو على التزام الجيش بنزع الألغام، إلا أن هذه العملية تحولت إلى مصدر ضغط آخر لا بد وأن يشتد بمرور الوقت.
والأدهى من ذلك هو أن العمل على إزالة الألغام يقوم على المانحين الأجانب، بيد أن الالتزامات المالية الأجنبية المخصصة للعمل على نزع الألغام في لبنان قد هبطت من 19.7 مليون دولار في عام 2019 إلى 12.1 مليون دولار في عام 2023. ومن الأسباب التي صرفت اهتمام بعض الدول المانحة عن تلك العملية وأدت إلى تقليص الدعم: الحرب في أوكرانيا، وكذلك السياسات الداخلية للدول المانحة والأحداث الجيوسياسية التي تجري في المنطقة على نطاق أوسع.
تقوم كل من النرويج والولايات المتحدة وهولندا وفرنسا واليابان بدعم عمليات الفريق الاستشاري المعني بالألغام في لبنان، إذ في أواخر عام 2020، قامت المنظمة بتشغيل 15 فريقا لنزع الألغام في وقت واحد، ولكن بحلول عام 2023، تراجع عدد الفرق إلى تسعة.
يخبرنا علي طهماز، 39 عاماً، وهو شاب يعمل مديراً للعمليات الميدانية لدى الفريق الاستشاري المعني بالألغام بمنطقة عراب اللويزة حيث تعمل هاشم، بأن تخفيض عدد الموظفين يتسبب بإبطاء العمل، ويقول: "تعين علينا التخلي عن بعض الأشخاص بسبب خفض التمويل، ولكن هنالك ألغام بحاجة لإزالة، وهناك أشخاص مدربون ينتظرون أن يعملوا، إلا أننا لا نستطيع أن نوظفهم في الوقت الحالي"، ثم وقف على مبعدة من لغم مضاد للدبابات لم ينفجر بعد بانتظار من يقوم بإبطال عمله بوساطة عصا الثرميت التي تحرق المواد المتفجرة في اللغم دون أن تفجره.
بدأ طهماز العمل في مجال نزع الألغام في عام 2006، وذلك بعيد انتهاء الحرب بين حزب الله وإسرائيل. وفي مطلع نيسان الماضي، تجدد تبادل إطلاق النار لفترة وجيزة بين حزب الله وإسرائيل على الحدود الجنوبية للبنان، بيد أن التوتر خمد قبل تصعيد الأمر ليتحول إلى قتال، إلا أن خطر قيام نزاع على نطاق أوسع مايزال قائماً. ولهذا فإن قيام نزاع جديد قد يضاعف من الأعباء التي يتعين على العاملين في مجال نزع الألغام، من أمثال طهماز، القيام بها.
على الرغم من الوتيرة البطيئة للعمل، يخبرنا طهماز بأنه يستمتع عندما يرى فوائد عمله، إذ يقول: "مع كل منطقة تخليها من الألغام، ترد الجميل لتلك الأرض، وتفكر بما يمكنك أن تزرعه فيها وتحصده منها".
المصدر: Foreign Policy