في مخيم البداوي للاجئين على تخوم مدينة طرابلس اللبنانية، جلس شاب فلسطيني اسمه محمد بجانب المدخل المحصن الذي يحرسه جنود، وأخذ يتحدث مع أصدقائه أمام متجر تملكه عائلته يبيع الدجاج والديكة والقطط الصغيرة وقرد "كابوتشين" في قفصه بمبلغ 500 دولار أميركي.
عندما سألناه عن الانتخابات النيابية اللبنانية التي أجريت الشهر الماضي، رد محمد، الذي رفض أن يكشف لنا اسم عائلته، بشكل متوتر وقال: "هذا الأمر لا يعنينا بتاتاً".
وتلك المشاعر يشاطرها محمد مع غالبية اللاجئين السوريين والفلسطينيين في لبنان. أما بالنسبة لغالبية اللبنانيين من فئة الشباب والناشطين، فإن نتائج الانتخابات تعتبر مصدراً للسعادة والبهجة وسط الأزمة الاقتصادية المستمرة والفساد المستشري. إذ تم انتخاب 14 مرشحاً مستقلاً مناهضاً للمؤسسات ليمثلوا الشعب في مجلس النواب، ما خلق تحولاً بسيطاً ولكن مهماً في المشهد السياسي اللبناني. إلا أن اللاجئين في تلك الدولة، بما أنهم يتعرضون للتمييز في مختلف مجالات الحياة كل يوم تقريباً، لم يشاطروا الشعب اللبناني تلك السعادة الآنية، وذلك لأن الانتخابات لا تحمل معها أي شيء مبشر بالنسبة لهم، خاصة مع انخفاض قيمة الليرة اللبنانية يوماً بعد يوم.
في معاقل اللاجئين في لبنان، ابتداء من البداوي وغيره من مخيمات اللجوء الفلسطينية، وصولاً إلى التجمعات غير الرسمية للسوريين، عبّر جميع اللاجئين عن حالة العجز ذاتها، بعدما فقدوا الأمل في أي مستقبل لهم بلبنان منذ أمد بعيد، إذ يقول أسامة العلي، وهو رئيس النادي الثقافي الفلسطيني في البداوي: "لا يوجد أي مؤشر يدل على أن الأمور ستتحسن بفعل الانتخابات، ولهذا لست بمتفائل".
لا تخفى أسباب هذا اليأس على أحد، وذلك لأن بيروت رفضت منح صفة قانونية للاجئين في لبنان منذ أن أتى الفلسطينيون إلى البلاد بعدما أجبروا على ترك بيوتهم خلال حرب 1948 والتي انتهت بتشكيل دولة إسرائيل. والآن، وبالإضافة إلى اللاجئين الفلسطينيين الذين يعيشون في لبنان والذين وصل عددهم إلى نحو 192 ألف تقريباً، أصبحت لبنان تستضيف قرابة 1.5 مليون سوري، أتوا إليها هرباً من الحرب التي قامت في بلادهم في عام 2011، واعتباراً من عام 2020، أصبح أكثر من 80% من اللاجئين السوريين في لبنان بلا إقامة قانونية.
يشكل اللاجئون ربع تعداد السكان في لبنان، أي إن نسبتهم بالنسبة لعدد السكان تعتبر الأكبر على مستوى العالم. ويعيش ربع السكان مقيدين بسبب تحديد فرص العمل أمامهم، وكذلك الأمر بالنسبة للسكن والتعليم والرعاية الصحية. ومن بين القيود الأخرى التي فرضت عليهم حرمانهم من ممارسة أنشطة حرفية بالنسبة لمعظم المهن، ابتداء من الطب وصولاً إلى القانون، كما أنهم محرومون من شراء أي عقار باسمهم. ثم إن المساعدات النقدية التي تأتيهم عبر برامج وكالات الأمم المتحدة من خلال تحويلات شهرية تصلهم بالدولار الأميركي ساعدتهم على عدم التعثر مالياً أو الإفلاس بشكل كامل، إلا أن غالبية العائلات الفلسطينية والسورية اللاجئة ألفت نفسها في وضع ميئوس منه بعدما تدهور الاقتصاد اللبناني بشكل سريع.
في هذه الدورة الأخيرة للانتخابات، منح بعض المرشحين المستقلين الجدد للاجئين بصيصاً من الأمل، إلا أن معظمهم تجاهلوهم وركزوا بدلاً منهم على الأزمة الاقتصادية. وهنا من الحق أن نقول إن اللاجئين، الذين تحولوا إلى كبش فداء على يد السياسيين التقليديين الذين ادعوا أنهم يسرقون فرص العمل، ويثقلون كاهل البنية التحتية المدنية، ويعيشون على المساعدات الحكومية، غابوا تماماً عن الخطاب السياسي منذ هبوط قيمة العملة اللبنانية في أواخر عام 2019، بالرغم من أن التمييز المستمر الذي تمارسه الحكومة بحقهم لم يغب عن المشهد أبداً.
سياسيون ضد السوريين
في 14 أيار، أي قبل الانتخابات بيوم، طلبت محافظة النبطية وقضاء البقاع الغربي من كل البلديات منع اللاجئين السوريين من الخروج من بيوتهم لمدة 38 ساعة في ظل عملية "إغلاق" غير رسمية. وقد لعب الخطاب في ذلك القرار الذي أشار إلى السوريين بوصفهم "المهاجرين" وليس "اللاجئين" على إثارة الخوف من تهديد السوريين لفرص العمل التي يمكن أن تتوفر للمواطنين اللبنانيين. وفي أواخر الشهر ذاته، وجهت انتقادات من قبل ناشطين وأكاديميين للنائب سنثيا زرازير التي خرجت من رحم الحركة الاحتجاجية التي قامت في عام 2019، وذلك بسبب تغريدة كتبتها في عام 2016 دافعت فيها عن إبادة السوريين بشكل جماعي. وفي مقابلة أجريت معها مؤخراً عبر إحدى المحطات التلفزيونية المحلية، اعتذرت سنثيا عن اختيارها لبعض الكلمات، لكنها لم تعتذر عن موقفها تجاه اللاجئين السوريين.
بالرغم من انتقاد المنظمات الحقوقية له ووصفه بأنه عنصري وتمييزي، إلا أن حظر التجول فرض مرات كثيرة على السوريين في لبنان خلال فترات حساسة، مثل بداية انتشار جائحة كوفيد-19، وخلال عاشوراء التي يحيي فيها المسلمون الشيعة ذكرى مقتل الإمام حسين، حفيد النبي الكريم محمد. فلقد زعم حسان فقيه محافظ النبطية، في مقابلة أجرتها معه صحيفة الوطن بأبوظبي بأن حالات حظر التجول ما هي إلا "إجراء روتيني وليس بعنصري... بل إنه إجراء احترازي بسبب وجود أعداد كبيرة من السوريين هناك، ولأننا لا نريد وقوع أي مشكلة".
انفجار بيروت غيّر مصير السوريين
كان محمد الكنو، 27 عاماً، وهو حارس مبنى ضمن مساحة خاوية تقريباً مخصصة للمكاتب بالقرب من ميناء بيروت، أحد السوريين الذين طلب منهم البقاء في بيوتهم مع أهلهم يوم الانتخابات، وذلك في مدينة صيدا الساحلية. أتى محمد إلى لبنان في عام 2008 ليس كلاجئ بل كعامل بناء، وبمرور الوقت، أحس بأن الحظ كان حليفه، إذ بفضل عزيمته وحظه، تمكن من الحصول على شهادة في الرسم الهندسي من أكاديمية لبنانية. وقبل ثلاث سنوات، أي بعد عقد أمضاه في العمل والكدح، حقق محمد أحلامه، فصار يعمل رئيساً مشرفاً على العمال في ستة مبان لصالح شركة عقارية قدمت له سيارة وبيتاً وراتباً كبيراً يعادل 1400 دولار بالشهر. ولكن مع غرق لبنان أكثر فأكثر في بحر الأزمة الاقتصادية، وازدياد معدلات التضخم، بدأ راتبه يتضاءل، ثم في 4 آب 2020، انفجر ما يقارب من 3 آلاف طن متري من نترات الأمونيوم في ميناء بيروت، فقتلت تلك الكمية ما لا يقل عن 218 شخصاً، بينهم شقيقته سدرة التي كان عمرها 15 عاماً، وما لا يقل عن 40 سورياً آخرين.
بعد وفاة شقيقة محمد بفترة قصيرة، انتقلت أسرة كنو إلى صيدا، لكنه بقي يقيم ويعمل بالقرب من ميناء بيروت خمسة أيام في الأسبوع. وإلى جانب الصدمة، بدأت أسرة كنو تعاني بسبب غلاء الأدوية بصورة يومية، بما أن أفراد أسرته أصيبوا في انفجار بيروت وصاروا بحاجة للأدوية، وعن ذلك يحدثنا محمد فيقول: "لا خيار أمامي سوى أن أعمل، لأدفع ديوني، وأحاول السفر إلى الدول الغربية"، وهنا أخذ يحدق في الفراغ بينما أخذت ساقاه ترتعشان في أثناء جلوسه على كرسي بلاستيكي داخل المبنى الذي يعمل فيه ببيروت، ثم تابع قائلاً: "لم أفكر بالسفر وتسجيل اسمي كلاجئ إلا بعد الانفجار" (وذلك لأن تسجيل اسمه يؤهله لتقديم طلب لجوء ويزيد من فرصه في الرحيل عن تلك البلاد).
بالرغم من أن محمداً لم يكن لاجئاً قبل الانفجار، إلا أنه كان ضحية لمعاداة السوريين بشكل كبير، رغم تحمله لذلك بسبب نمط حياته المريح وقتها. ولكن بعد الانفجار، شعر بما يحس به معظم اللاجئين منذ مدة طويلة، وهو أنه لا أمان في هذا البلد، إذ في يوم الانفجار، عانى محمد حتى وجد مشفى ليعالج أفراد أسرته الجرحى وذلك بسبب المعاملة التي تفضل اللبناني على السوري في ذلك البلد الذي يعاني بالأصل من نقص في الموارد.
بالرغم من أن اللاجئين السوريين لا يحصلون إلا على نزر يسير من الدعم من قبل الحكومة اللبنانية، إلا أن الفقراء من الشعب اللبناني في مختلف أرجاء البلاد يشتكون دوماً من حصول السوريين على مساعدات أكبر، ومن أنهم يعيشون بشكل أفضل من أبناء البلد، وذلك لأنهم يتقاضون مبالغ بالدولار من قبل المنظمات الدولية، وعلى رأسها المفوضية العليا للاجئين. ولكن منذ التدهور الاقتصادي في عام 2019، انقسم المجتمع اللبناني ما بين فئة نخبوية صغيرة تمتلك ثروات بالدولار، وغالبية تضم عامة الشعب تدفع بالليرة اللبنانية غير المستقرة، خاصة بعدما خسرت ما بين 80-90 من قيمتها خلال السنة الماضية ضمن تداولات وأسعار الصرف اليومية في السوق السوداء. إلا أنه بقي هنالك من يزعم أن السوريين يعيشون حياة أفضل من حياة فقراء اللبنانيين بالرغم من أن تلك المزاعم من الصعب أن يؤيدها أحد، بما أن المبالغ التي يتقاضاها اللاجئون بالكاد تكفي لسد نفقاتهم، ثم إن تلك المبالغ لا تعطى إلا بناء على عدة أمور، على رأسها عدد المنظمات الإنسانية التي قام اللاجئ بالتسجيل فيها، كما أن بعض المنظمات تقدم تلك المعونات بالليرة اللبنانية وليس بالدولار الأميركي.
السوريون واللبنانيون في المعاناة سواء
تستوي معاناة اللبنانيين الفقراء مع اللاجئين بكل جلاء في عرسال، تلك البلدة التي تقع على الحدود مع سوريا عند جبال القلمون، إذ عندما عبرنا نحو تلك المدينة بسيارة دفع رباعي تعود ملكيتها لإحدى المنظمات الإنسانية، ألقى الجندي الذي يقف عند حاجز التفتيش هناك دعابة قال فيها إنه يتمنى أن يكون سورياً حتى نساعده.
عبر كثير من اللاجئين جبال القلمون للوصول إلى لبنان مع بداية الحرب في سوريا، فأصبح عددهم أكبر من عدد المواطنين اللبنانيين الذين يعيشون بالقرب من الحدود (بات من المعروف أن تلك الجبال الوعرة قد تحولت إلى مقر للعديد من الثوار الإسلاميين السوريين، بينهم مقاتلون من تنظيم الدولة الذين دحروا عندما شن الجيشان السوري واللبناني إلى جانب حزب الله حملة عسكرية كبيرة ضدهم في عام 2017).
العائدون اللبنانيون
من بين الأعداد الغفيرة التي قطعت الحدود ثمة تجمع صغير للعائدين اللبنانيين، وهؤلاء لبنانيون على الورق فقط، إذ بعدما أمضوا جل حياتهم في سوريا، عاد هؤلاء المواطنون اللبنانيون برفقة اللاجئين السوريين عندما اندلعت الحرب في سوريا في عام 2011، فأصبحوا يشعرون بأنهم لاجئون في بلدهم الأم، إذ لم يعد بمقدورهم دفع إيجار السكن، ولهذا نصب بعضهم خياماً خارج المباني المخالفة التي يعيش فيها السوريون والتي توزعت على نواح مختلفة ضمن تلك المنطقة.
يخبرنا هؤلاء أن هنالك ما لا يقل عن ألفي أسرة لبنانية عائدة تعيش في ظل تلك الظروف نفسها، كما ذكروا لنا أن المجلس النرويجي لللاجئين هو المنظمة الإنسانية الوحيدة التي تستقبل شكواهم، وتزودهم بالحطب وبأغطية بلاستيكية ليقيموا بها خيامهم. إلا أن عددهم مايزال غير معروف، ولكن في عام 2015، سجلت المنظمات الإنسانية أكثر من 28 ألف عائد لبناني.
عندما سألنا أسرة لبنانية مكونة من 13 فرداً انتقلت مؤخراً إلى خيمة إن كانوا يشعرون بأنفسهم كمواطنين لبنانيين أم لا، نظرت إلينا الأم، واسمها عزيزة فارس، وردت بتهكم: "أهكذا يعيش اللبنانيون؟!" وهي تشير إلى الخيمة التي تفتقر لكل شيء، حيث وضع فيها موقد صدئ صغير متصل بعبوة غاز فوق أرضية خرسانية عارية، ووضع فوق هذا الموقد إبريق شاي، ولا توجد مغسلة في تلك الخيمة. إذ بخلاف السوريين، لا يحصل العائدون اللبنانيون على أي معونة من قبل المفوضية العليا للاجئين وذلك بسبب جوازات سفرهم اللبنانية. وبالمقابل، لا توليهم البلديات اللبنانية أي أولوية لأنهم بنظرهم جزء من جالية اللاجئين، ولهذا لا يعترف بهم إلا من خلال الوعود والرشى التي يقدمها بعض السياسيين الذين ينتمون للأحزاب التقليدية وقت الانتخابات، نظراً لأنهم بوسعهم أن يدلوا بأصواتهم.
شرح لنا زوج عزيزة وهو أيضاً عائد لبناني اسمه أحمد فارس، يعمل في مقلع للحجارة على الرغم من خضوعه لعملية القلب المفتوح منذ فترة قريبة، أنه هو وزوجته صوّتا في عام 2018 لصالح المرشح السني بكر الحجيري الذي تحالف حينذاك مع رئيس الوزراء آنذاك سعد الحريري، فوعد الحجيري بمساعدة الأسرة في العثور على شقيق فارس الذي اعتقل بشكل عشوائي في سوريا في مطلع الحرب، ولم يعرف مكانه منذ ذلك الحين حتى بعد مرور عقد على الحادثة تقريباً.
ويعلق أحمد على ذلك بقوله: " بما أنهم لم يساعدونا على الإطلاق في المرة السابقة فلمَ ينبغي علينا أن ندلي بأصواتنا في هذه السنة؟".
المصدر: فورين بوليسي